أبحاث ودراسات

في تأويل بلاغة التعليم: من الكهف الأفلاطوني إلى الحجاج السفسطائي

في تأويل بلاغة التعليم: من الكهف الافلاطوني إلى الحجاج السفسطائي

لم يعد في الإمكان البحث في العلاقة بين الفلسفة والبلاغة اليوم، دون أن يكون هناك، وبشكل متلازم، بحثا وتنقيبا في صيرورة المعنى وتحولاته الدلالية بواسطة مناهج علوم اللسانيات وفلسفة اللغة ونظريات منطق الحجاج البلاغي والتواصل. وهذا ما عرضته المحاورات الأفلاطونية عندما تصدت إلى موضوعات اللغة والمعنى وقواعد النحو  وعلاقتها بعملية إنتاج الأحكام القيمية عند الإنسان، من خلال نقاشات سقراط مع الجيل الأول من السفسطائيين مع بدايات نهوض نظام التربية والتعليم في بلاد اليونان. وقد كان البحث عن انموذج تربوي وتعليمي جديد هو احد أهم القضايا التي اختلف حولها الفلاسفة وعلماء البلاغة فيما بينهم، خصوصا حول الأدوار المعهودة للفلسفة بوصفها حب الحكمة المتلازم مع البحث عن الحقيقة المثالية المطلقة؛ وللبلاغة التي تعنى بدارسة تقنيات الحجاج الخطابية والمؤثرة في الجمهور المخاطَب وبالطريقة التي يتحقق فيها تحولا على مستوى اللغة أي الثقافة بشكل عام. فهل يعهد للفيلسوف أم لعالم البلاغة مهمة التعليم وبناء انموذج في التربية والثقافة ؟ هل تعود مسؤولية تشكيل الإنسان بوصفه مواطنا سياسيا إلى أفلاطون وسقراط أم إلى غورجياس وبروتاجوارس ؟ رغم توافق الاثنان على أن الخطاب logos هو دعامة بناء مدينة polis سياسية/مدنية، إلا أنهم اختلفوا حول تحديد انموذج وآليات نظام التربية والتعليم في أثينا آنذاك(1).

 

أشار  المؤرخ الألماني فرنر ياغر W. Jaeger في كتابه الشهير بايديا Paideia، أنه فيما ((ابتكرت الأمم الأخرى الآلهة والملوك والجواهر الروحية، عمل الإغريق وحدهم على مفهوم تشكيل الإنسان))(2). وقد  كان الأنموذج المثالي الحتمي Modèle Idéal Déterminant مسيطرا إلى حد كبير آنذاك على مفهوم البايديا Paideia παιδεία بوصفه النظام الثقافي الكلي Système culturel totalisant. وكان أفلاطون من اشد المتحمسين له ولعملية ترسيخه بقوة. ويشير إلى نظام التربية والتعليم الارستقراطي السائد في عموم أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد لا سيما في المدارس الخاصة التي تقتصر آنذاك على طبقة النبلاء. فقد كان الانتماء إلى الدم النبيل لوحده كفيلا بأن ينقل فضائل البايديا التربوية والتعليمية من الأجداد والأباء إلى الأبناء، وبذلك فهي تتوارث بالولادة.

 

وقد طبقت المدارس الأفلاطونية ذلك النظام، حيث يتعلم الفرد مختلف العلوم التي تمكنه من الوصول إلى معرفة الحقائق العليا وتحقيق أعلى درجات الفضيلة l’areté المثالية والمكتسبة من خلال دراسة علوم المنطق ألبرهاني والرياضيات والفلك والموسيقى وفنون الجمناستيك البدنية حيث يتحقق من خلاله مثال الجمال في مقدار ما يظهره شكل الجسد الخارجي من هارمونية ورشاقة تعكس قيمته Valeur=هويته Identité =قوميته Nationalité اليونانية المثالية وبفضلها سينظر إليه الناس باحترام كبير للغاية(3).

 

-الكتابة وبيداغوجيا السرد الفلسفي

مع امتداد عملية إرساء ديمقراطية الكتابة بواسطة الكتابة نفسها démocratisation de et par l’écriture في اليونان القديمة والتي لم تعد فيها الكتابة امتيازا يخص طائفة بعينها، أو سرا تحتكره فقط طبقة الكَتَبَة العاملين في قصر الملك. بل أصبحت شيئاً مشتركاً بين الجميع، وصار من الضروري معها كتابة قوانين المدينة السياسية(4). اشتد دفاع أفلاطون عن نظامه المثالي القائم على استعادة مبادئ Principes الماضي من خلال تمجيد وتفخيم التقليد tradition المُعاد تطهيره على الدوام وذلك من خلال النهجين التاليين:

 

الأول- الإطار السردي:

 وفيه اخترع الأساطير mythes لتحقيق غايات عديدة من بينها تفعيل مبادئ الأجداد وتجديد الولاء والاحترام المطلق لها. وكان قد أشار أفلاطون في كتابه السياسة إلى انه من الخطأ الكبير الشك في تقاليد أجدادنا الأوائل الأكثر قربا من الآلهة ومن مصادر المعنى المعبرة عن ذلك النسيج الهائل من المبادئ المطلقة التي تعرِف بدقة وصرامة الجدل ألبرهاني ما ينبغي على الإنسان أن يفعله تحديدا. فكانت الميثولوجيا الأفلاطونية ذلك الكذب النبيل  noble mensonge -حسب وصفه على لسان سقراط- الذي يؤطر خطابه ويتجه من خلاله في المقام الأول إلى عامة الناس من البسطاء محاولا التغلغل إلى متخيلهم وصرفهم عن التفكير تماما(5). لما يوفره ذلك الخطاب السردي المتداول من رأسمال كلامي لامتناه من الاستلاب والخضوع يجتره العقل دون وعي وإدراك في ممارساته اللغوية/والاجتماعية اليومية. ((لا سيما وان هناك الكثير ممن وصفهم أفلاطون بالحمقى في مدينته المثالية الذين لن يمكنهم برأيه أن يكونوا فلاسفة. لذلك، علينا أن نترك لهم شيئا من السعادة في الاعتقاد بعظمة ومجد الكينونة l’Être الذي لا يمكنهم الشعور به دون الكلام وتداول خطابه الميثولوجي السردي والاستسلام لنهجه الوعظي. من هنا، فرض أفلاطون سيطرة الجدل dialectique ألبرهاني على بلاغة خطابه الميثولوجي بطريقة صارمة للغاية، ليتمكن فيها من التحكم بعالم الصيرورة الحسي غير العقلاني وبالآراء والاعتقادات doxa. وهذا ما اتضح مثلا في الحقيقة التي تضمنت عليها أسطورة المعادن والقائلة أن الفيلسوف لا يحرر البشر المنضوين تحت مقولات الفضة والحديد، وإنما كل ما يفعله لهم، هو استبدال الكهف بآخر غيره، فمن كهف أقل ظلمة إلى كهف على اية حال. لان النور لا يكون صالحاً إلا لفئة معينة من الناس. فكم كان الفيلسوف كانط مخطئا عندما قال أن جمهورية أفلاطون تعبر عن المثال الأعلى في الحرية الإنسانية))(6).

 

 

الثاني- الإطار التربوي:

شيّد أفلاطون نظامه التعليمي في المدارس اليونانية على مبدأ المحاكاة mimésis لمجموعة الصور/القوالب اللغوية المنحدرة عن تاريخ السلف العظيم.  يجري إخضاع الطفل فيه منذ العاشرة وحتى الثالثة عشر لبرنامج تعليمي صارم، وذلك لأنه سن صغير قابل للتقويم أو للترويض مثل الكلاب الجيدة على حد تعبير أفلاطون(7).  حيث يكون من السهل جدا نحت تلك الصور images في ذاكرة الطفل ذات الطبيعة البلاستيكية plasticité القابلة بمرونة تامة للصياغة بواسطة الطريقة الإملائية الوصفية في تدريس حروف الكتابة وتعليم القراءة وقواعد النحو الشكلانية Formale، وتقع على كاهل المعلم عملية تلقين تلك القواعد للتلاميذ لتحقيق أعلى درجات الانضباط في كتابة الكلمات correction في شكل جمل لغوية مصطفة صفا بطريقة صحيحة تامة justesse حسب القواعد النحوية الصادقة سلفا وغير القابلة للنقاش والتعديل، لكونها تعبر عن لغة مثالية ومعانٍ مطلقة لا يحيد فيها الدالّ signifié عن المدلول signifiant مهما تغيرت أو اختلفت ظروف وسياقات استعمالات usages الأخير، وذلك يعود ببساطة إلى أن المعنى المثالي واحد؛ والعلامة Signe المثالية واحدة؛ والمرجع Réference المثالي واحد، فالنزعة الأحادية Monisme هي الغالبة في مدارس أفلاطون في النحو الشكلاني.

 

ومثلما كان الجدل ألبرهاني مسيطرا على بلاغة الخطاب الميثولوجي، اخضع أفلاطون جميع مدارس النحو المنتشرة في أثينا، لسيطرة فيلسوف الجدل ألبرهاني Dialecticien لضمان عدم خرق قوانين ذلك البرنامج التعليمي. فهو المشرع législateur الأوحد لقواعد النحو وأشكال اللغة وصانع الكلام ومؤسس الكلمات Onomaturge (8). وذلك لانه لا يبني الاسم Nom إلا على أساس معرفته الكلية بطبيعة الشكل Forme أو القالب المثالي La Matrice Idéale للشيء، بهذه الطريقة، كان الاسم مسبوقا بمعيار بديهي/أو طبيعي Naturelle من الصدق اليقيني على حد تعبير جوليا  كريستيفيا(9).

 

 وحسب مبادئ  فيلسوف الجدل يتأسس المعيار الأوحد standard في قياس أداء ذلك المعلم على مدى إجادة هذا الأخير لعملية تلقين الطالب وتحويله إلى مجرد حافظ ومردد للنص نفسه وبطريقة حرفية. أي أن ما يتميز به المعلم من تقنية technè أو ابستيم معرفي épistéme إنما يكمن في إعادة إنتاج أساليب الكتابة التقليدية Modèles Traditionnels نفسها. لان وظيفته لا تقتصر على تعليم تقنيات الجدل الرياضي فحسب بل تمتد إلى ما هو أهم من ذلك بكثير، ألا وهو تحويل تلك التقنيات بواسطة قواعد النحو إلى أشكال لغوية ونحتها في ذاكرة الطالب مثلما ينحت معها معايير الأخلاق على جسد الطالب أيضا(10). بعبارة أخرى، أن سعي أفلاطون في السيطرة على نظام التعليم لم يكن لإغراض تربوية بقدر ما كان يرمي إلى فرض أشكال لغوية تحدد ما ينبغي أن تكون عليه صورة الشخصية personnage  اليونانية كأي شخصية من الشخصيات الميثولوجية بوصفها اثر  ناتج عن خطاب اللغة المهيمنة(11).

 

-هيمنة الخطاب الشكلاني وأيديولوجيا النحو الافلاطوني

تتضح تلك الأبعاد الأيديولوجية للنظام في التربية والتعليم من خلال جمهورية أفلاطون المثالية وقوانينها وخطابها القائم أساسا على صناعة خطاب منتظم كلي توتاليتاري في عموم أثينا وخارجها، تهيمن فيه الطبقات السياسية والارستقراطية المسيطرة على عملية تشريعه، ويتمكنون بواسطة أجهزة السيطرة من الموظفين أي فلاسفة الجدل ألبرهاني من مراقبة عمل المؤسسات التعليمية.  وهنا، سيتحول الإنسان إلى أداة طيعة خاضعة تُعيد إنتاج الخطاب السائد والمهيمن في ممارساتها الاجتماعية. ولتتحول عامة الناس إلى مجرد حشود ينضبط فيها كل جسد/ولسان ويصبح الجميع خاضع عبر الكلام/الخطاب المتداول يوميا إلى سلطة التقليد وحقائقه الخادمة لمنافع الطبقة الحاكمة. لان الهيمنة قبل أن تشير لدى أفلاطون ((إلى الرفعة والسمو، هي جزء لا يتجزأ من الكينونة واللسان/والخطاب. أي كان ينبغي لها أن تكون هي القوة المؤثرة في العقل والتفكير؛ والقادرة على إدراك الأشياء مثلما هي عليه في البناء اللغوي والذهني؛ أي بوصفها مجموعة من الأسماء والصفات والضمائر والأفعال أي الكلمات التي تشكل الجمل والعبارات اللغوية. بعبارة أخرى، تصبح الهيمنة هي قوة الحواس المنضبطة في الاستجابة للأشياء ورد الفعل السريع في نطق القول/إنتاج المبادئ والوصول إلى إعادة إنتاج الخطاب ونزعته نحو الكلية أيضا. لِتكون تلك المبادئ بطابعها الكلي هي المبدأ الحيّ  arché vivantوالآمر commandement الأول للعقل بوصفه النظام القيادي لمجمل عمليات الإدراك والإحساس والشعور وضبط حركة الجسد بما يُبقي الرأس مرفوعا متجها نحو السماء لتلقي الأوامر وتطبيق المبادئ العليا. والأصل اليوناني لكلمة هيمنة hègémôn يشير إلى ذلك الكائن الذي يمضي إلى الإمام  مرفوع الرأس))(12).

 

 وذلك تحديدا ما سعى إلى تحقيقه نظام البايديا الافلاطوني في التعليم عبر آليات استنساخ النماذج اللغوية المشيدة مسبقا؛ واختزال مهمة المعلم على إيداع وحشو ذاكرة mnèmè الطالب بأكبر عدد ممكن من المبادئ المطلقة/دوالّ تُذكِر ودالاّت تؤِنث –ترفع من مقام الفاعل أو تحط من إعرابه/قيمته– وإعادة إنتاجها في صور وأشكال استعارية/مدلولات لغوية يمكن لها أن تتحول مع كل اختلاف يمكن له أن يحصل في سياق استعمالها اللاحق دون أن يؤدي ذلك إلى وقوع أي تغيير ملحوظ في محتواها اللغوي. وذلك لمحافظتها على شروط الامتثال والتطابق التام مع نظرية أشكال الكلمات les Formes des mots التي عرضها أفلاطون في محاورة “كرايتل” والتي أسست  لعلاقة لغوية ومنطقية تراتبية وهرمية صارمة تفترض تبعية الحامل/المسند Sujet، للمحمول/المسند إليه Prédicat من الأسماء والصفات والضمائر وجميع الملحقات اللغوية المنحدرة عن رتبة ومقام ومنزلة الفاعل المرتبطة جميعها بافتراض ثبات جواهر الموجودات Essences des êtres على مستوى الفكر، رغم صيرورة الاختلاف في عالم الأشياء. وهذا الافتراض نفسه– حسب رأي احد أهم شراح أرسطو الفيلسوف الفرنسي بيير اوبينك- هو الذي سيشكل الأساس في وحدة المعنى l’unicité du sens، فلأن للأشياء جوهراً يكون للكلمات معنى(13).

 

-في الكتابة وعلم الجدل والسياسة اللسانية

فمع بقاء الشك والريبة لديه تجاه الكتابة بعدما خرجت عن حلقاتها الفلسفية النخبوية وأصبحت متاحة للعامة الذين لن يمكنهم أن يكونوا بمستوى من الوعي المتكامل لأدراك جواهر  حقائقها حسب رأي أفلاطون. نجده لم يكتفِ بإخضاع خطابه الأسطوري والبلاغي ونظامه التعليمي لسلطة الجدل ألبرهاني، بل –كما أشار الفيلسوف جاك دريدا- قد ((اخضع أيضا علم نحو اللغة إلى سيطرة علم الجدل، على الرغم من تأكيد أفلاطون على وجود إختلاف واضح بينهما. حيث يتميز علم الجدل عن علم النحو بسمتين: أن الوحدات اللسانية التي يستحوذ عليها هي اكبر بكثير من الكلمة mot (محاورة كرايتل 385 a-393 d). ومن جانب آخر، أن ما يقوده على الدوام هو نزوعه ألقصدي نحو الحقيقة، وهو نزوع لا يشبعه سوى فعل القول/حضور شكل الفكرة l’eidos المثالي الذي يحيل إلى الدالّ والمدلول في آن واحد، أي إلى الشيء نفسه. هذا يعني، أن ما يجعل التمييز بين علم نحو اللغة والجدل مؤسساً بدقة وصرامة، هو الموضع اللغوي الذي تكون فيه الحقيقة حضور يملأ اللوغوس/الخطاب. …. فلا يكون الخطاب صحيحاً أو خاطئاً، دون شرط توفر مبدأ التشكّلية الحركية والصوتية/الدلالية diacritique الناتج عن برادايم نسج الرباط المتشابك sumplokè بين الاسم nom والفعل verbe. فإذا كانت الحقيقة هي حضور الفكرة l’eidos، فيجب أن تكون مركبة على الدوام))(14).

 

وفي ذلك البرادايم النُّسجيَّ يرتبط الاسم بالفعل بواسطة ((التركيب syntaxe والتأليف synthèse اللذان يمثلان -حسب أفلاطون وأرسطو- الشرط الضروري لتأسيس الاختلاف بين الخطأ والصواب أي لتمييز قيّم الحقيقة valeurs de vérité))(15). وبذلك يصبح -حسب رأي الفيلسوفة الفرنسية المختصة في السفسطائية والبلاغة باربارا كاسان- أن ((تعني شيئاً ما، فأنت لا تشير إلى كينونة ذلك الشيء، وإنما تعني شيئاً فريداً ومتطابقاً تطابقاً عرفياً  convention مع التقليد بالنسبة لك وللآخر في الوقت نفسه. فمنذ اللحظة التي تتكلم فيها، يجري إثبات وتفعيل مبدأ عدم التناقض non-contradiction في آن واحد، لطالما كان من المستحيل للكلمة نفسها أن تشير ولا تشير إلى المعنى نفسه في وقت واحد. فلأن لكل كلمة معنى معين، فهي تجسيد لمبدأ incarnation du principe))(16).

    

وهكذا احكم أفلاطون المشرع، وأرسطو من بعده، على اللغة اليونانية بقبضته الشكلانية التي تسعى إلى عقد مطابقة كلية بين الكلام Parole والفكر ؛ بين قواعد اللغة وقواعد التفكير، لتكون كل كلمة، وكل جملة،  أي كل كلمة داخل كل جملة لغوية عقلانية الشكل والموضع الذي تشغله. ليجري عملية نحت وتشكيل نماذج الصور/العلامات اللغوية الأفلاطونية من المبادئ والحقائق المطلقة في ذاكرة الإنسان منذ المراحل المبكرة من العمر. ومن ناحية أخرى، يتطلب التنظيم المنطقي أن يكون التعبير اللغوي أكثر إحكاما وأناقة في الأسلوب. وليقضي بذلك على تاريخية اللغة وصيرورة تحولاتها النحوية المتلازمة مع السياق الثقافي(17)، سعيا منه للبحث عن الكمال Perfection وترسيخا لحقائق اللغة المهيمنة.

 

-لوغوس السلطة وسلطة اللوغوس… ميتافيزيقا الجسد المطواع

اقتصر دور الطالب في النظام التربوي والتعليمي الأفلاطوني على الاستقبال غير الفعّال البتة، فغير مسموح بالسؤال والنقاش، بل ينبغي عليه أن يكتفي بالحفظ والتذكر. وقاعدة أفلاطون السحرية الشهيرة تقول أن “المعرفة تذكر” Règle de la Réminiscence لجميع الحقائق والجواهر المثالية المطلقة المتضمنة في تراكيب النحو الشكلانية القائمة في أقسام الكلام لتشكل تمهيدا في بناء وتثبيت صورِ مفاهيمه الفلسفية المتضمنة في نظريات الأشكال والمثل وثنائيات الروح والجسد والجوهر والمظهر والحقيقة والزيف والعقل والانفعال والشعور وعالم المثل والعالم الحسي. ولكي تتحول بعدها إلى مقولات ومبادئ مجردة يجري القياس عليها في تحديد الأشياء وتعريفها والحكم عليها وفق قيم الفضيلة والحق والصدق؛ الرذيلة والباطل والكذب، والتي مهدت جميعها فيما بعد لتأسيس مبادئ الثواب والعقاب في الميثولوجيا المسيحية حسب حنا ارندنت.

 

وكان هايدغر واحدا من الفلاسفة الألمانيين ممن توجهوا بالنقد تجاه الأنموذج الثقافي لبلدهم في التربية والتعليم البيلدونغ Bildung   الذي أصبح مرادفا كليا لمفهوم البايديا الافلاطوني التقليدي القائم على التراكم غير النافع والمجدي للمعارف إضافة إلى الساعات الطويلة والمضجرة التي يقضيها التلميذ في حفظ وإعادة ترتيل النصوص دون جدوى. فالهدف من فرض واجب الترديد والتكرار répétition  لتلك النصوص على التلميذ لا يقتصر -حسب هايدغر- على فعل المعلم المحدد في طباعة الشيء بعلامة دلالية وما سيتركه ذلك الفعل من تأثير على تطور المعنى نفسه فيما بعد. وإنما تكمن خطورته عندما يجري استبعاد المعنى الآخر لمفهوم البيلدونغ بوصفها دليلا يمكن له أن يقود الفرد، ويتطابق شيئا فشيئا مع الفعل التربوي  في التعليم informer = بفعل ختم وطباعة imprimer الشيء بمعنى/أو علامة بالمقدار = فرض تطابق conformer الشيء مع تلك العلامة الحتمية. ليصبح مفهوم البيلدونغ   مماثلا لأنموذج modèle مسبق يتألف من مجموعة من العلامات والرموز اللغوية التي تقود وتوجه التلميذ ليس في المدرسة فحسب بل طوال حياته. لكننا لا يمكن أن نعد هذا النظام التعليمي فاعلا في عملية تشكيل الفرد، وذلك لأنه خاضع للمبدأ الافلاطوني في الحقيقة والجوهر وفيه تنغلق الكينونة على مجموعة من الأفكار المطلقة، ولا يمكنها أن تكون صيرورة انكشاف dévoilement على تاريخ خطابها ومفاهيمها واستعاراتها الميتة/الحيّة(18).

 

وكان قد جاء بارت على توضيح أبعاد العلاقة بين آليات التلقين الإملائي في الحفظ والتكرار وبين هيمنة الخطاب الأيديولوجي السائد: ((اللغة سلطوية (الخطاب المنتج والمتداول تحت حماية السلطة الحاكمة) هي لغة ترديد وتكرار منتظم وفقا للنظام المؤسساتي السائد والذي تصبح فيه جميع المؤسسات الرسمية الناطقة بهذه اللغة مجرد ماكينات للترديد: من المدرسة والرياضة والإعلانات والأغاني والأخبار. فجميعها تعيد قول/تجدد عهد الولاء للمعنى نفسه وللبنية نفسها يوميا، وكثيرا ما يكون إعادة ترديد للكلمات نفسها. وهذا ما يجعل من التصورات المسبقة واقع سياسي بامتياز، بل ورمز كبير للايديولوجيا))(19).

 

-سلطة المتخيل الافلاطوني النحوي في اللسانيات الغربية

 إذا كانت البايديا الأفلاطونية تقوم على علم النحو المعياري Normative وليس التاريخي historique. فلا يتكلم احدنا إلا وتكون معنى كل كلمة هي نسخة copie من انموذج أولي ومثالي Prototype يجري المماثلة analogie والقياس عليه حسب تعبير الفيلسوف دولوز. يعني ذلك، أن نظام اللغة الحتمي الدلالة الافلاطو-أرسطي إنما تنبني العلاقة القسرية فيه من خلال الارتباط ألمفاهيمي الجبري بين الكلمة ومعناها؛ بين الدال والمدلول ليتم الأحكام والسيطرة على ماهو نسبي في صيرورة التحولات والمتغيرات للعالم المادي في نظام لغوي منطقي منغلق على مقولة الهوية Identité = اللغة اليونانية المحضة لا يمكن أن تشوبها أي شائبة لطالما بقيت بمنأى عن التأثر والاختلاط مع لغات/أو ثقافات أخرى. فلا تنتج بنية تلك البايديا التقليدية سوى حالة من التطابق القومي identification nationale على حد تعبير بارت(20).

 

ولقد كان لعلم النحو الافلاطوني تأثيرا على علوم اللسانيات خاصة، والفكر الأوروبي عامة، حيث ترى كريستفيا أن ((الهوة اتسعت كثيراً بين الواقع واللغة بوساطة نظام الهجاء والنظرية الصوتية الأفلاطونية والمابعد أفلاطونية، إضافة إلى اقتصار وظيفة قواعد النحو على فن الكتابة بطريقة جيدة؛ وتحديد علم اللغة بوصفه نظاما شكلانيا système formel))(21). أي أن اللغة الرسمية langage باعتبارها مجموعة من العلامات الشكلانية signes formels المتألفة من قواعد النحو والصرف والتي تمثل أنظمة وأبنية لغوية systèmes, structures))(22)، متضمنة في بنية اللهجات العادية أي اللسان اللغوي المتداول langue، أخذت تعمل –حسب بارت- على ((تحديد  المتخيل اللغوي، فالكلمة تشكل وحدة كلية منفردة/مكتفية بمعناها، أشبه بالموناد السحري؛ والكلام أشبه بأداة أو تعبير عن التفكير؛ والكتابة نقل حرفي translitération  للكلام؛ والجملة phrase  أشبه بالمقياس المنطقي المنغلق على معناه الكلي فحسب ))(23).

 

بمعنى آخر، أن اللغة التي أصبحت مع أفلاطون مماثلة ((للواجب Obligation والقانون Loi في آن واحد، والمفروض على المجتمع الخضوع له وطاعته. أما الاسم le nom فقد أصبح يشير إلى: قانون، وعادة coutume، واستعمال usage على حد سواء))(24). هي نفسها الأداة التي ((عزلت اللغة عن الواقع بوصفها شيئا منفصلا عنه، بل وأصبح الدال نفسه منعزلا عن المدلول، بل وموجود قبله ومتميز عن المرجع اللغوي وكأنه نسيه. لأنه امتد إلى ذلك المجال المهيمن والمفضل: مجال الفكرة المثالية. ابتكار الكلمات إذن يقوم على إيجاد القشرة/الغلاف الصوتي لتلك الفكرة “الموجودة مسبقا في الماقبل”. وحينها، صارت اللغة مجرد دوال تشير إلى التنظيم بطريقة منطقية ونحوية فحسب))(25). وهذا ما دعا المؤرخ الفرنسي هنري جولي احد كبار المختصين بأفلاطون إلى القول ((أن علم النحو الافلاطوني ساهم بشكل كبير في إنتاج إعاقة لسانية blocage linguistique))(26).

 

-البايديا الأفلاطونية أنموذجا للبيلدونغ الألماني**

حسب موسوعة المصطلحات الأوروبية للفلسفات، تشير كلمة البيلدونغ Bildung  إلى الثقافة culture؛ التربية والتعليم éducation؛ عملية التشكل اللغوي/العقلي،الإدراكي/الجسدي/الثقافي formation والتي تتلازم مع فعل التحرر من الأحكام المسبقة préjugés الناتجة عن ثبات القوالب اللغوية وطغيان معانيها ورؤيتها حول الذات والآخر والعالم، لذلك تشير كلمة البيلدونغ إلى مفهوم البراكسيس praxis والطابع التاريخي الوثيق الصلة بجميع أبنية علوم النحو واللغة والمنطق والفلسفة والعلوم الإنسانية التي تؤثر في مجملها على فعل المنتج اللغوي/المتكلم/والمخاطَب أي في إعادة تشكيل الخطابات الثقافية على اختلاف سياقاتها التاريخية(27).

 

 وما أن اخذ هذا المفهوم بالاتساع في أرجاء أوروبا منذ عصر الأنوار، حتى طغى عليه الأنموذج الافلاطوني التقليدي في البايديا. وقد أشار  إلى ذلك المؤرخ الألماني فرنر ياغر: ((تشير الكلمة الألمانية بيلدونغ Bildung  بوضوح تام إلى طبيعة نظام التربية والتعليم بالمعنى الافلاطوني تحديدا. إذ أن كليهما يوحي في الوقت نفسه إلى طبيعة ذلك المركب البلاستيكي القابل للتشكل من قبل الفنان والى الأنموذج الأساسي والحاضر في العقل على الدوام. أي إلى الفكرة idée أو شكل الصورة typos)) (28).

 

 وفي سياقها الألماني، وصلت البيلدونغ إلى أعلى مستويات التطابق القومي للبايديا الأفلاطونية، ((عندما جعلت من تمركزها في مجال متميز كمجال اللغة، أداة لتحقيق برنامجاً ثقافياً انضباطياً متكاملا يغلق جميع منافذ التواصل أمام كل محاولة خارجية للتسلل إلى داخل الهوية الألمانية))(29). ومنذ بدايات القرن التاسع عشر، اتخذت البيلدونغ  ((طابعاً مؤسساتياً يفرض حالة من الالتصاق الاجتماعي الكلي على حساب الحريات الفردية، بعدما تحولت إلى مجموعة من الاستراتيجيات الاجتماعية stratégies sociales لا سيما في المؤسسات التربوية والتعليمية تقوم بوظيفة التشريع لسلطة الدولة l’État الألمانية))(30).

 

 وهكذا اقتصر مفهوم البيلدونغ على التعبير عن كينونة المعاني العُرفية الطبيعية قاعدة بناء دولة القوميات وهيراركية اللغات والهويات، وقد توضح ذلك في صعود النازية والفاشية والحروب الدموية والصراعات التي خلفتها آنذاك في أرجاء قارة أوروبا. وكان ذلك بتأثير واضح للبرادايم الثقافي الكلي اليوناني التقليدي/البايديا المسيطر على الفكر الأوروبي إلى درجة كبيرة، حتى أصبح فيها –حسب تعبير الكاتب ميشيل إسباين M. Espagne(( يمثل انموذجاً قيمياً سمح من جانبه في بناء أنظمة ثقافية قومية في أنحاء أوروبا)) (31). وقد أشار هايدغر أيضا إلى ذلك ((المعنى الخاطئ الذي راحت ضحيته الكلمة الألمانية بيلدونغ  في نهاية القرن التاسع عشر، مؤكداً على ضرورة إعادة قيمتها الدلالية الأصيلة)) (32).

 

-البايديا الحجاجية السفسطائية: تفكيك البلاغة الأفلاطونية

أن تحقق المعنى الدلالي الأصيل valeur sémantique originelle لمفهوم البايديا، لم يكن له أن يحصل لولا برادايم الآخر المغاير في نظرية الحجاج البلاغي التي دشنها الجيل الأول من الفلاسفة السفسطائيين أمثال بروتاغوراس وغورجياس وهيباس في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث سعوا فيها إلى الانعتاق بالكينونة être وفكها من حالة الالتصاق  الكلية مع جوهر اللوغوس المتطابق مع صوره/مقولاته اللغوية.  تلازم معها عملية دحض الطابع التقديسي والميثولوجي Désacralisation, dé-théologisation الناتج عن النزعات العُرفية اليقينية والطبيعية الأفلاطونية في أصل المعنى(33). لتكون ((كينونة الانطولوجيا هي اثر من آثار القول/ والكلام effet de dire. والخطاب discours هو الحاكم المهيمن الذي يقترح على كل واحد منا عالمَاً خاصاً يعتقد به))(34). وليصبح المعنى منتج بواسطة قوانين التشريع القانوني للمدينة اليونانية.

 

 بعبارة أخرى، أن البرادايم السفسطائي جعل –كما تقول باربارا كاسان- : ((من الكينونة واقعة/ومنتجاً للقول fait de dit. وهذا يعني ببساطة شديدة انه لا يمكن أن يكون هناك أي وجود ماقبل الخطاب prédiscursive. فواقع الأشياء إنما يتأسس ويتعين ضمن خطاب معين))(35). وبذلك، أعاد السفسطائيون الاعتبار إلى المخاطَب العادي والى قضايا حياته الخاصة والعامة pragama  وهمومه ومشاكله التي لطالما كانت فلسفة البلاغة الأفلاطونية بمنأى عنها بل وتتجنبها لأنها غير نخبوية ولا تستحق الالتفات ولا الاهتمام. وبعد أن كان الخطاب امتياز وشرف تحتكره طبقة معينة، أصبح حق من حقوق المواطن الأثيني التي ينبغي على الدولة أن توفر الشروط الملائمة لتعليمه له من خلال المؤسسات التربوية حيث يجب أن لا يكون فيها تعليم القراءة والكتابة متاح للجميع فحسب، بل ينبغي كذلك تدريس الأدب والشعر والفلسفة والبلاغة والقانون والمداولة السياسية، وهذه جميعا كانت تمثل دعامة المدارس السفسطائية(36).

 

وهكذا، تعرض مفهوم البايديا التقليدي إلى صدمة/تحول دلالي عميق حرر كينونة الفرد اليوناني من عبودية النظام الارستقراطي المثالي المنغلق على نحت صور مبادئ منطقه الحتمي ومعانيه الطبيعية القبلية؛ وعلى غايته في الوصول إلى أعلى درجات الكمال في الجمال. وبدل أن يقتصر نظام التعليم على تلقين مجموعة من المعلومات formations والمعارف المكتسبة عن طريق المدرسة، أصبحت تشير مع نظريات التربية والتعليم théories éducatives الجديدة لفلاسفة الحجاج البلاغي إلى نظام تربوي مدني يهدف إلى إعادة تشكيل formation الفرد لغويا/وسياسيا/وثقافيا. ونتيجة لذلك ((اختفت تقنية أفلاطون في التقليد l’imitation حالما أصبحت التشريعات القانونية هي مصدر إنتاج المعنى. أما داخل النظام التعليمي الذي وضعه بروتاجوراس فقد تراجع العمل بتلك التقنية إلى حد بعيد))(37).   

 

يكمن الطابع الراديكالي لنظام البايديا السفسطائي في التربية والتعليم، في إدراج السفسطائيون لعلوم البلاغة rhétorique والحجاج l’argumentation والجدل dialectique وقواعد النحو  في المدارس بوصفها علوما منهجية في مؤسسات التربية والتعليم، وقاعدة أساسية في التعليم الثقافي l’éducation culturelle من اجل تحرير اليوناني من سيطرة النظام الارستقراطي في التعليم وتأسيسهم لتعليم مدني  يقع خارج محددات العرق والدم والهوية والقومية(38). انه النظام التربوي الذي يعتمد منهج الحجاج البلاغي L’argumentation rhétorique في التعليم. والذي دشنوا معه لمناهج العلوم الإنسانية أيضا حسب تعبير موريس دوغونديلاك في ورقته المكرسة عن البايديا القديمة(39).

 

-الإعاقة اللسانية والفارماكون السفسطائي الجديد

وفي مواجهة الإعاقة اللسانية الأفلاطونية الناتجة عن سلطة مبادئ الحقيقة؛ الفكرة؛ الابستيم l’epistémé؛ الجدل ألبرهاني، جاءت علوم السفسطائيين المذكورة أعلاه، لتقدم “الفارماكون” علاج بلاغة اللغة اليونانية المتضخمة بمرض الكينونة المتعالية عن تحولات الواقع الأثيني آنذاك. فسعت إلى فك الالتحام الوثيق بين انطولوجيا الكينونة وبين الخطاب؛ بين المعنى والمرجع الدلالي المطلق، أي إلى إعادة سؤال مفهوم أحكام القيمة les jugements de valeur وبنيتها الأيديولوجية. وسؤال الكينونة هو سؤال لغوي وسياسي وأيديولوجي في المقام الأول، حيث ((وراء الفكرة الكلاسيكية للغة، هناك ثمة فكرة سياسية. أن كينونة اللغة أي فكرة كمالها بل واسمها كذلك، لهو مرتبط بتراكم سلطوي culmination de pouvoir. مثلما هو الحال في اللغة اللاتينية الكلاسيكية المعبرة عن السلطة اللاتينية أو الرومانية؛ وكذلك مع اللغة الفرنسية الكلاسيكية المعبرة عن التحزب للنزعة الملكية. لذلك –يقول بارت- أن علينا أن نعترف أن نظامنا التعليمي الفرنسي هو نظام يعزز اللغة البطريركية paternelle  المتوارثة))(40).

 

وفيما أكد أفلاطون على وجوب أبعاد النصوص الملتبسة المعنى وتجنب الآراء المختلفة والمتعددة، تأسيسا على مبدأ أن النصوص textes صامتة أما التعليقات والشروحات فمجرد ثرثرة لا جدوى منها(41). اشتغل السفسطائيون على دراسة نصوص الأدب من الشعر والفلسفة والتاريخ والقصص والحكايات والأسطورة وتحليلها نحويا = بوصفها معادلة لدراسة تقنيات صناعة معاني اللغة في الأخلاق والسياسة كما أوضح دوغونديلاك، حيث وجدوا ((أن الأدب، إلى جانب النحو والبلاغة والشعر ، تحتفظ جميعا بمكانة بارزة ومهمة للغاية، لا سيما في حقول النبلاء الخاصة بعلم معايير الأخلاق والميتافيزيقا. وإنها تحت يافطة كونها “مجرد نصوص أدبية”، نجدها تفرض سلطة autorité معينة، بل وتساهم في صناعتها أيضا. وذلك بما تحمله وتمرره من خبرات/معان لغوية معينة، لذلك، ينبغي علينا أن نسعى في المقام الأول إلى فهم معاني تلك النصوص))(42). وإلا فإنها ستتحول إلى كليشيهات تحمل نزعة إرهابية متداخلة في النصوص الأدبية terrorisme  كما وصفها بيرلمان في مصنفه في الحجاج، لتشكل فيما بعد قاعدة لمجمل ما نستعمله يومياً من افتراضات مسبقة présomptions(43). أي أنها  ستتحول في ذاتها إلى (( بنية ذهنية structure mentale تشتغل وفق حسابات/منافع/مشاريع أيديولوجية idéologique))(44).

 

وذلك ما دعا بارت إلى نقد طرق التدريس في فرنسا، حيث أشار ((إلى أن نظام قواعد النحو المتضمنة عليها النصوص الأدبية المعتمدة في التدريس، من شأنها أن تنتج/وتعيد إنتاج قوالب نمطية stéréotypées: باقتصارها على تصنيف الكتاب والحركات والمدارس الفكرية. وتُحرِف الدرس التعليمي عن البحث والدراسة في النصوص نفسها))(45). وستبقى الكينونة بمعزل عن التفكيك والنقد،وستزعم كل لغة خاصة بجماعة بشرية معينة أنها حاملة لمجمل المفاهيم والمبادئ المطلقة والأساسية في تفسير ووصف الأشياء، ((فكل فئة نخبوية أو طبقة اجتماعية تعرف جيدا كيف تقوم باستغلال الممارسات اللغوية، وقبل كل شيء استغلال الممارسات الخطابية من اجل تعزيز سلطتها وهيمنتها))(46).   وعند ذلك ستدعي أنها لغة متكاملة وأعلى من غيرها لكونها حاملة لحقائق ثابتة مكتفية بمعانيها.

أليست اغلب الصراعات الراهنة هي نتيجة لتلك الاعتقادات بأفضلية لغة على لغة أخرى في الوصول إلى الحقيقة المطلقة. ((فنحن مأخوذون جميعا بطابع الحقيقة/أو الحق الذي يميز لغاتنا أي في تعبيرها عن مناطقيتها régionalité، ومنجرّون إلى ذلك التناحر الهائل الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تصفية جيراننا. لان كل كلام/أو خطاب (وكل خيال fiction) أصبح يقاتل من اجل الهيمنة. وإذا انتصر على خصمه بفضل سلطته الأعلى فأنها لن تتوقف عند حدود ذلك، بل ستحاول الامتداد إلى كل جزء معتاد ويومي من الحياة الاجتماعية، أي ستتحول إلى مجموعة من الاعتقادات و الآراء العامة المقبولة والمتداولة والمتحكمة في عملية التواصل اليومي برمتها)) (47).

 

وهذا يعني تحديدا، أنه ينبغي على الأستاذ والمعلم أيضا ومعهم المؤسسة التعليمية والجامعية التحرر من الطريقة التلقينية والإملائية والنظر إلى النص ((ليس بوصفه موضوعا للتقديس.. وإنما وبشكل أساسي بوصفه فضاء من اللغة يسمح بمرور  أشكال لانهائية من الاستطراد والتحول الممكن في قراءة النص ليمكن له التألق والإشعاع بعدد جديد ومختلف من الشيفرات والرموز المعرفية المتضمن عليها والتي ما يزال ينبض بها…وهذا ما يستدعي أهمية القراءة التعددية لمعنى النص))(48). من هنا، ((يمكننا أن نفهم ذلك القانون القائل أن كل تحول transformation اجتماعي يتلازم معه تحول بلاغي بالقدر نفسه، وان كل تحول اجتماعي هو في واقع الأمر قفزة نوعية في البلاغة))(49).

 

بالطبع، أن مثل هذا التحول البلاغي لا يمكن له التحقق دون تقنيات فلسفة الحجاج البلاغي الذي يؤسس لمنظومات قيمية مختلفة وجديدة، تسعى إلى إعادة قراءة وتفكيك ((تلك القوالب النمطية والافتراضات المسبقة التي أصبحت هي القناة الراهنة حيث تنفذ عبرها مجمل الحقائق؛ وهي كذلك الملمح الملموس الذي تتحول بواسطته زخرفة بلاغية مبتكرة إلى ذلك الشكل الايقوني المطابق للشرع والعرف ألقسري الذي يتسم به الدالّ. (لذلك سيكون من الجيد أن نتخيل وجود علم لساني لن يقتصر على دراسة الكلمات وأصولها ولا حتى على كيفية تعميمها ونشرها من خلال المعاجم والقواميس. وإنما يتجه في البحث نحو مستويات التقدم الحاصلة في عملية تثبيت الاستعارات وكيفية استبدالها بالحقائق/المبادئ، ودرجات السُمك والكثافة التي أصابت تلك الاستعمالات البلاغية على امتداد الخطاب التاريخي. ذلك العلم سيكون، دون شك، أداة هامة في إحداث تحول وقلب خطير في الطبيعة البلاغية واللغوية لمفهوم الحقيقة، أكثر بكثير مما سيكشفه عن الأصل التاريخي لذلك المفهوم)) (50).  

 

أن فلسفة البلاغة السفسطائية عملت على كشف الطبقات الإسمنتية القارة في الأبنية اللغوية والنحوية والمنطقية لمجمل أدبيات الفلسفة والتاريخ والميثولوجيا والسوسيولوجيا وغيرها من العلوم المتغلغلة بقوة في متخيلنا اللغوي وتعيد إنتاج سلسلة الافتراضات المسبقة/الأحكام المطلقة، وتسعى في مجملها إلى سجن الكينونة وعقد اللسان وكبح الخيال الإنساني تحت مزاعم مبادئ المنطق ومقولاته الهيراركية وتصنيفاته التراتبية. بل وفضحت في الوقت نفسه سلطة اللغة ((المابعد-مؤسساتية المتجاوزة في تأثيرها وقوتها جميع المؤسسات الإنسانية الأخرى، أنها لعبة اللغة وصنع وتشريع المعنى))(51). ألا يدعونا ذلك إلى النظر إلى خطابات الفلسفة والبلاغة بوصفها نصوص فلسفية وبلاغية تحتاج إلى دراسة وبحث مشترك بين المختصين فيهما، إضافة إلى العلوم الإنسانية الأخرى في مؤسساتنا الأكاديمية؟ ألم يؤكد بارت ومنذ فترة طويلة، على ضرورة : ((قراءة البلاغة داخل اللعبة البنيوية لما يجاورها (نحويا ومنطقيا وشعريا وفلسفيا) حيث لا يمكن أن يكون للواحد منها معنىً تاريخياً دون الآخر)) (52).

  

الهوامش:

(1)Voir, Chaïm Perelman: Rhétorique et Philosophie, dans son livre Le Champ de L’argumentation, Presses Universitaires de Bruxelles, 1970, pp. 219-227.

 

(2)Werner Jaeger : Paideia… La Formation de L’Homme Grec, tome 1 – La Grèce Archaïque- Le Génie D’Athènes,  Tr. Fr. André Et Simonne Devyver, Éditions Gallimard, 1964, p. 21.

 

(3) حول مفهوم البايديا الافلاطوني والنظام الارستقراطي في التربية والتعليم، يُنظر الفصل الأول من كتاب ياغر:

Werner Jaeger : Paideia… La Formation de L’Homme Grec, Noblesse et areté, p. 29-41.

 

 (4)Voir, J. P. Vernant : Les Origines de la pensée grecque,  Paris, CNRS, collection « Mythes et religions, 1962, p. 43-44.

(5)Voir, Alexis Philonenko, Leçons Platoniciennes… Essai, Les belles lettres, Paris, p. 52, p. 53, p. 59, p. 61, p. 67.

 (6) Ibid., p. 69.

(7) Werner Jaeger, op. cit., p. 30.

(8) Voir, Henri Joly : Platon entre le Maître D’école et le Fabriquant de Mots … Remarques sur les ‘’Grammata ’’  dans le livre « du Langage et Grammaire dans L’Antiquité », Editions OUSIA et Groupe de Recherches Langage et Philosophie de l’Université des Sciences Sociales de Grenoble, Bruxelles, 1986, p. 111, p. 124.

(9) Voir, Julia Kristeva : Le Langage cet inconnu … Une initiation à la linguistique, Éditions du Seuil, Paris, 1981, pp. 110-111.

(10) Voir, Henri Joly, op. cit., p. 108.

(11) Voir, Barbara Cassin : L’Effet Sophistique, Éditions Gallimard, 1995, p. 40.

(12) Anne Merker : Une Morale Pour Les Mortels… L’éthique de Platon et d’Aristote, Les belles lettres, Paris, 2011, p. 225.

(13) Voir, Pierre Aubenque : Le problème de l’être chez Aristote, PUF, Paris, p. 456-484.

(14) Jacques Derrida : La dissémination, Éditions du Seuil, Paris, 1972, p. 192.

(15) Barbara Cassin, op. cit., p. 52. 

(16) Ibid., p. 56.

(17) Voir, Henri Fleisch : Traité de Philosophie Arabe, Préliminaires ; Phonétique et Morphologie Nominale, Vol. 1, Imprimerie Catholique, Beyrouth, 1961, p. 2.

 (18) Voir, Martin Heidegger : La doctrine de Platon sur la vérité, dans son livre « Questions II », Éditions Gallimard, 1968, p. 135, p.137.

(19) Roland Barthes : Le Plaisir du Texte, Editions du Seuil, 1973, p. 56.

(20) Voir, Roland Barthes : Réflexions Sur Un Manuel, dans le livre « L’enseignement de la Littérature, Librairie Plon, 1971, p. 175.

(21) Julia Kristeva, op. cit., p. 108.

(22) Ibid., p. 16.

(23) Roland Barthes : Le Plaisir du Texte, p. 46-47.

(24) Julia Kristeva, op. cit., p. 109.

(25) Ibid., p. 110.

(26)  Henri Joly, op. cit., p. 136.  

(**) حول التطبيق الايديولوجي والتحريف النظري والفلسفي والاصطلاحي لمفهوم البايديا، يُنظر: د. محمد شوقي الزين: نظرية “البيلدونغ” وتأسيس فكرة الثقافة … فلسفة التكوين الذاتي، بحث محكم منشور على موقع (مؤمنون بلاحدود)، قسم العلوم الانسانية والفلسفة، 2014.

(27) Voir, Michel Espagne : BILDUNG, dans « Vocabulaire Européen Des Philosophies … Dictionnaire des Intraduisibles », BARBARA CASSIN (sous la direction de), éditions du Seuil/ Dictionnaires Le Robert, France, 2004, p. 195.

(28) Werner Jaeger, op. cit., p. 20.

(29) Michel Espagne, op. cit., p. 195.

(30) Ibid., p. 202.

(31) Ibid., p. 199.

(32) Martin Heidegger, op. cit., p. 135.

(33) Voir, Henri Joly, op. cit., p. 123.

(34) Julia Kristeva, op. cit., p. 48.

 Ibid., p. 400-401.(35)

 Voir, Ibid., p. 471.(36)

(37) Werner Jaeger, op. cit., p. 359.

(38) Voir, Ibid., p. 363, p. 364-365, p. 369.

(39) Voir, Maurice de Gandillac : L’Ancienne Paideia, dans le livre « L’enseignement de la Littérature »,  Librairie Plon, 1971,  p. 25.

 (40)Roland Barthes : Réflexions Sur Un Manuel, dans le livre « L’enseignement de la Littérature »,  pp. 174-175.

(41) Voir, Henri Joly, op. cit., p. 119, p. 115.

 (42) Maurice de Gandillac, op. cit., p. 26.

(43) Voir, Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca: Traité de l’argumentation…La nouvelle rhétorique, tome 2, P.U.F., Paris, 1958, p.222.

(44) Roland Barthes : Réflexions Sur Un Manuel, dans le livre « L’enseignement de la Littérature »,  p.172.

(45) Julia Kristeva : Le Langage cet inconnu … Une initiation à la linguistique, p. 279.

(46) Roland Barthes : Le Plaisir du Texte, p. 40.

(47) Roland Barthes : Réflexions Sur Un Manuel, dans le livre « L’enseignement de la Littérature »,  p.172.

(48)Ibid., p. 177.

(49) Julia Kristeva : Le Langage cet inconnu … Une initiation à la linguistique, p. 279.

 (50) Roland Barthes : Le Plaisir du Texte, p. 59.

(51) Barbara Cassin, op. cit., p. 16-17. 

(52) Roland Barthes : L’ancienne Rhétorique (Aide-mémoire), Communications, Recherches Rhétoriques, Editions du Seuil,  N. 1, Vol. 16, 1970, p. 194.

 

 *باحثة ومترجمة من العراق-متخصصة في الدراسات الفلسفية والحجاجية

المصدر

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر عن رأي فريق المكتبة العامة.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى