أبحاث ودراسات
الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة الشمولية – كارل ويتفوغل
الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة الشمولية – كارل ويتفوغل / ترجمة: محمد الرشودي
الفصل الأول: الإطار الطبيعي للمجتمع الهيدروليكي
أ. الإنسان المتغير في الطبيعة المتغيرة
خلافًا للاعتقاد السائد بأن الطبيعة تبقى دومًا على ماهيتها (وهو الاعتقاد الذي آل بحركة مناصري البيئة[1] إلى نظريات جامدة قادتهم إلى في موقف رافض ومتماثل في الجمود)، فإن الطبيعة تتغير بدرجة كبيرة حينما يغير الإنسان من آلياته التقنية، كتنظيمه الاجتماعي ومنظوره للعالم، بذات الدرجة استجابة لأسباب تاريخية بسيطةً كانت أو معقدة. لن يرعوي الإنسان عن كونه مؤثرًا على بيئته الطبيعية أبدًا. فهو يغير فيها ويبدل بانتظام؛ ويخلق[2] قوى جديدة كلما أخذته جهوده إلى مستوىً أحدث من سابقه في الإدارة. سواءً ظفر بهذا المستوى الحديث على وجه الإطلاق، أم لفترة وجيزة، فإن الإجابة على سؤال “إلى أين سيقودنا؟” تعتمد في المقام الأول على التنظيم المؤسساتي[3]، ثم على الهدف النهائي للنشاط الإنساني، وهو ما جعل من العوالم الفيزيائية، والكيميائية، والبيولوجية في متناول يده. وفي حال تساوت الظروف المؤسساتية، فإن الاختلاف في الإطار الطبيعي هو ما يوحي ويسمح -أو يمنع- بتطوير أشكال جديدة من التكنولوجيا، والموارد، والانضباط الاجتماعي.
إلى جانب كونها معلمًا طبيعيًا أو موضعًا مبجلًا، فإن الشلالات لم تثر إلا بعضًا من اهتمام الإنسان البدائي. في حين أن الإنسان المستقر، عن طريق تطويره للصناعة إلى درجة ميكانيكية معقدة، قد أدرك الطاقة المتولدة من حركة الماء؛ فنهضت العديد من المشاريع الحديثة (كالطواحين) على مجاري التيارات المائية المتدفقة. ولقد أدى اكتشاف الطاقة[4] التقنية، الكامنة في الفحم، إلى توقد وعي الإنسان بالجيولوجيا كما لم يسبق للبشرية من قبل، وأضحت طاحونة الماء قصة نجاة رومانسية في الأراضي التي قامت فيها الثورة الصناعية، وهيمن عليها المحرك البخاري.
رغم اكتشف الإنسان في سنينه الأخيرة الطاقة الإنتاجية الغزيرة للكهرباء، إلا أنه عاود صرف انتباهه مرة أخرى إلى الماء المتدفق. وعلى الرغم من تشييد مهندسي القرن العشرين لمصانع تعمل على هذه الطاقة، وفي ذات البقعة التي سبق وأن زُودت مشاغل النسيج بها، إلا أنه أدرك قوىً جديدة في النظام القديم. فأصبحت الطبيعة تتطلب آلية جديدة، كما افترضت منحها بالتدريج مظهرًا حديثًا.
ب. الموقع التاريخي للمجتمع الهيدروليكي
إن ما يصدق على المجال الصناعي، يصدق بذات الدرجة على الأرض الزراعية. نستطيع إدراك القابلية للهيدروليكية في بعض المناطق التي تشكوا شح الماء على هذه البسيطة عن طريق الظروف التاريخية الدقيقة وحسب. لقد ميز الإنسان البدائي، منذ القدم، المناطق التي تشكوا شح المياه؛ إلا أن اعتماده على جمع الثمار، والصيد، وصيد الأسماك، لم يجعله بحاجة ماسة إلى مُخطط للسيطرة على الماء. لكنه بمحض تعلمه الانتفاع من عمليات التكاثر الزراعية، أصبح يُثمّن الإمكانيات الزراعية للأرضي القاحلة التي تحتوي على مصادر للتزود بالماء عدا هطول الأمطار. من هنا، فحسب، بدأ الإنسان معالجته للمزايا التي اكتشفها حديثًا في ذات الإطار القديم من خلال عملية رّيٍ على نطاق ضيق (هيدروزراعية)[5]، و/أو من خلال عملية رّيٍ على نطاق واسع ما يستلزم إشرافًا حكوميًا (الزراعة الهيدروليكية)[6]. حينها فقط، واتت الفرصة للأنماط المستبدة من الحكومة والمجتمع للظهور.
قد كانت فرصةً مواتيةً وحسب، وليست نتيجةً ضروريةً. فلا تنتج المشاريع الضخمة للتحكم بالمياه نظامًا هيدروليكيًا حال كانت جزءًا من مجموعة أوسع من الأواصر والروابط اللاهيدروليكية. فحركة الماء هذه موجودة في بو بلاين في البندقية، وفي مناطق ذي ظروف متغيرة في هولندا؛ لكن لم تُطور كلاً من إيطاليا وهولندا نظامًا هيروليكيًا للحكومة والمِلْكية. حتى المورمن، وهم الذين أنشأوا نظامًا زراعيًا مزدهرًا في وسط الشمال الأمريكي القاحل، لم يفلحوا قط في تحجيم التأثير السياسي والثقافي لبيئتهم الصناعية الفسيحة. يوضح تاريخ قديسي هذا العصر كلاً من القدرة التنظيمية لعمليات الرّي على نطاق واسع، والقيود التي فرضها المجتمع الغربي المهيمن على تطور مؤسسات هيدروليكية.
وبهذا يتضح لنا أن قليل الماء أو وافره لا يؤدي بالضرورة إلى وقوعه في قبضة الحكومة؛ كما لا تؤدي السيطرة الحكومية إلى تضمين نُظُم أو أحكام سياسية استبدادية بالضرورة. كردة فعل على عوز المياه في بقعة محددة من الأرض، يُقْدِم الإنسان على نظام هيدروليكي محدد للحياة في حالة واحدة: حينما يكون فوق مستوى اقتصاد الكفاف الاستخراجي، ومتجاوزًا لبحبوحة المطر وسلطانه العظيم على المجتمع الزراعي، وتحت مستوى الحضارة الصناعية القائم على المِلْكية الخاصة.
جـ. الإطار الطبيعي
-
حال تساوت الظروف التاريخية، فإن الاختلاف الطبيعي هو السبب الرئيس والمحتمل للفوارق المؤسساتية المصيرية
هنالك عدة عوامل ميزت الحياة الزراعية قبل العصر الصناعي، بيد أنه لا وجود لعامل يوازي بأهميته، من ناحية مؤسساتية، أهمية عامل “تغذية التناقضات” كما هو حال المناطق القاحلة ذات مصادرٍ تزوّدها بالمياه، إذا ما استثنينا منها هطول الأمطار، في متناول يدها. في ظل هذه الشروط المذكورة آنفًا لزراعة ما قبل العصر الصناعي، تجدر بنا الإشارة إلى أن للتكوين الطبيعي أثر حتمي على سلوك الإنسان كمزوّد للغذاء ومُنظّم للعلاقات الإنسانية. فيتحتم عليه أن يُؤمّن مجرىً للسقاية إذا ما أراد حرث أرضٍ جافة وخصبة بما يكفي لأن تكون مستمرة ومجزية في العطاء. من بين كل المهام التي فرضتها البيئة الطبيعية على الإنسان، كان وضع الماء الغير مستقر هو المهمة التي فرضت وحفزت الإنسان لتطوير أساليب هيدروليكية للسيطرة الاجتماعية.
-
عدة عوامل طبيعية وضروري للفلاحة
إن الماء ليس بالعامل الضروري الوحيد لزراعة مكللة بالنجاح للمحاصيل. على من ابتغى الشروع بالفلاحة أن يملك في جعبته نباتات مفيدة، وتربة خصبة، وسقاية مناسبة ودرجة حرارة مناسبتين (وهذا يعني مقدار وافٍ من أشعة الشمس، وانتقاء الموسم الملائم للزراعة)، وقطعة ملائمة من الأرض (السطح والتضاريس).
كل هذه العوامل ذات أهمية متساوية. فيخرّب النقص في أي منها القيمة الزراعية لبقية العوامل. تبقى الزراعة، إذًا، عملية مستحيلة حال العوز لأيٍ من العوامل الضرورية إلا حال قدرة التدخل الإنساني على التعويض.
-
بعض العوامل الضرورية غير قابلة للتعويض؛ والبعض الآخر يُعوض بسهولة
إن جدوى التدخل الإنساني للتعويض تعتمد على سهولة استبدال العامل الطبيعي المفقود. فيجب اعتبار بعض العوامل ثابتة لأنها، في واقع الأمر، وفي ظل القدرات التكنولوجية الحالية، متجاوزة لسيطرة الإنسان. بينما نجد البعض الآخر أكثر مرونة، لدرجة أنه يمكن معالجة، أو تغيير، الكثير منها إن تطلب الأمر.
يشكل سطح الأرض وتضاريسها أكثر العوامل الثابتة بروزًا في الأرض الزراعية. وهذا كان صحيحًا قبل عصر الآلة؛ ولا يزال صحيحًا في جوهره اليوم. فلأسباب لا تخفى على كل ذي لبّ، لم يحالف الحظ محاولات التحكم بدرجة الحرارة قبل عصر الآلة؛ حتى بعض النجاحات الأخرى، كالتدفئة المركزية والمكيّف، لم تخلق أي تغيير نوعي. لم تحقق الإنسانية إلا قليلًا من النجاح فيما يتعلق بتغيير الأحوال الكونية، وهي التي تتيح لنا تعيين درجة حرارة الأرض في نهاية المطاف.
تقف قطعة من الأرض متحديةً جهود الإنسان بذات الحدّة. فقد قامت الإنسانية بجهود عدّة وطفيفة للإصلاح، كبناء المصاطب[7]وتسوية الأرض، وهو ما يبدو، في الغالب، ذو علاقة مع العمليات الهيدروزراعية. وبقيت التضاريس، إلى حد بعيد، كما هي بلا تغيير قبل اختراع القوة الحديثة للآلات والمواد المتفجرة. ولم تزدهر الزراعة المدعومة بقوة الآلة حتى، مثل أساليب الفلاحة الأقل تطورًا من الناحية التقنية، إلا على السطوح المستوية من السهول والهضاب العالية، أو على منحدرات وهضاب متدرجة برفق، ولكن ليس على تضاريس وعرة أو جبلية.
بيد أن التربة والنبات ليسا -بدرجة قابلة للمقارنة- عصيين على التدخل الإنساني. فالفلاح المحترف قادر على معالجتهما. وقد ينقل نباتاتٍ مفيدة، وغالبًا ما يفعل، إلى منطقة أخرى تشكو ندرتها. إلا أن فعلاً كهذا منقطع ومؤقت؛ وقد يندثر حال كان الهدف المتحقق محدودًا. في أي منطقة زراعية، تتكرر عمليات الزراعة والتكاثر مرة تلو أخرى؛ لكن النباتات تغطي صفحة من الأرض بشكل غير مطّرد، ورغم أن الكدح في الفلاحة يعتمد على ظروف معينة قد تستلزم تنسيقًا بين مجموعات من فرق العمل، إلا أنه ليس هنالك ثمّة في طبيعة غرس النبتة المفردة أو مجموعة منها ما يوجب التعاون على نطاق واسع كشرط مسبق لزراعة مكللة بالنجاح. قبل عصر الآلة، يعمل الجزء الأعظم في القطاع الزراعية بفعالية أكبر حينما يحضر الفلاحون فرادًا، أو على شكل مجموعات صغيرة، لموسم الحصاد.
تتبع التربة، وهي العامل المتغير الثاني، نمطًا مشابهًا مع بعض القيود، قيود يحكمها ثقل نسبي لجسيمات المعادن المسحوقة. لطالما جرت العادة في نقل البذور والنباتات إلى مناطق تفتقر لها، إلا أن التربة كانت نادرًا ما تُنقل إلى المناطق القاحلة. ولا شك أن بعض الحقول الرديئة أو العقيمة قد طُوّرت عن طريق نقل التربة من مسافات بعيدة. ولكن أثر فعلٍ كهذا محدود على طبيعة أي منطقة زراعية نوعية. يلتمس الإنسان في جهوده إلى تغيير التربة الموجودة لتوافق حاجة المحاصيل من خلال جرف الأرض، وحفرها، أو حراثتها، وفي بعض الأحيان، من خلال تحسين تركيبها الكيميائي عن طريق التسميد.
وبالتالي، فإن التربة قابلة للمعالجة، لكن لنوع منها يتطلب عمل زُمرة من الناس لا تتجاوز الحد الضروري لزراعة النباتات. وفي حين يتولى تسوية الأرض وجمع المحاصيل، في ظل ظروف بدائية، فريق عمل ضخم، إلا أن مهمة حراثة الحقول ذاتها تُترك في العادة لفرد أو اثنين.
-
الخصائص النوعية للماء
عندما نقارن الماء مع سائر المتطلبات الطبيعية الضرورية للزراعة، فإننا نجده نوعي. في حين أننا نجد، ولأسباب ذات أبعاد كونية وجيولوجية، أن درجة الحرارة وسطح الأرض قد منعت تدخل الإنسان بالكلية، أو حدت منه بشكل لافت للنظر، منذ ما قبل العصر الصناعي، وما بعده. وفي المقابل، نجد الماء ليس بذاك العصي على معالجة الإنسان ولا بذي القابلية العالية. وهو، بهذا الصدد، يتماثل مع متغيرين آخرين: النبات والتربة. ولكنه يتميز عنهما كثيرًا في قابليتيه للحركة، والأساليب الطلوبة للتعامل معه.
الماء أثقل من أكثر النباتات، بيد أن إدارته ممكنة بطرق أكثر راحة. ينحدر الماء بتلقائية، ما لم تعقه مادة صلبة ومتماسكة، إلى أخفض نقطة يمكنه بلوغها في محيطه، متبّعًا بذلك قانون الجاذبية. ففي حدود أي بستان زراعي، يتمتع الماء بهذا الامتياز عن غيره من المتغيرات الطبيعية.
وهذا ليس كل ما يمتاز به. فتدفق الماء بتلقائية، يظهره بشكل لا متساوٍ على الأرض، فيستخرج من تحت سطحها، مثل المياه الجوفية، أو من فوق السطح في منابع منفصلة (كالآبار، والمستنقعات، والبحيرات)، أو عن طريق المياه الجارية (كالأنهار، والجداول). ليس لتشكلات الماء أهمية كبيرة في المناطق الزراعية التي تتمتع بكميات وفيرة من المياه، لكنها من الأهمية بمكان في المناطق التي تشكوا شُحّها. يتعامل العامل الإنساني، المسؤول عن الماء، مع مادة تمتاز بكتلتها الضخمة إلى جانب ما تمتاز به من مرونة في الحركة عن باقي المتغيرات.
تقدم الخاصية الأخيرة عوائق استثنائية كلما حاول الإنسان الانتفاع بكتل ضخمة من الماء؛ ولهذا فهو ميّال إلى فعل هذا متى ما سمحت له الظروف الطبيعية والتكنولوجية. فلا ضرورة عملية تدفعه إلى معالجة أي من التربة أو النباتات بالتعاون مع عوامل أخرى. لكن ضخامة أي من العوامل لا يهم حال استثنينا المصادر القليلة للتزود بالمياه، فهو يصنع مهمة تقنية لا يمكن حلّها إلا عن طريق الجموع الغفيرة من العمال[8].
د. هل يستلزم لاحتمال الهيدروليكية أن يحدث؟
-
وضع تاريخي مفتوح، بيْد أن أنماط رد الفعل يمكن استشرافها
إن التعارض النشيط والمتأصل في الأرض التي لها قابلية لأن تكون هيدروليكية جدُّ جليّ. فهي أرض تشكو قلة هطول الأمطار أو عدمه؛ لكنها تملك مصادرًا أخرى للتزود بالمياه. فإذا ما قرر الإنسان الانتفاع بها، فقد يحول الأرض القاحلة إلى حقول خصبة وبساتين. أقول “قد”، ولكن هل سيفعلها؟ ما الذي يدفعه إلى الانخراط في مغامرة مضنية وطافحة بعواقب مؤسساتية مشكلة؟
يُظهر الدليل التاريخي أن مجموعات عديدة من الأشخاص قد عمدوا إلى قرار كهذا. ولكنه يُظهر لنا، في ذات الوقت، أن السواد الأعظم قد فشل في تنفيذه. على مدى آلاف السنين، أقامت مجموعات من القبائل، وصيادي البرية والأسماك، والرعاة، في مناطق لها قابلية هيدروليكية، ورغم أنها غالبًا ما تكون على مقربة من المزارع وسُقاتها، إلا أن القليل منهم هجر حرفته التقليدية لأجل نمط هيدروزراعي للحياة.
يظهر لنا بجلاء أن لا ضرورة ملحة تدفع بالإنسان إلى توظيف الفرص الطبيعية الجديدة. فقد أتاحت الظروف خيارات مفتوحة، والخيار الهيدروزراعي كان أحدها. لكن الإنسان قد أخذ، في أحيان كثيرة، بهذا الخيار في كثير من المناطق المتفرقة، والتي قد نفترض أنها منتظمة في تطورها إلى جانب إجراءاتها.
أدرك الإنسان مكاسبًا بسعيه الحثيث. كلما أبدت الأسباب الخارجية أو الداخلية تغيرًا في التكنولوجيا، أو إنتاج المواد، أو العلاقات الاجتماعية، فإنه يقارن المزايا للحال الراهن مع المكاسب -والخسائر- التي قد تتحقق من التغير المستشرف. يتطلب بلوغ الأهداف الجديدة جهودًا استثنائية؛ وقد لا تستلزم هذه الجهود مزيدًا من العمل، وتحولاً من العمليات اليسيرة إلى العسيرة وحسب، بل تستلزم إصلاحات اجتماعية وثقافية أيضًا، وهذا يعني بعض الخسائر الثقيلة على صعيد الاستقلالية الشخصية والسياسية.
إذا ما جمعنا كل المنافع المتحققة، فإنها تتفوق بوضوح وإقناع على التضحيات المطلوبة، فيكون الإنسان على استعداد للتغيير؛ لكن العادة قد جرت على أن الإشكاليات في المكسب تبقيه فاترًا. تتكون ميزانية الإنسان هنا، كما هو الحال في كل مكان، من عناصر مادية وغير مادية؛ فلن تكون أية محاولة لتقسيمها حصرًا من حيث الكم للأشياء (البضائع)، صغيرة كانت أو كبيرة، مرضية. ولنتأكد أكثر، فإن عامل المادة يقلب المعادلة له وزنه، إلا أنه يمكن فقط لأهميته النسبية أن تُعرّف بإنصاف عندما يُعطى للعوامل الأخرى، كالأمان الشخصي، وانعدام الاضطهاد، وأنماط الفكر والعمل اللذان يتمتعان بقداسة القدم[9]، تقديرها المُستحق.
أعطى مؤرخو الثقافة لحادثة تبني الأفراد للحياة الزراعية خلال العصر المتأخر، والذي تفرّع فيه علم الجيوبيولوجيا[10]، أهمية أكثر مما ينبغي، سواءً تبنّوها كعمل إضافي أو -وهو ما كان على نحو متزايد- كمصدر رئيسي للدخل. كان لهذا التحول، بلا أدنى شك، تأثير على صميم مصير البشرية؛ إلا أنه يتحتم علينا أخذ الجماعات البدائية الغفيرة الأخرى بالحسبان عند كل إحالة إلى “قانون المكاسب الواضحة”، فلمْ تلجأ هذه الجماعات إلى زراعة المحاصيل، لا أثناء الحياة الزراعية الأولية، ولا بعد صعود الحضارات الزراعية الطبقية الضخمة.
ففي منظور الجماعات الغير زراعية، كان للبديل الزراعي جاذبية محدودة، وجدُّ متنوعة، في وقت لم تكن للقيادة حاجة ملحة، إلى جانب أن الحراثة كانت بدائية. بعد نشأة المجتمعات الزراعية الطبقية، أصبح الانتقاء أشد حرجًا. لعبت السلطة التي تمارسها الحكومات، وملاّك الأراضي الأغنياء من المناطق المجاورة، دور الرادع، وتحت وطأة هذه الظروف، فإن هكذا تحول قد يستلزم خضوعًا لمناهج بغيضة في السياسة ونظام التمّلك. فغالبًا ما يقع حرث بعض الحقول القريبة من مكان النُزُل على عاتق النساء، والأطفال، وأسرى الحرب؛ في حين أن عناد الأعضاء المهيمنين في القبيلة -الذكور الراشدون- يقودهم إلى رفض هجر نشاطات صيد البرّية، أو صيد الأسماك، أو الرعي. كما يُظهر لنا تفضيل العديد من الشعوب البدائية لسنوات القحط، بل حتى المجاعة لأوقاتٍ متطاولة، على التغيير الكلي إلى النمط الزراعي للحياة أن هنالك جاذبية هائلة للقيم اللامادية، حيث أن ازدياد الأمان المادي ممكن التحقق عن طريق واحد وحسب: الخضوع السياسي، والاقتصادي، والثقافي.
-
المكاسب الواضحة للرّي في العصر الزراعي