ثقافة وفنون

القصة المثيرة وراء أشهر شعار في العالم

يزخر العالم بالكثير من الأقواس من قوس تراجان بإيطاليا، وقوس الرخام أو “ماربل أرش” بلندن، مرورا بقوس قسطنطين بروما إلى قوس النصر الذي شيده نابليون بفرنسا. ويمكنك الصعود إلى قمة أكبر هذه الأقواس، وهو قوس البوابة (غيتواي) بمدينة سانت لويس في ولاية ميسوري، وفي جنوب إسبانيا ستذهلك روعة مئات الأقواس المتداخلة المصممة على شكل حدوة الحصان في قاعة الأعمدة الكبرى التي كانت سابقا باحة مسجد قرطبة.

لكن القوسين الأشهر في العالم، دون النظر إلى الحضارة الراقية والهندسة الابتكارية والسياق التاريخي العظيم، هما قوسا سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” للوجبات السريعة.

وتحت شعار القوسين الشهيرين اللذين يتبناهما ما يزيد على 30 ألف مطعم من السلسلة في 119 بلدا حول العالم، تُقدم مأكولات متنوعة لنحو 68 مليون زائر يوميا، أبرزها شطائر اللحم والبطاطس المقلية، تصحبها المشروبات الغازية أو الحليب المخفوق.

ولكن هذا الشعار الشهير، المكون من قوسين ذهبيين متداخلين يمثلان الحرف الأول من كلمة “ماكدونالدز”، والذي تغير شكله على مرّ سنوات عديدة، لم يكن مقصودا بقدر ما كان من قبيل المصادفة.

في عام 1937، افتتح باتريك ماكدونالد، الذي جاء إلى كاليفورنيا من نيو هامبشير قبل ذلك بعقد من الزمن، مطعما يحمل اسم “إيردروم” لبيع شطائر نقانق “الهوت دوغ” على الطريق. وكان المطعم يخدم الزبائن داخل سياراتهم، خارج مطار مونروفيا، شمال شرقي لوس أنجليس.

وكان ماكدونالد يدير المطعم مع ولديه ريتشارد (ديك) وموريس (ماك). ونقل الأخير المطعم في عام 1940 إلى سان بيرناردينو.

وبعد ثماني سنوات، أعاد الأخوان ديك وماك تدشين المطعم من خلال تطبيق نظام خط التجميع للوجبات السريعة، والذي يضطلع خلاله كل عامل بمهمة محددة في مراحل إنتاج الشطيرة، وهو ما مكّنهم من بيع شطيرة اللحم بسعر 15 سنتا، أي نصف سعر شطيرة اللحم لدى منافسيهم. ووُضعت لافتة جديدة كُتب عليها “شطائر لحم ماكدونالدز الشهيرة” في مكان مرتفع فوق المطعم.

وفي عام 1952، اجتمع كل من ديك وماك مع ستانلي كلارك ميستون، المهندس المعماري بلوس أنجليس، ومساعده تشارلز فيش، واتفقا على تصميم مطعم ماكدونالدز على جانب الطريق، مع إمكانية منح حق امتياز لشركات أخرى لاستخدام الاسم التجاري.

واقترح ديك وضع نصفي دائرتين، إذ كان يرى أنهما سيضفيان جمالا على شكل المطعم إذا وضعا على أي من طرفي المبنى، لجذب أنظار قائدي المركبات وعائلاتهم الذين يشعرون بالجوع.

أخذ ميستون، الذي عمل كمصمم مناظر مسرحية لدى شركة “يونيفيرسال ستوديوز” للإنتاج السينمائي ولدى المهندس المعماري واين ماك أليستر، الذي صمم مجموعة من المطاعم التي تخدم الزبائن داخل سياراتهم في ثلاثينيات القرن العشرين، تصميم ديك المكون من نصفي دائرتين وحولهما إلى قطعتين معدنيتين ذهبيتن يبلغ طولهما 25 قدما وتُضاءان بالنيون. وقد يخيل لمن يرى أحدث التصميمات المعمارية والاختراعات الهندسية أن ما يقدمه هذا المطعم يُكلّف مليون دولار وليس 15 سنتا فقط.

Image copyrightREN SINNWIKIPEDIA

Image captionراي كروك أزاح القوسين الذهبيين المنحنيين اللذين كانا يزينان أطراف مباني مطاعم ماكدونالدز، وحولهما إلى القوس المزدوج، أو شعار حرف “M”، والذي اكتمل شكله النهائي سنة 1968

ظهر القوسان اللذان صممهما ميستون، وصنعهما بمهارة جورج ديكستر صانع اللافتات، لأول مرة سنة 1953 على أول مطعم يحصل على حق امتياز استخدام علامة ماكدونالدز في فينيكس، بولاية أريزونا. وكان صاحب حق الامتياز هو نيل فوكس، الرئيس التنفيذي لشركة أوكسيدنتال للنفط.

بعد ذلك، حصل كل من روجر ويليامز وبود لاندان، صهري فوكس وشريكيه في العمل، على حق امتياز لإدارة مطعم ثالث من سلسلة مطاعم ماكدونالدز، ولكن في حلة جديدة، في داوني، بولاية كاليفورنيا.

ولما كان المبنى الأصلي الشهير لمطعم ماكدونالدز مهددا بالهدم، أدرجه الصندوق الوطني للحفاظ على التراث التاريخي من بين المباني التاريخية المهددة بالخطر سنة 1994، ومن ثم بدأت شركة ماكدونالدز عملية تجديده وترميمه. ومن هذا المبنى يمكنك أن ترى، من زاوية معينة، كيف يتداخل القوسان الذهبيان، وكيف خرج شعار ماكدونالدز إلى النور.

الإقبال على ماكدونالدز

على الرغم من أن ماك وديك، كانا سعيدين بانتشار حق امتياز ماكدونالدز تدريجيا وبشكل مستمر، إلا أن هذا لم يكن ليرضي راي كروك، الذي عمل تارة عازفا لموسيقى الجاز، وتارة مسؤولا عن تشغيل الاسطوانات الموسيقية في الإذاعة، وتارة بائعا للأكواب الورقية.

وبينما كان كروك يبيع آلات لصنع اللبن المخفوق في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، لمس مقومات النجاح في سلسلة مطاعم شطائر اللحم ذات التصميم المتميز، والمتخصصة في بيع الوجبات السريعة ورخيصة الثمن. وقد عُين في سنة 1955 في منصب المدير المسؤول عن حقوق الامتياز، وبعد ست سنوات، اشترى كروك، المفعم بالنشاط، شركة ماكدونالدز من ديك وماك مقابل مليونين و700 ألف دولار.

وقد خسر الأخوان ديك وماك الكثير بعد أن حول كروك شركة ماكدونالدز إلى شركة عالمية. وقد وعد كروك، الذي كان سريع الكلام وموطنه مدينة شيكاغو، الأخوين بمنحهما عائدا عن كل مطعم جديد يحصل على حق امتياز، بيد أن هذا الاتفاق كان شفهيا فقط ولم يكتب على ورق. ولم يحصل الاثنان على أي عائدات.

وبسبب المراوغة والخداع، لم يتمكن ديك وماك من الاحتفاظ بحقيهما في اسم ماكدونالدز. وتسرد أحداث فيلم “المؤسس”، من إخرج جون لي هانكوك وبطولة مايكل كيتون، كيف استطاع كروك أن يمسك بزمام الأمر في شركة ماكدونالدز، ويطيح بالأخوين، ويجمع ثروته. ومن المقرر أن يُطرح هذا الفيلم في وقت لاحق من هذا العام. وقد كُتب على الملصق الإعلاني للفيلم: “لقد أخذ فكرة شخص آخر، ثم التهمها الشعب الأمريكي”.

ومع انشغال الشعب بتناول أطعمة ماكدونالدز، أزاح كروك القوسين الذهبيين المنحنيين اللذين كانا يزينان أطراف مباني مطاعم ماكدونالدز، وحولهما إلى القوس المزدوج، أو شعار حرف “M”، والذي اكتمل شكله النهائي سنة 1968. وفي هذه السنة، تخلت شركة ماكدونالدز عن التصميم المعماري المبتكر الذي وضعه ميستون، ليحل محله تصميم السقف منحدر الجانبين على الطراز القديم الذي يميز سلسلة مطاعم ماكدونالدز منذ ذلك الحين. وبعد اكتمال شكل الشعار سنة 1968، أجريت المزيد من التعديلات سنة 2003، وقد أصبح القوسان الآن مظللين وأكثر استدارة من ذي قبل.

Image copyrightALAMY

Image captionراي كروك (يمين) اشترى شركة ماكدونالدز من الأخوين ديك وماك مقابل مليوني و700 ألف دولار بعد ست سنوات من توليه منصب مسؤول حقوق الامتياز

وعلى الرغم من أن سلسلة مطاعم ماكدونالدز قد فقدت بساطة تصميمها المعماري الأصلي الرائع، فإن البعض كان يرى أن الشركة تمثل قصة نجاح أمريكية عظيمة، وفي الوقت نفسه، خطرا متزايدا على الصحة. ومع أنه كان من السهل دحض الفكرة التي بنى عليها مورغان سبورلوك فيلمه “سوبر سايز مي” في عام 2004، حين تناول وجبات ماكدونالدز لمدة شهر، إذ لا يوجد أحد، ولاسيما سبورلوك، يحتاج أن يأكل خمسة آلاف سعر حراري يوميا في مطاعم ماكدونالدز. إلا أن سبورلوك أشار بأصابع الاتهام إلى الطريقة التي فقدت بها سلسلة الوجبات السريعة صورتها البريئة التي كانت تتمتع بها في خمسينيات القرن الماضي.

ربما يرى البعض أن قوسي ماكدونالدز الذهبيين رمزان للرأسمالية العالمية العدوانية، والنزعة الاستهلاكية المفرطة وتفشي الإمبريالية الثقافية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن أقواس ماكدونالدز غير محصنة ضد التغيير. ففي فرع ماكدونالدز في سيدونا، بولاية أريزونا، الذي افتتح سنة 1993، جرى طلاء القوسين باللون الفيروزي، ليتماشيا مع لون المناظر الطبيعية داخل الولاية.

وللسبب نفسه تقريبا، جرى طلاء القوسين في ماكدونالدز في مونتيري بولاية كاليفورنيا باللون الأسود. وقد صمم القوسين غاري فيجن، المهندس المعماري من مدينة فينسو، بأسلوب تصميم يعود لأواخر القرن التاسع عشر، وافتتح هذا الفرع في 2010. وجرى طلاء القوسين في شارع شامب-إليزيه في باريس، وفي بروج التي تحتفظ بطراز العصور الوسطى، باللون الأبيض.

وكان من المفترض أن يذهب القوسان الذهبيان لأبعد من الولايات المتحدة وأوروبا. إذ كان من المقرر أن ترعى شركة ماكدونالدز مهمة وكالة ناسا إلى الكويكب 449، والتي كانت تسمى “هامبورغا”، نسبة إلى المدينة الألمانية، وليس شطيرة اللحم، إلا أن المهمة ألغيت في سنة 1995.

وجبات الأطفال

وبالعودة إلى كوكب الأرض، اجتذب القوسان اهتمام الفنانين المعاصرين. وعلى غرار الفنان التشكيلي أندي وورهول، الذي استخدم معلبات “كامبل” للحساء في لوحاته، استعان بين فورست الفنان الأسترالي بعدد لا يحصى من العلب التي تقدم فيها ماكدونالدز البطاطس المقلية لتصبح الخلفية التي يرسم عليها لوحاته المأخوذة من المجلات المصورة وأفلام الرسوم المتحركة وعالم الفانتازيا والقوى السحرية والمجلات اليابانية المصورة (المانغا)، والأبطال الخارقين.

وقد عرضت اللوحة التركيبية بأقواس ماكدونالدز التي صممها الفنان ماساتو ناكامورا للمرة الأولى في معرض طوكيو للفن المعاصر سنة 1998. ويقول ناكامورا، إن هذا التاج المكون من أقواس قد يعني أي شيء تريده. وقد استلهم ناكامورا هذا العمل من القوسين الذهبيين اللذين ظهرا في الكثير من الصور التي التقطها في رحلة حول العالم.

Image copyrightALAMY

Image captionرغم حرص ماكدونالدز على الحفاظ على شعارها، فإنها لم تعارض تغيير لونه ليتماشى مع نمط تشييد المباني المحلية حول العالم

وقد حصل ناكامورا على الدعم الكامل من شركة ماكدونالدز، على الأرجح لأنها اعتبرت هذا العمل، العسير على الفهم، بمثابة دعاية جيدة للشركة.

وربما كان هذا الأمر صحيحا. وفي ستينيات القرن العشرين، عندما تخلت شركة ماكدونالدز عن تصميم القوسين الذي ابتكره ميستون، أخذت الشركة بنصيحة لويس تشيسكين، عالم النفس الأمريكي، الذي حقق مسيرة عمل ناجحة لدى شركة فورد. واقترح تشيسكين، وفقا لنظريات فرويد وتعاليمه، أن قوسي ماكدونالدز يمثلان ثدي الأم التي تغذي طفلها.

وعلى الرغم أن هذا يذكرنا بسلسلة أفلام “كاري أون” أو حلقات الرسوم المتحركة “بيفيز وبوتهيد” التي اعتدنا مشاهدتها لتبعث على الراحة والسرور، إلا أنه من الواضح أن شركة ماكدونالدز قد تمكنت من مسّ مشاعر الطفولة الموجودة بداخل عشرات الملايين من البشر، ناهيك عن الأطفال أنفسهم، من خلال المهرج رونالد ماكدونالد، وطريقة تناول الطعام من دون استخدام أدوات المائدة. كما أن الكثير من المأكولات التي يقدمها لا تحتاج إلى الكثير من المضغ أو بذل مجهود باستخدام الأسنان، بالإضافة إلى اللافتات الإعلانية ذات الألوان البراقة.

على أية حال، مهما اختلفت نظرتنا لسلسلة مطاعم ماكدونالدز، فإن الشركة لازالت تحتفظ بهويتها في مطاعمها المنتشرة في كافة أرجاء العالم.

المصدر

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يُعْتبر نشر المكتبة العامة له نوعاً من الموافقة على مضمونه.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى