علوم وتكنولوجيا

تسمع كثيراً عن الزمن .. هل تعرف ما هو الزمن؟

تسمع كثيراً عن الزمن .. هل تعرف ما هو الزمن؟

يعرف الجميع ما هو الزّمن، ونستطيع فعليًّا أن نشعر بوقع مضيّه، وهو يسير بنفس الاتّجاه باعتياديّةٍ مرعبة. لقد استعبد الزّمن العالم الغربيّ وأصبح سلعتنا الأنفس. لكن، أحِلِ الأمر إلى علماء الفيزياء، وسيتحوّل ويُعوَجّ بل ويَتقوّض. فما هو الزّمن بالضبط؟

بالنسبة لكثيرٍ من النّاس على مرّ التّاريخ، كان الزّمن سيصبح مرادفًا لإيقاعات الطبيعة، ومرور الفصول ودورات الأجرام السّماويّة. وإذا بدت هذه الفكرة ساذجة اليوم، فذلك ليس فقط لأنّ السّاعات الحديثة أكثر دقة في حفظ الزمن عما كانت عليه الأجرام السماوية (Celestial bodies) في أي وقت، بل إنّها كذلك، أيضًا، لأنّنا أصبحنا نفكّر بالزّمن على أنّه شيءٌ كليّ، شيءٌ سيستمرّ في مسيرته حتى وإن توقّفت كل السّاعات، السّماوية منها وما صنعه البشر على حدٍّ سواء.

ما هو الزمن

ما هو الزمن

لقد كان تعبير نيوتن عن مفهوم الزّمن المطلق (Absolute time) الذي يمكن قياسه، والذي هو نفسه بالنسبة لكل المراقبين، هو الأكثر إيجازًا ووضوحًا: “إنّ الزّمن المطلق، الحقيقي والآلي، بقدرته الذّاتيّة، ومن طبيعته هو، يتدفّق باطّراد دون علاقةٍ بأيّ شيءٍ خارجيّ”.

زمن أينشتاين

قد يوحي زمن نيوتن المطلق بأنه وصفٌ دقيقٌ للوحش الذي يحكم حياتنا اليوميّة، أمّا في العلم، فقد تحطّمت هذه الفكرة في العام 1905، على يد نظريّة النّسبيّة الخاصّة لأينشتاين، فقد “بيّن آينشتاين عدم وجود وقت كلّي“، كمّا يوضّح ديفيز، “فوقْتك ووقتي ستختلف بهما الخطى إذا ما اختلفت حركتنا.” وبعبارة أخرى، فإن المدّة الزّمنيّة بين حدثين، يمكن أن تختلف تبعًا لمدى سرعة حركتك في الفترة التي تفصل بينهما.

تخيّل اثنين من المراقبين، واحد في قطار والثاني ثابت، يُرسل المسافر دفقة ضوء عمودية نحو الأعلى من مصباح يدوي. يَظهر المشهد من موقع المشاهد، على يسار الشكل: الدفقة تنتقل عموديًا إلى الأعلى، ويَظهر المشهد من موقع المراقب الثّابت، على يمين الشكل: يَظهر موقع المصباح اليدوي وسقف القطار في بداية ونهاية رحلة الدفقة باللونين الأسود والأزرق على التوالي. الدفقة تنتقل وهي مائلة قطريًا.

تخيّل اثنين من المراقبين، واحد في قطار والثاني ثابت، يُرسل المسافر دفقة ضوء عمودية نحو الأعلى من مصباح يدوي. يَظهر المشهد من موقع المشاهد، على يسار الشكل: الدفقة تنتقل عموديًا إلى الأعلى، ويَظهر المشهد من موقع المراقب الثّابت، على يمين الشكل: يَظهر موقع المصباح اليدوي وسقف القطار في بداية ونهاية رحلة الدفقة باللونين الأسود والأزرق على التوالي. الدفقة تنتقل وهي مائلة قطريًا.

عرض المزيد

تكمن مسلّمة أينشتاين في جذور هذا الانحناء الغريب للزمن (Time warping effect)، وتقول المسلّمة بأن سرعة الضّوء يجب أن تكون هي نفسها بالنسبة لجميع المراقبين، بصرف النظر عن مدى السرعة التي يتحركون بها. تخيل اثنين من المراقبين، أحدهما مسافر على متن قطار، والآخر ثابت على جانب سكّنه، وبينما يمر المراقبان ببعضهما، يطلق المسافر دفقة ضّوئيّة من مصباح يدويّ تشعّ عموديًا نحو الأعلى. سيختلف المراقبان حول المسافة التي قطعتها الدّفقة عندما بلغت سقف القطار، لأن المراقب الثابت أدرك، ليس فقط حركة الدفقة العمودية، بل وحركة القطار الأفقية أيضا.

وبما أنّ كلا المراقبين يقيس نفس سرعة الضّوء، ولما كانت السرعة هي المسافة بالنسبة للوقت، فهذا يفترض أنّهما يجب أن يختلفا أيضًا على الزمن الذي استغرقته الدفقة لقطع هذه المسافة. فالزمن نسبي للمراقب، أو حسب التعبير الذي يفضّله عالم الفيزياء كيب ثورن Kip Thorne، بأنّ الزّمن “شخصي“.

نحن لا نلاحظ تمدّد الزّمن هذا في الحياة اليومية، لكنّه ليس من الصغر بحيث لا يمكن قياسه. “لو أنني طرت من فينيكس إلى لندن ثم عدت مرة أخرى، ثم قارنت ساعتي مع تلك التي تركتها في المكتب، فسوف تكونان مختلفتين بمقدار جزءٍ من المليار من الثانية”، كما يقول ديفيز. وهذا مقدار ضئيل بالنسبة للبشر، لكنّه يقع إلى حدّ مناسب في نطاق قدرة السّاعات الحديثة على القياس.

في الواقع، إنّ لتمدد الزّمن تأثيرٌ حقيقيٌّ على النّظام العالميّ لتحديد المواقع (GPS)، الذي أصبح الكثير منّا يعتمدون عليه في ترحالهم حول العالم. “يعمل هذا النظام مع الأقمار الاصطناعية التي تتحرك بسرعة كبيرة في مداراتها”، كما يوضّح ديفيز. و”إذا لم تأخذ بعين الاعتبار تأثير الحركة في تشويش الزّمن، فإنّ جهاز الـ GPS الخاص بك سيبدأ بمراكمة الأخطاء بسرعة كبيرة، إلى حدّ أنّك ستضيع خلال ساعة أو ساعتين. هذا إذن، تأثيرٌ حقيقي، وليس نوعًا من كوابيس عالِم رياضيات مخبول.”

تصوّرُ أحد الفنانين للشّمس وهي تحني الزمكان، ومسبار كاسيني الفضائي يفحص النسبية، من خلال قياس مدى تأخر الإشارات بسبب الانحناء. Image courtesy NASA))

تصوّرُ أحد الفنانين للشّمس وهي تحني الزمكان، ومسبار كاسيني الفضائي يفحص النسبية، من خلال قياس مدى تأخر الإشارات بسبب الانحناء. Image courtesy NASA))

عرض المزيد

لكن الحركة ليست وحدها ما يشوش الزمن، ففي نظريته العامة للنسبية (General theory of relativity)، التي نُشرت في العام 1916، بيّن أينشتاين أن الثّقالة يمكنها أن تبطئ الزمن أيضا. وبدلاً من النّظر إلى الجاذبية كقوّة خفيّة تهبّ عبر الأثير (Ether)، رأى أينشتاين أنّها تأثير الأجسام الضخمة التي تشوّه نسيج المكان ذاته.

ومن التّشبيهات الشّهيرة هنا، مثال كرة بولينغ موضوعة على مِنَطّة (ترامبولين)، ما يؤدّي إلى تشكيل بؤرةٍ يمكن لبِلْيَةٍ قريبة أن تتدحرج إلى داخلها. ووفقًا لنظرية النسبية العامة، فإنّ الأجسام الضخمة مثل النّجوم والكواكب تحني المكان بطريقةٍ مشابهة، وهكذا “تجذب” الأجسام الأخرى التي تمر بالجوار، إلا أنّ أينشتاين أدرك أن الزمن والمكان مرتبطان ارتباطًا لا ينفصم، فيما أسماه الزمكان (Spacetime)، وبالتالي فإن الانحناء جراء الثقالة، لا يؤثر في المكان فقط، بل وفي الزمن أيضا.

يقول ديفيز، “إنّ الثقالة تبطئ الزمن، بحيث يمضي أبطأ قليلاً في سرداب منزلك، منه على السطح”. وهذا “تأثيرٌ ضئيل، ولكن بالوسع قياسه، حتى على مسافات بهذا الصغر. وإذا كنت ترغب بانحناءٍ ثقاليٍّ كبيرٍ بحقّ للزمن، فعليك أن تذهب إلى حيث يوجد مجال ثقاليّ كبير جدا.

 على سبيل المثال، لو كانت لديك ساعة على سطح نجم نيوتروني، فإنها ستدقّ بما يقارب الـ 70٪ من معدل دقات ساعة على الأرض، أما الانحناء الأقصى للزمن، فيوجد على سطح الثقب الأسود، حيث، وبمعنى ما، يقف الزّمن ثابتًا بالنسبة لزمننا. وإذا ذهبت هناك، فإنك لن تلاحظ أي شيءٍ مميز عن الوقت، ولكنك إذا قارنت السّاعات بين الموقعين، فسيكون عدم التوافق بينها شاسعا”.

لقد خلص أينشتاين إلى استنتاجٍ مثيرٍ للاهتمام من النتائج التي توصّل إليها عن طبيعة الزّمن. ففي رسالة لعائلة صديقه ميشيل بيسو Michele Besso، الذي توفي مؤخّرا، كتب أينشتاين: “لأننا، نحن علماء الفيزياء، نعتقد أنّ الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم، إلا أنّه وهمٌ مقنع.” ولما كان الزّمن نسبيًّا للمراقب، فإنه من المستحيل تقسيمه إلى ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل بطريقةٍ ذات معنى كلي. إنّ الماضي والحاضر والمستقبل، كلها، بمعنى ما، هناك في آن واحد.

يقول ديفيز “يُسمى هذا المفهوم أحيانًا كتلة الزمن (Block time)، لكنّي أفضّل أن أسمّيه المنظر الزمني (Timescape)، لأنّه مشابهٌ شيئًا ما للمنظر الطبيعي Landscape. فأنت إذا نظرت إلى خريطة، فستجد المنظر الطبيعي كله أمامك هناك فورا، وإذا أضفت الزمن إلى هذه الخريطة كبعدٍ رابع، فستجد أن الزمن كله هناك فورًا أيضا، وحقيقة عدم وجود شيء في الفيزياء يميّز لحظة محدّدة على أنها “الآن” هي معضلة.”

وبالمناسبة، ليس في نظرية أينشتاين ما يحظر السّفر عبر الزمن، سواء كان ذلك إلى المستقبل أو الماضي، إلا أن هذا الأمر هو علبة ديدان لن نفتحها هنا، إذ يمكنكم القراءة عنها في مقالة كيب ثورن هل يجوز السّفر عبر الزمن؟، في مجلة Plus. (أو إقرأوا كتاب ديفيز “كيف تبنى آلة زمن”).

سهم الزّمن

إنّ التفكير في الماضي والمستقبل يقودنا إلى مشكلة أخرى راوغت العلماء والفلاسفة، لماذا يجب أن يكون للزمن أي اتجاه على الإطلاق؟ فمن الواضح جدا، وفي الحياة اليومية، أنّ للزمن اتجاها، وإذا شاهدت فيلمًا يُعرض معكوسًا، فستعرف ذلك فورا، لأنّ معظم الأشياء لها اتجاه زمني مميّز مرتبط بها، أي: سهم زمنيّ.

على سبيل المثال، يمكن للبيض أن يتحول إلى عجّة بسهولة، لكن ليس العكس، ويمكن للحليب والقهوة أن يمتزجا في كوبك، لكنهما لن يعودا للانفصال مجدّدًا أبدا.

المثال الأكثر دراميّة، هو تاريخ الكون كله، الذي، كما يعتقد العلماء، بدأ مع الانفجار الكبير منذ حوالي 13 مليار سنة، وأخذ في التمدد باستمرار منذ ذلك الحين. وعندما ننظر في ذلك التاريخ، والذي يتضمن تاريخنا نحن، فسيبدو الاتجاه الذي يشير إليه سهم الزمن واضحا.

“لكن المعضلة هي أن قوانين الفيزياء لا تُظهر أيّ تفضيلٍ للزمن المتقدّم إلى الأمام أو الزمن المتأخّر إلى الوراء”، كما يقول ديفيز. على سبيل المثال، إذا كنت تستطيع تحريك جسمٍ في اتجاهٍ واحد بتعريضه لقوّة، فحينئذٍ، كما يخبرك قانون نيوتن الثّاني للحركة، سيكون بوسعك أن تجعله يعود أدراجه بتعريضه لنفس القوّة في الاتجاه المعاكس، وبالتالي، فإنّك حين تشاهد فيلمًا يعرض هذه العملية، لن تستطيع التمييز بين ما إذا كان الجسم يتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، لأن كلا الاتجاهين ممكن على حدٍّ سواء.

“ولذا”، يقول ديفيز: “إنّ المشكلة هي كيف نبرّر تباين الزّمن في الحياة اليومية، في حين أن القوانين التي تحكم جميع الذّرّات، التي تشكّل كلّ شيءٍ من حولنا، متناظرة في الزّمن”.  لقد بُذل كثيرٌ من الجهد حول هذه المشكلة التي تؤثّر في فيزياء أينشتاين تمامًا كما أثرت في وصف نيوتن الكلاسيكي للعالم.

نظامٌ أم فوضى؟

نظامٌ أم فوضى؟

إلا أنّ العثور على الإجابة لا يمثّل صعوبةً كبيرة، فأكثر العمليات التي نشعر بأنها غير عكوس، هي تلك التي تبدأ “لأي سببٍ كان” في حالة ما من الخصوصية الشديدة والتنظيم العالي –  يستخدم ديفيز رزمة من البطاقات كمثال على ذلك. عندما تفتح رزمة لأول مرة، فستكون البطاقات مرتّبة وفقًا للمجموعة والقيمة العددية. وعندما تخلطها لفترة من الوقت، فستفقد ترتيبها، لذلك يبدو أن الأمور ستنتقل دائمًا من النظام إلى الفوضى مع مرور الوقت-. ويضيف ديفيز: أنّنا “قد نعتقد بأنّ هذا أمر غريب جدا، إذ ليس في فعل الخلط شيءٌ يحدّد وجهةً في الزمن، ولكنّنا، على الرغم من ذلك، نرى سهمًا جليّا”.

على أية حال، ليس في قوانين الفيزياء ما يمنع فعل الخلط من إنتاج مجموعةٍ مرتبةٍ تمامًا من البطاقات. كل ما في الأمر، هو أن حالة الانتظام هي واحدة فقط مما يبلغ مجموعه 8 × 1067 من الحالات الممكنة، وبالتالي، فإن فرصة مصادفة هذه الحالة ونحن نخلط البطاقات، هي فرصة متناهية الصغر إلى حدّ التلاشي، فهي صغيرةٌ جدًا إلى حدّ أنّها لن تحدث حتى في غضون أعمار عديدة من الخلط.

إن عدم التناظر الظاهر للزمن، إذن، هو في الواقع عدم تكافؤ في الفرصة. والأنظمة ذات العناصر الكثيرة – مثل كوبٍ كاملٍ من جزيئات الحليب والقهوة، أو وعاءٍ مليءٍ بجزيئات البيض – تتحول من النظام إلى الفوضى، ليس لأن عكس الاتجاه مستحيل، بل لأنه مستبعد جدا. هذا، باختصار، هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية (Second law of thermodynamics)، الذي ينصّ على أن االإنتروبي (Entropy) – وهو أحد مقاييس الفوضى – في نظامٍ فيزيائيٍّ مغلق لا يتناقص أبدا.

إنه مبدأ إحصائي، وليس قانونٌ أساسيٌّ يصف سلوك ذرّةٍ مفردة. وسهم الزمن الظاهري يبرز كخاصية للنظام العياني، ولكنه غير موجود ضمن القوانين التي تحكم التفاعلات بين الجسيمات المفردة. وبحسب تعبير عالم الفيزياء جون ويلر John Wheeler، “إذا سألت ذرة عن سهم الزمن، فسوف تضحك في وجهك.”

إن هذا ينطبق على الكون كله، أيضا. فلقد “بدأ الكون باستواء كبير وأخذ يتوسّع بتجانس”، كما يقول ديفيز. ومن وجهة نظر ثقالية، فإنّ الانفجار العظيم (Big Bang) كان حالة إنتروبي منخفض، ومنذ ذلك الحين يزداد الإنتروبي الخاص بالكون باضطراد، ومن هنا جاء سهم الزمن (Arrow of time).

السؤال الآن هو، لماذا بدأ الكون على هذا النحو الذي بدأ به. “إن سبب انفجار الكون وهو في مثل هذه الحالة المنظّمة، لا يزال لغزًا”، في رأي ديفيز. و”ليست هناك إجابة متّفقٌ عليها حوله، ويعود بسبب ذلك، جزئيًا، إلى عدم توافر نموذج توافقي لعلم الكونيات. فنحن جميعًا نعتقد أن الكون بدأ مع الانفجار العظيم، كما نعلم أنه يتمدد. ولكننا لا نعرف ما إذا كان الانفجار العظيم هو الأصل الأقصى للزمن، أو ما إذا كان هناك زمن قبل ذلك”.

الزمن يختفي

لقد أغفلنا، حتى الآن، ذكر شيءٍ واحد، وهو أنّ نظرية أينشتاين، التي تصف العالم العياني وصفًا حسنًا على نحوٍ رائع، لا تنطبق على العالم المجهريّ. ولوصف العالم عند المستويات الذّريّة وما تحت الذّريّة، يجب علينا أن نلجأ إلى ميكانيكا الكم (Quantum mechanics)، وهي نظرية تختلف جوهريًا عن نظرية أينشتاين، ويُعدّ التوفيق بين النظريتين، لتأسيس نظرية الثقالة الكمومية، هو الكأس المقدسة “أو الطموح الأقصى” للفيزياء الحديثة.

عندما صاغ شرودينجر وهايزنبرغ ميكانيكا الكم في عشرينيات القرن الماضي، كانا قد تجاهلا عمل أينشتاين، وعالجا الزمن بروح نيوتن، كشيءٍ مطلق يمضي في خلفية المشهد. وهذا يدلّنا بالفعل إلى سبب صعوبة التوفيق بين النظريتين، كما أنّ مكانة الزمن في ميكانيكا الكم تسبّبت، أيضًا، بمشاكل عميقة داخل النظرية نفسها، وأدّت إلى “عقودٍ من التشويش والغموض”، وفقًا لتعبير ديفيس.

لن نتطرّق لهذا التّشويش هنا، لكنّنا سوف نذكر الأحجية التي تتجلى عندما تحاول تطبيق ميكانيكا الكم على الكون ككلّ (وهو نهجٌ مثيرٌ للجدل، ليس كل علماء الفيزياء على اتفاق معه). “إذا حاولت أن تكتب وصفًا للكون كلّه من منظور ميكانيكا الكم، فستجد أن متغير الزمن يسقط فعلاً [من المعادلات]، فهو ليس موجودٌ على الإطلاق”، كما يقول ديفيز، فالزمن يُستبدل بعلاقات تبادلية.

“على سبيل المثال، قد يكون لديك علاقة تبادلية بين حجم الكون وقيمة حقل “مادي” ما، ويمكننا وصف هذه العلاقة التبادلية بقولنا إنه “كما يتطور الكون مع مرور الزمن ويكبر، فإن قيمة هذا الحقل تتغير“. ونحن نستخدم هذه اللغة، لكن الواقع هو أنّ كل ما نتحدث عنه هو علاقة تبادلية “بين كميات مادية”، ويمكن أن يُزال الزمن تمامًا”.

لقد فسّر البعض هذا ليقولوا بعدم وجود الزمن على الإطلاق، لكن ديفيز يختلف مع هذا التفسير. ويضيف: “أعتقد أن الزمن موجود تمامًا مثل الهواتف. إنّه شيءٌ حقيقيٌّ ويمكننا قياسه، لكن هذا يشير إلى أن الطريقة التي يدخل بها إلى وصفنا للعالم تختلف عن المقادير الأخرى التي اعتدنا عليها”.

أحد الاحتمالات هو أن يكون الزمن، والمكان أيضًا، خصائص ناشئة للكون، وهي ليست جزءًا من المستوى الأدنى من الواقع (وهو المستوى الذي يحتوي الأشياء المادية المحسوسة من الواقع) “وبسبب الشروط الصارمة عند وقوع الانفجار الكبير، فلربما كان من الملائم أكثر أن يكون الوصف من حيث متغيرات أخرى. فنحن عندما نرى أنّ العالم ذو زمن ومكان محددين بوضوح “أو الزمكان وفق تعبير أينشتاين“، فإن هذه قد تكون مجرّد حالة خاصة ما للكون، نشأت عن الانفجار العظيم”.

يستخدم ديفيز قطعة من المطّاط مثالاً على ذلك: فهي ذات مواصفات ماديّة تخصّها بالذات، مثل مرونتها، إلا أن هذه المواصفات غير موجودة على المستوى الذّريّ، بل هي نتيجةٌ للذرات والقوانين التي تحكم تركيبها بطريقة واحدة بعينها. وبالمثل، فربما حدث وأن أفضى الكون، في أثناء انخفاض حرارته بعد الانفجار العظيم، إلى نشوء الزمكان. وربما لو كانت حرارته قد انخفضت بطريقة أخرى، لما نشأ الزمكان.

بطٌّ مطاطيٌّ ذو خصائص ناشئة

بطٌّ مطاطيٌّ ذو خصائص ناشئة

لكن، إذا لم يكن المكان والزمن أساسيّان، فما هي الخصائص الأساسيّة للكون؟ ليست هناك نظريّة متفّق عليها بين الناس. و”يمكننا ابتكار كلمات لوصفها، وقد فعل الناس ذلك، لكنها ليست أشياء سنلقاها في حياتنا اليومية. لذلك نحن فقط نلجأ إلى “التوصيفات الرياضية”. وحتى لو تمكّنا يومًا من وصف الزمن والمكان من حيث شيء آخر، فإن ذلك لن يؤدي إلّا إلى دفع السؤال إلى مستوى آخر، إذ سيتوجب عليك حينها أن تفسّر هذا (الشيء الآخر)“.

وهكذا، يبدو أننا لسنا أقرب إلى فهم ما هو الزمن مما كان عليه نيوتن – بل وربما كان فهمنا له أقل من ذلك حتى – لكن، من ناحية أخرى، ربما كان التفسير التّامّ للكون ليس مهمّة العالم، وإنّما مجرّد وصفه. أيّ “أن تفترض نظريةً ما، وعادةً ما تكون على شكل معادلاتٍ رياضية، ثم تختبرها في مقابل الواقع”، كما يقول ديفيز. و”إذا كانت فعّالة، فلا تجادِل حول مصدر تلك المعادلات، إنّها فقط أفضل محاولاتك لوصف العالم”.

سواء أكان أساسيًا أو ناشئًا، أو مجرّد مجموعة مموّهة من الارتباطات، فالواقع هو أنّ ما نسميه الزّمن يتجلّى على نحوٍ لا يمكن إنكاره وكلّنا يعرفه، وحسب تعبير أحد أصدقائي، “إذا كنت تريد أن تعرف ما هو الزّمن، أنظر إلى وجهي فقط”.

عن هذه المقالة


  • بول ديفيز

بول ديفيز، هو عالم الفيزياء النّظرية والكونيّات في جامعة ولاية أريزونا ومدير BEYONDمركز المفاهيم الأساسية في العلوم“. وقد عمل في عددٍ من المجالات المختلفة، ومنها أبحاث السّرطان وبيولوجيا الفضاء. وقد سبق لـ Plus أن قابلته في البيولوجيا الفلكيّة في الماضي. إضافةً إلى أنّه كتب عددًا كبيرًا من الكتب العلميّة المبسّطة، من بينها “عن الوقت: ثورة أينشتاين غير المكتمِلة” و “كيف تُبنى آلة الزمن“.

  • ماريان فرايبيرغر

المحرر المشارك لدى Plus، وقد أجرت المقابلة مع ديفيز في يوليو 2011.

المصدر: ناسا بالعربي

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى