مفاهيم وشخصيات
ماذا تعرف عن مذهب الإشراق ؟
ماذا تعرف عن مذهب الإشراق ؟ – بكري علاء الدين
تنوعت المؤثرات التي تعرض لها مذهب الإشراق illuminationism، إلا أن الفكرة الأساس الواقعة في البؤرة منه تسمح بتعريف الإشراق illumination تعريفاً عاماً بأنه: «ظهور الأنوار الإلهية في قلب الإنسان الصوفي (العارف)»، وذلك هو برهان التجربة الصوفية في أدنى مظاهرها. فالصوفية الذين ينتمون إلى حضارات مختلفة وأزمنة متباعدة يعبرون عن هذا الأصل في وصف مشاهداتهم كما ورد عند ابن خلدون في شفاء السائل: «إن كثيراً ممن استحكمت فيه التصفية، وبلغت بعد رفع الحجاب مبالغها، غَافَصَه (فاجأه) إشراق أنوار التجليّ والمشاهدة، عند امّحاء ذاته».
وبغض النظر عن التفاصيل الفرعية، فإنه يجتمع لدى الصوفية، على اختلاف مشاربهم، العناصر الأولية نفسها للتجربة الصوفية (التصفية أو التجريد = محاربة الشهوات، الكشف أو المشاهدة أو الفتح= شروق الأنوار، العشق والفناء = فقدان هوية العارف في الذات الإلهية)، وهذا هو الإشراق بمعناه العام. أما الإشراق عند السهروردي فإنه صورة كمال هذا المذهب.
يمكن الوقوف على بدايات التجربة الإشراقية عند هرمس Hermès الذي يقول في حوار دار بينه وبين «راعي البشر» poimandrès أو العقل (نَوْس): «انكشف كل شيء أمامي في لحظة واحدة، ورأيت رؤيا لا حدود لها، الكل صار نوراً مشرقاً ومفرحاً، وما إن وقع عليه بصري حتى عشقته». وثمة نص لأفلوطين[ر] يصف فيه تجربته مشهور جداً في التراث الفلسفي، وهو لا يبتعد عن النزعة الهرمسية. وفي التصوف الإسلامي تجارب كثيرة تربط بين الكشف والنور، منها ما يرويه الشيخ عبد العزيز الدباغ عن تجربة مرت به في مدينة فاس سنة 1125هـ، إذ يقول: «ثم جعلت الأشياء تنكشف لي، وتظهر كأنها بين يدي، فرأيت جميع القرى والمدن، وإذا بنور عظيم كالبرق الخاطف الذي يجيء من كل جهة، وأصابني فيه برد عظيم، حتى ظننت أني مت». وهو يضيف في موضع آخر أنّ «نور الحق يرتفع فيه الزمان وترتيبه».
كذلك أثر هرمس وأفلوطين في تطور الحركة الإشراقية في الغرب، وهي حركة غذت الإبداعية (الرومنسية) في أوربة من جهة، وطريقة يونغ[ر] في التحليل النفسي من جهة أخرى إذ تتداخل في الإشراقية عوامل عقلية وصوفية تهدف إلى الوصول إلىالمعرفة الإلهية. والحب هو دعامة هذه التجربة التي ترجع أصولها إلى ما قبل أفلاطون وإلى الأسرار الديونيزية والأورفية، ومفادها أن الإنسان قادر على التخلص من أسر المادة، وعلى العروج نحو الأنوار ليتحقق بأصله الإلهي.
وتتجلى الإشراقية المسيحية على نحو خاص من القديس أوغسطين وحتى يوحنا الصليبي في الصلوات والأدعية بدرجات متفاوتة، وتبدو في درجة اكتمالها حالة تأمل روحي واتصال عقلاني بالإرادة الإلهية.
ومن أشهر أعلام الإشراقية في الفكر الغربي، يعقوب بوهمه[ر] Boehme(ت1624م)، الذي خلف وصفاً لتجربته الصوفية في كتاب «الفجر الطالع» (1610م). ويبدو أن الفيلسوف الألماني هيغل قد تأثر بكتاباته. وهناك صوفي آخر أثر تأثيراً مباشراً في الكاتب الفرنسي الشهير بلزاك هو إيمانويل سويدنبرغ Swedenborg (ت1772م). ويُذكّر باسكال[ر] «بأن للقلب منطقاً لا يستوعبه العقل».
السهروردي ومذهب الإشراق
يعد شهاب الدين أبو الفتوح يحيى بن حبش السهروردي (ت549-587هـ/ 1155-1191م) من مؤسسي مذهب الإشراق في العالم الإسلامي، وتكمن عبقريته فيالتوحيد بين فلسفة الشرق والغرب من جهة، والعقل والقلب، من جهة أخرى. وقد توخى بذلك إحياء « الخميرة المقدسة» للحكمة. فكأنما كان يريد افتتاح عصر جديد للهرمسية في جو إسلامي، وقد كتب أهم مؤلفاته بلغة عربية لا تخلو من الأصالة والإبداع، ووصلت إليه «الخميرة القديمة» على لسان «حافظي الكلمة» من طريقين لايخلو تطورهما من بعض امتزاج (طريق غربي يوناني، وآخر شرقي فارسي ـ خسرواني)، ينتهيان إليه عن طريق جماعة من الصوفية المسلمين.
ومن الممكن ردّ مجمل العناصر التي اعتمدها السهروردي في تشييد فلسفته إلى ثلاثة أصول رئيسية: الأصلان الإسلامي واليوناني والأصل الفارسي.
الأصلان الإسلامي واليوناني: يتضمن الأصل الأول مرتكزات الفكر الإسلامي ذات الطابع الصوفي ـ الفلسفي، وينطوي الثاني على مصادر الفكر اليوناني كما عرفها الفلاسفة العرب، وكما تطورت على أيديهم في ثلاثة قرون. يقول السهروردي في مقدمة رسالته «كلمات الصوفية»: «كل دعوى لم تشهد بها شواهد الكتاب والسنة، فهو من تفاريع العبث»، وذروة التجربة الصوفية لديه، هي بلوغ «التوحيد» في أعلى مراتبه.ومعلوم أن ثمة فرقاً بين توحيد المتكلمين القائم على «معرفة الله تعالى بالوحدانية» وتوحيد الصوفية. وقد خصص هنري كوربان فصلاً لدراسة التوحيد عند السهروردي، في مقاله الذي ترجمه عبد الرحمن بدوي في كتابه «شخصيات قلقة في الإسلام»، بناه على تأويل نصيحة السهروردي في قوله لأحد مريديه: «واقرأ القرآن كأنه ما أنزل إلا في شأنك فقط». وفحوى التوحيد الصوفي: توحيد الله لنفسه على لسان أوليائه. ويقرر السهروردي أن معنى التوحيد أمر متفق عليه بين متقدمي الحكماء ومتأخريهم، وأن اختلافهم إنما هو في الألفاظ.
كذلك يتخذ السهروردي من شخص النبي محمد r ـ شأنه في ذلك شأن سلفه من الصوفية ـ قدوة في معراجه، بحسب ما ورد في الذكر الحكيم: )ثُمّ دَنَا فَتَدَلَّى فكَانَ قَابَ قَوسَينِ أو أَدْنَى( ( النجم: 8 -9 ).
وهو يستأنس بأدعية النبي المأثورة، من دون اتخاذها «حجة» فلسفية في إثبات مذهبه، مثل الدعاء المشهور: «أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك». وقد سلك السهروردي، على الصعيد الصوفي، الطريق نفسه الذي لقي الحلاج[ر] في آخره مصرعه، واقتفى آثاره مردداً نغمته في التوحيد:
لأنوار نور النور في الخلق أنوار |
وللسر في سر المسرين أسرار |