هل من الحكمة أن نهرب دائماُ وابداُ عند كل ألم أومعاناة؟؟ . وهل من العقل أن يكون مجرد الابتعاد عن المعذبات والمؤلمات حلاُ سحريا نلجأ اليه بلا تردد كلما ألقت الحياة فى طريقتا عذاباُ أو حزناُ او قلقا ُأو لوعة أو حسرة.؟؟ وحتى إن فعلنا ذلك فهو هروب من اشياء خارجة عنك منفصلة عن وجودك يمكنك تركها في أي وقت وترحل بعيداُ . ولكن ماذا نفعل مع ذواتنا وانفسنا وهى معنا فى كل وقت وحال حتى فى نومنا هى معنا تسبح فى بحر الرؤى والتخيلات.
ان الهروب من النفس ممكن ولكنه مدمر فى اغلب الاحوال ولا يوجد ما هو اعقد واكثر من حيل النفس فى الهروب والنسيان. فمن الناس من يهرب الى عالم اللذة الحسية يتسلى بها عن اّلامه . ومنهم من يهرب الى عالم الخيال والتوهم فيعيش فى عالم اّخر يخلقه بنفسه بعيدا ُعن عالمنا الوحشى الذى يحطم رغباتنا واّمالنا . ومن التاس من يهرب الى عالم الجمال والجلال وينشغل بهما حساُ وعقلاُ وهذا هو دأب الفلاسفة فى الغالب . ومن الناس من يهرب من نفسه بخلق مشكلة جديدة يشغل بها نفسه عن مشكلته الجوهرية وهذا هروب من ألم الى ألم اّخر ولكن هذا الاّخر اخف على النفس . ومن الناس من يهرب من نفسه بأن يهب حياته لرسالة نبيلة أو قضية سامية يستميت فى الدفاع عنها . ومن الناس من يهرب من نفسه بأن بتقمص شخصية انسان اّخر ويظهر أمام الناس بسلوكيات وافعال وعادات هذه الشخصية الاخرى وتتحول كل صفة وخصلة فيه الى ضدها.
ان الهروب حل سهل بل إن النفس تميل إليه فى الغالب وتفضله على المواجهة التى يلزمها نوع من المرارة والمعاناة. ولكن الشفاء فى الدواء المر والطعم البشع فعلينا إن كنا عقلاء أن نواجه انفسنا لا أن نهرب منها. ومواجهتها تبدأ بمعرفتها فما أخطأ من قال (اعرف نفسك) لأن معرفتك بنفسك معناها أن تعرف (ما يتحكم فى افكارك ومشاعرك ومعرفة الضرورة الطبيعية التى تسوقك بلا وعى منك نحو فكرة بعينها او شعور بعينه) ولو عرفنا هذا لتخلصنا من كل اأم ومعاناة وبدون أن نخسر أنفسنا او نهرب منها. لأن الهروب (مشكلة جديدة تحتاج الى هروب جديد وهذا بدوره يحتاج الى هروب جديد ولن تتوقف النفس عن الهروب ابدا وستكون حياتك وقتها سلسلة متواليه من الهروبات والنكسات والفجعات ).
فإن أردت أن تتقى كل هذا العناء فواجه نفسك واعرف طبيعتها .فإن كان هذا مؤلما فهو ألم واحد لن تقابله إلا فى بداية معرفتك بنفسك فقط. فإن إحتملته فلا ألم بعدها ولا معاناة. أما لو اتبعت ميل النفس الى الهروب فستجد راحة يعقبها ألم ثم راحة يعقبها ألم وهكذا بلا انقطاع……فكن عاقلا ولا تتبع هوى النفس وميلها فإن الداء فيه. و…. ولكن لا تظن أن الامر مقتصر على معرفتك بنفسك فقط بل هذه هي البداية فقط . وانما العلاج فى ترويضها وسياستها وتهذيبها تماما كما نتعامل مع الاطفال الصغار. فتربية الطفل مقصودها أن يكون نافعا لنفسه ولمجتمعه ولكن الطفل مجبول على طبع وغرائز لو تركناه لها فسد ولو حاولنا نزعها منه تألم وقد يموت. فكان من العقل أن نروضه ونسايسه حسب معرفتنا بطبيعته وفطرته .. . فنفسك مثل طفل صغير تحت ولايتك ورعايتك فيجب عليك أن تروضها وتسوسها لما هو خير لها ولا يكون هذا الا بمعرفتك بطبعها وغرائزها.
واخيرا فان الهروب والمواجهة هما فعلين للنفس لا نقول بأن احدهما افضل من الاخر. فالهروب قد يكون افضل احيانا والمواجهة قد تكون افضل احيانا وذلك لأن الأفضل هو الأكثر نفعا او خيراُ. فأن كان الخير فى الهروب فهو الأفضل وان كان الخير فى المواجهة فهى الافضل …… ولكننا نطلق القول فنقول ان المواجهة أفضل من الهروب إن كان هروبا من النفس لا من خطر خارج عنك لأن الهروب من النفس متناقض فيجعلك تقع فى تناقض المشاعر وتمزق الوجدان … وهو متناقض (اى الهروب من النفس) لأن الهارب والمهروب عنه شئ واحد فالهارب هو النفس والمهروب عنه هو النفس. ولا معنى للهروب الا مفارقة الشئ والإبتعاد عنه . فكيف يمكنك ان تفارق نفسك وهى معك فى كل الاحوال والاوقات؟؟ فهذا تناقض سيعقبه حتما حالة من الضياع والتمزق والشتات…. ولكن يمكنك ان تؤجل عملية المواجهة مع النفس إن كانت النفس في حالة تجعل اي مواجهة عقلية معها سببا في انهيار شامل فيمكن وقتها ان تؤجل مواجهتك لنفسك حتى يمر الزمان قليلا وتتغير الظروف والاحوال وتجارب النفس وافكارها ووقتها يمكنك المواجهة
ــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة