الديموغرافيا هل ضربت أوروبا قبل الكورونا ؟! – بقلم: سامح عبد الله
الديموغرافيا هل ضربت أوروبا قبل الكورونا .. ابن خلدون وعلم الاجتماع، نظرة التشريعات الأوربية إلى الإجهاض والمثلية الجنسية وتأثير ذلك على ديموغرافية أوروبا، دور المنظمات الحقوقية والكنيسة الكاثوليكية فى هذا الشأن، هل جاء الكورونا ليثبت صحة نظرية ابن خلدون فى التكوين العمرانى.
الديموغرافيا هل ضربت أوروبا قبل الكورونا؟
الاجتماع الإنسانى عند ابن خلدون:
ربما كان أصدق وصف قِيل فى حق المفكر العربى ابن خلدون المولود فى تونس عام ١٣٣٢ ميلادية ٧٣٢ هجرية أنه كان ” بمثابة الوهج الذى يحدث قبل انطفاء الشمعة فلم يلتفت إليه أحد”، وذلك لأنه نشأ إبان انحلال الدولة الإسلامية فكان حاله كحالها، ومن ثم فلم يلتفت إليه أحد كأمر منطقى ويتفق وطبيعة الأشياء، ومع ذلك فإن هذا الوهج ظل باقيًا من خلال مقدمته التى لاقت رواجًا هائلًا تخطى حدود الزمن الذى كُتبت فيه إلى زمن لاحق وحتى يومنا هذا، كبرهان تاريخى على أن الفكرة الصالحة يمكن أن يخفت وهجها لكنه لا ينطفئ.
ولقد بلغت مقدمة ابن خلدون حد اهتمام الفكر الحديث بها، حتى أن كثيرين يرون أنها لا تقل مرتبة عن الشروح العظيمة فى التاريخ مثلما هى شروح القديس المسيحى توما الإكوينى أو الفيلسوف الفرنسى امانويل كانط.
ولقد اعتبر العلماء أن ابن خلدون يعد فى طليعة مؤسسى علم الاجتماع فى العصر الحديث، وذلك لأنه قدم رؤية شاملة حول الظواهر الاجتماعية دون أن يعطيها تفسيرًا ضيقًا، بل أعطاها مناحى أبعد من مجرد الوقوف عند جانب واحد منها، ومن ثم فنراه يأخذنا إلى تفسيرات اقتصادية وسياسية وتاريخية وجغرافية، وبالطبع لم يكن الدين غائبًا عن هذا المشهد.
لو أتينا إلى أساس الاجتماع الإنسانى عند ابن خلدون سنرى أن الطبيعة الإنسانية عنده تأخذ بعدين هما:
إنسانى وحيوانى، فالإنسان فى نظره ذو طبيعية مزدوجة إنسانية وحيوانية، لكنه رغم ذلك فهو أقرب إلى الإنسانية منها إلى الحيوانية، وقد أرجع قيام المجتمع الإنسانى وعمران العالم إلى هذه الطبيعة المزدوجة، واستنتج منها حقيقتين هما: ضرورة التعاون والتجمع (ربما تفرضها الطبيعة الإنسانية فى الإنسان) وضرورة السلطة (ربما تفرضها الطبيعة الحيوانية فى الإنسان).
ولقد كان ابن خلدون يرى دائمًا أن هناك تلازمًا بين الدولة والمجتمع الذى كان يسميه العمران، للدرجة التى شبه هذه الصلة بالعلاقة بين الصورة والمادة، فكما أنه لا تنفك الصورة عن المادة فلا انفكاك بين الدولة والمجتمع.
العصبية وعوامل انهيار الدولة:
اتخذ ابن خلدون من فكرة العصبية ركيزة أساسية لقيام المجتمع الإنسانى ومن ثم قيام الدولة، ويقول عن العصبية: أنها ظاهرة طبيعية تستمد مصادرها من النسب والمصاهرة والولاء والتحالف، وأن أقوى مظاهرها تقوم على رابطة الدم.
وينبغى هنا أن نفرق بين العصبية بهذا المفهوم وبين العنصرية RACISME والتى تقوم على التحيز لجنس على حساب جنس آخر وهو معنى بغيض يختلف تمامًا ومفهوم العصبية عند ابن خلدون، الذى يمثل الإرهاصات الأولى لقيام الدولة بمعناها الحديث.
فالعصبية إذن تعد الركيزة الأولى لقيام الدولة لأنها تمثل عنصر القوة التى ربما تكبح خاصية الحيوانية عن الإنسان كما سبق القول.
ولقد حدد ابن خلدون ظواهر معينة إذا حلت بدولة تسببت فى انهيارها وقد تمثلت هذه الظواهر فى انهيار العصبية، الترف، انتشار الظلم، دخول الدولة فى مرحلة الحضارة.
ولعله هنا فى العامل الأخير يقصد الأخذ بمظاهر الحضارة دون جوهرها.
مفهوم الدولة فى العصر الحديث:
لم تكن نشأة الدول بشكلها الحالى إلا نتاج تاريخ طويل من محاولات التجمع الإنسانى التى اتخذت أنماطًا شتى، فينما كان هذا النمط فى شبه الجزيرة العربية يتمثل فى القبيلة حيث يجمع مجموعة من البشر بعض العادات والتقاليد ويأتى على رأسها شيخ القبيلة الذى تكون وظيفته تطبيق العرف المستمد من السلوك الذى تواتر عليه الناس حتى غدا ملزمًا.
فينما كان هذا نمط التجمع السكانى فى شبه الجزيرة العربية، كان نمط هذا التجمع فى القارة الأوربية التى نحن بصدد الحديث عنها يتمثل فى نظام الممالك الإقطاعية، حيث يمثل الاقطاعى الحاكم الفعلى الذى يمتلك كافة شئون التصرف داخل إقطاعيته حتى ولو خضع للإمبراطورية فيما يتعلق بالسلطات الخارجية، وقد تجلى هذا الشكل فى ظل الإمبراطورية الرومانية التى كانت تمثل السلطة الخارجية العليا، بينما كانت كل إقطاعية تدير شؤونها الداخلية حسب سلطات سيدها الإقطاعى.
وقد ظل هذا الأمر إلى أن ظهرت الدولة فى العصر الحديث بمكوناتها التى تعارف عليها الفكر الحديث من شعب وإقليم وسيادة.
الديموغرافيا والقارة الأوروبية:
الديموغرافيا أو علم السكان هو فرع من علم الاجتماع والجغرافيا البشرية وهو يقوم على دراسة خصائص السكان فيما يتعلق بحجم الكثافة السكانية، وسبب تمركزها فى بعض الأجزاء دون غيرها، والتركيبة العرقية ومكونات النمو السكاني، وما يتعلق به من معدلات الإنجاب والوفيات والهجرة ونسب الأمراض والأعمار وغيرها.
كما يهتم هذا العلم بالبعد الاقتصادى، ومستوى الدخل للأفراد، وأسباب تفاوت مستوى المعيشة بينهم.
وتكمن أهمية هذا العلم فى أنه يمكننا من أن تتوافر لدينا مرجعية معلوماتية تتعلق بالوضع السكانى للمجتمع، بما يعطينا صورة واقعية عن خصائص السكان على النحو الذى أشرنا إليه آنفًا، ومن ثم وضع خطط نمو بما يتوافق مع المعلومات التى توافرت لدينا وباعتبار أن الاهتمام بالسكان يعنى الاهتمام بأهم عوامل النمو على الإطلاق وهو الإنسان نفسه وهو قوام المجتمع وعماد نهضته.
الديموغرافيا باعتبارها علم السكان على النحو الذى أشرنا إليه لم تأت نتائجه فى صالح القارة الأوربية التى تعانى منذ عقود من تغيير فى تركيبتها السكانية، ليس بسبب تزايد أعداد المهاجرين إليها، وإن كان هذا يمثل أحد الأسباب، بل لأن خصائص المجتمع الأوروبى أضحت تشكل خطرًا عليه هو نفسه، وهو الأمر الذى تزايدت معه أصوات اليمين المتطرف داخل هذه المجتمعات تحذر من أن المستقبل سيحمل تغيرًا جذريًا فى تركيبة المجتمع الأوربي، بحيث أنهم يتصورون أن الأغلبية السكانية لن تكون للأوربيين بل للوافدين من المسلمين على حد قولهم، حيث يلقى هذا الفريق تبعة ذلك على الحكومات التى سمحت بهذا الزحف العرقى على المجتمعات الأوربية، حتى أن مدينة مارسيليا العاصمة الثانية لفرنسا تعد من أوائل المدن الأوروبية التى ينتظر أن تتغير تركيبة السكان فيها لصالح أغلبية غير فرنسية.
هذا الرأى الذى يقول به اليمين المتطرف يحمل جانبًا واحدًا من الصحة رغم عنصريته، بيد أن هناك عوامل أخرى ساهمت بشكل كبير فى تغيير التركيبة السكانية للمجتمعات الأوروبية، وهو ما يمكن أن نسميه بالعوامل السلوكية التى أثرت فى ديموغرافيتها.
( الإجهاض .. المثلية الجنسية..)
الإجهاض:
تشير إحصاءات عمليات الإجهاض فى المجتمعات الأوربية إلى أنه أضحى يمثل وجهًا من الحرية الشخصية اللصيقة بالشخص فالمرأة وحدها هى التى تقرر ما إذا كانت تحتفظ بالجنين حتى يكتمل نموه ويعرف طريقه إلى الحياة أم تجهضه، غاية الأمر أن التشريعات وضعت ما يمكن أن نسميه تنظيمًا لممارسة هذا الحق.
نتعرض لأمثلة توضيحية بخصوص هذا الشأن فى بعض الدول الاوربية.
إيطاليا:
لقد أصبح الإجهاض سلوكًا يتفق والقانون منذ عام ١٩٧٨ هذا رغم معارضة الكنيسة الكاثوليكية هناك باعتبار أنه سلوك غير قويم ويخالف القانون الكنسى، لكن الغلبة كانت للقانون المدنى، وكل ما أتى به هذا القانون هو مجرد تنظيم عملية الإجهاض بأن يكون فى الأشهر الثلاثة الأولى وحتى الأسبوع الرابع والعشرين عندما تكون الأم مهددة، أو أن هناك تشوهات بالجنين ويوجب القانون أن تجرى عمليات الإجهاض داخل المستشفى وتحت رعاية طبية كاملة.
أسبانيا:
منذ العام ٢٠١٤ أقرت الحكومة الأسبانية قانونًا يعطى النساء الحق فى إجهاض أنفسهن دون مبرر، شرط ألا يتجاوز عمر الجنبن أربعة عشر أسبوعًا إلا إذا كان يمثل خطرًا على الأم، فيمكن إجهاضه حتى الأسبوع الثانى والعشرين.
بريطانيا:
يعتبر الإجهاض قانونيًا فى بريطانيا منذ عام ١٩٦٧ ولقد توسعت مبرراته إلى درجة كبيرة، حتى أنه يتعدى المبررات التقليدية والتى مقتضاها أن يمثل الجنين خطرًا على الأم أو أنه سيولد مشوهًا إلى مجرد تضرر الصحة الجسدية أو الذهنية للمرأة الحامل، بل ويمكن أن يقاس على هذا السبب من أسباب الإباحة أسباب عدة، حتى يمكننا أن نقول بأريحية أن الإجهاض فى بريطانيا بيد المرأة فى المقام الأول وربما الأخير أيضًا.
وبطبيعة الحال الإجهاض يجب أن يكون تحت إشراف طبى وآمن.
فرنسا:
لا يختلف الأمر كثيرًا عنه فى الأمثلة التى ذكرناها فهو حق المرأة تأتيه كلما دعت الحاجة إليه، وكلها تدور حول الصحة الجسدية والذهنية للمرأة، بل إن مجلس الشيوخ الفرنسى قد أقر مشروع قانون يعاقب فيه المواقع التى تنشر أخبارًا كاذبة بشأن الإجهاض، وذلك رغم معارضة الكنيسة الكاثوليكية، بل واحتجاج رئيس مؤتمر أساقفة فرنسا على هذا المشروع وبعثه رسالة احتجاج إلى رئيس فرنسا حينها فرنسوا هولاند، يطالبه فيها بسحب مشروع القانون هذا لأنه يمثل انتهاكًا لحرية التعبير، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا وأصبح الإجهاض حقًا تأتيه المرأة دون قيد إلا تلك القيود التى تجعله أكثر أمانًا لها.
والجدير بالذكر أن إباحة الإجهاض على هذا النحو كان أمرًا سعت إليه المنظمات الحقوقية التى تهتم بشئون المرأة داخل المجتمعات الأوربية.
وأما عن موقف منظمة الصحة العالمية، فيبدو أنها لا تبدى تحفظًا بشأن إباحة الإجهاض، غير أنها تشدد على أن يكون آمنًا، حتى أن المنظمة قد أصدرت تقريرًا قالت فيه إن ٢٥ مليون حالة إجهاض غير آمن تحدث عالميًا كل عام.
المثلية الجنسية Homosexuality :
تعد المثلية الجنسية ضاربة فى عمق تاريخ التجمع السكانى وهى عبارة عن توجه جنسى يتم بين أشخاص من نفس الجنس، فيكون الذكر مثليًا بينما تكون الأنثى مثلية، وأسباب هذا السلوك عديدة بعضها يكون بيولوجيًا والبعض الآخر نفسيًا، نتيجة لتجارب فى الماضى جعلت الشخص ينحرف إلى هذا السلوك الذى يعد غير طبيعي، رغم أن هناك دراسة حديثة تقول أنه لا يوجد عامل وراثى بعينه مسؤول عن المثلية الجنسية، لكن على أية حال فإن المثلية الجنسية على هذا النحو المبسط تلقى حماية فى كل التشريعات الأوربية دون استثناء، كما هو الأمر فى المملكة المتحدة التى كانت من أوائل الدول الأوروبية رعاية لحقوق المثليين عن طريق تشريع المساواة، حتى أن الزواج المثلى لم يعد يزعج المجتمع البريطانى ولا المجتمع الأوروبى بصفة عامة.
وبموجب قانون التبنى والطفل فى بريطانيا أقر البرلمان أنه يمكن تقديم طلب تبنى طفل، إما من شخص واحد أو من زوجين، ثم تم بعد ذلك التخلى عن شرط الزواج بين الشريكين، مما يسمح للشركاء والأزواج المثليين بالتبنى، بل إن من حق المثليات أن ينجبن اطفالًا إن رغبن عن طريق شراء حيوان منوى لذكر غير معروف، ثم تتم بعد ذلك عملية التخصيب الصناعى، وهذا شأن الغالبية العظمى فى النظم القانونية الأوروبية بعدما أضفت الأمم المتحدة الحماية الواجبة لحقوق المثليين ورفض كافة أشكال التمييز ضدهم، وقد دعت فى مناسبات عدة إلى إلغاء كافة القوانين التى تحمل تميز ضد المثليين ومزدوجى الميل الجنسى ومغايرى الهوية الجنسية، ولم يعد غريبا فى كافة بلدان أوروبا أن يرتفع علم المثلية الجنسية الذى يحمل ألوان قوس قزح فوق كل البنايات يضاهى أعلام الدول الوطنية ويأخذ ذات مرتبتها.
وربما يكون جديرًا بالذكر هنا أن الصفة الجرمية للزنا قد تم التخلى عنها فى كافة القوانين العقابية فى أوروبا منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمان، ولم يعد للزنا سوى وصف مدنى فحسب يتيح لأى من الزوجين أن ينفصل عن الآخر، بما يمكن أن يرتبه ذلك من حق مدنى للطرف الذى لحقت به الإساءة.
هل ضربت الديموغرافيا أوروبا قبل الكورونا؟
هنا وبعد هذا العرض المبسط يحق لنا أن نتساءل:
هل ضرب علم السكان بالمعنى الذى قمنا بإيضاحه عند مقدمة هذا الطرح القارة العجوز، التى قد أصبحت على وشك هذا الوصف بالفعل، ليس هذه المرة من حيث قدمها فى التاريخ والجغرافيا، بل من حيث إملاءات الديموغرافيا؟
هل تغيرت التركيبة السكانية بحيث ازداد متوسط الأعمار فى هذه القارة إلى هذا الحد الذى أشعل ضجيج اليمين هناك محذرًا بأن أوروبا ستكون ملكًا لشعوب أخرى إذا استمرت التركيبة السكانية على شكلها الحالى. انخفاض عدد المواليد وازدياد متوسط الأعمار، وفى المقابل النمو السكانى لمن يعتبرهم اليمين من الوافدين أو الغازيين للمجتمع الأوروبى ويقصدون بكل تأكيد المسلمين!
وهل يحق لنا بعد أن نتأمل الشريحة العمرية للذين قُضوا بسبب فيروس الكورونا فى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا و الغالبية العظمى منهم من كبار السن أن نربط بين الديموغرافيا وبين الكورونا ؟!
وهل يحق لنا أن نقول إن هذه القارة قد ضربتها إملاءات علم السكان قبل أن يضربها هذا الفيروس اللعين، وأنها ستنتبه حتمًا إلى هذا الخطر الكامن فى تغيير تركيبتها السكانية بعدما تمضى هذه الأزمة التى ضربت العالم بأثره؟!
أظن أن الإجابة ستكون بالإيجاب، وربما أستدعت أوروبا مقدمة ابن خلدون العبقرية وهى تتحدث عن أساس الاجتماع الانسانى كأساس لقيام الدول وعمران العالم، كما صنعته من قبل مع ابن رشد.
إن التاريخ الإنسانى لا بد وأن يتوقف عند هذا المشهد العصيب الذى لم يخلو فيه جزء من هذا العالم دون أن يضربه فيروس مازال حتى الآن غامضًا، بما يجعلنا نعتقد أن العالم ما بعد هذا المشهد لن يكون أبدًا كما كان قبله، وبقى أن تتعلم البشرية من التاريخ، فربما كان معيار الأمم الصالحة هو مقدار ما تتعلمه من دروس التاريخ.