مقال مبسّط حول العلمانية وتاريخها وعلاقتها بالدين
العلمانيةSecularism كأى مفهوم واسع الانتشار ، تتعدد فيه التعريفات ، وإن كان معظمها يدور حول محور أساسى هو العناية بأمور الدنيا فكراً وعملاً ، عناية قد تصل أحياناً إلى إنكار ما عداها . وفى هذا المقام لابد من الوقوف قليلاً عند هذا المصطلح ؛ لصلته الشديدة بالمبحث الذى ندرسه (علاقة القومية بالدين) . ولنبـدأ بقاموس أكسفورد الذى أورد بعض تعريفات العلمانية كمذهب تمييزاً لها عن “الدينية”، فذكر أنها : اللادين ، هى غير المقدس ، هى الارتباط بالحياة وقضاياها منفصلة عن الكنيسة والدين ، هى أن تكون الأخلاقيات لصالح البشر مع استبعاد أى اعتبارات تأتى من الإيمان بالله أو حياة أخرى .
وقد ذكرت دائرة معارف كمبردج تواريخ هذه التعريفات ، كما تحدثت عن ” علمنة الكنيسة “Secularization of Church أى توجيه ممتلكاتها من الخدمة الدينية إلى الخدمة المدنية ، وفرقت بين رجال الكنيسة الدينين والعلمانيين . أما الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية فأشارت – ضمن ما أشارت – إلى أن العلمانيين هم الأدباء والمفكرون والفنانون غير المعنيين بالشئون الكنسية ، وقد امتد فيها التمييز ليشمل – مع الأفراد – المؤسسات والمبانى ، فالمنشآت العلمانية هى القصور والمتاحف ودور الأوبرا ، تمييزاً لها عن الأبنية الدينية كالكنائس . من أجل ذلك كان من الضرورى الوقوف على تعريف محدد للعلمانية من خلال توضيح جذور العلاقة – باختصار – بين الدين والدولة والحياة فى أكبر ثلاث ديانات سماوية ( اليهودية ، المسيحية ، الإسلام ) .
ففى اليهودية ، حين نرجع إلى ” العهد القديم ” بدءاً بأسفاره الخمسة الأولى التى تحمل اسم ” التوراة ” أو توراة موسى ( التكوين ، الخروج ، اللاويين ، العدد ، التثنية ) والأسفار اللاحقة ، وإلى كتب تفسير هذه الأسفار ( التلمود بقسميه المشناة والجمارة ) نجد تعدداً فى موقف اليهود ؛ فمنهم من يقف عند قبول الأسفار الخمسة الأولى ، ومنهم من يقبل العهد القديم كله، ومنهم من يجعل للتلمود وأقوال الشراح الهيمنة على نصوص التوراة. ويبدو من هذا أنه حين تضيق النصوص ، تتسع معها دوائر الدنيا أو ” العلمانية ” ، وإن كان الأغلب عندهم هو الترابط الوثيق بين النصوص والحياة اليومية .
وفى المسيحية ، نجد أنها تقوم على ” نظرية السيفين ” ، أى ازدواج السلطة فى المجتمع بين مملكة السماء والحاكم الزمنى ، وهو تمييز واضح فى صميم الفكر المسيحى يصل أحياناً إلى حد التناقض بين خدمة السيدين ، فالمسيح ( عليه السلام ) جاء ليتحدث عن مملكة السماء ، وأن الإنسان لا يستطيع أن يخدم سيدين فى وقت واحد ( الدنيا والدين ) وعندما أراد اليهود أن يختبروه فى أمر العلاقة بين الدين والدولة ( وقد مارس اليهود توحدهما من قبل ، ومارس أنبياؤهم السلطان الدنيوى باسم الدين ) أرسلوا إليه من يسأله : ” يا معلم أيجوز تعطى جزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع خبثهم . وقال لماذا تجربوننى يا مراءون ؟ أعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله . فلما سمعوا تعجبوا وتركوا ومضوا ” ( إنجيل متى، الإصحاح الثامن عشر ). وقد مرت المسيحية فى أول أمرها بمرحلة استضعاف فى ظل سلطة سياسية لا تؤمن بها ولا ترضى بوجودها ( الدولة الرومانية والدولة البيزنطية فى عهودها الوثنية ) ثم جاءت مرحلة القوة عندما آمنت الدولة بالمسيحية ، وأخذ نفوذ الكنيسة يتزايد فى امتلاك الأراضى وجمع الأموال ، بل وتكوين الجيوش لمنازعة الحكام . وظلت كنائس الشرق على وفاء للمبدأ الإنجيلى ” ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” إلى أن حدث الضغط على هذا الامتداد الكنسى من جبهتين : جبهة داخلية يمثلها الإصلاح الدينى وقيام البروتستانتية فى أوربا، وبخاصة فى القطاع الشمالى والأوسط ( فى ألمانيا على يد لوثر ، وفى سويسرا على يد كالفن ) وارتبط هذا الإصلاح بنمو الرأسمالية والتصنيع وقيام الدولة القومية ، وجبهة خارجية تمثلها رغبة الحكام فى التحرر من نفوذ الكنيسة البابوية . وكان الاتجاه العلمانى مستفيداً من كل هذا بتقليص مساحة ” المقدس ” واحتلال مواقع كبرى فى ساحته ، وإحلال الفكر العقلانى محل الفكر الكنسى القديم ، وقد زاد من مكانة هذا الاتجاه الجديد ما حققه “الإنسان” من اكتشافات علمية، وما ابتكره من أدوات السيطرة على مكونات البيئة الطبيعية . وعليه، فقد تبلور مفهوم العلمانية بأنه الجزء الآخر النامى المقابل لتراجع الكنيسة أوالدين فى حياة الغرب . أنظر ، عبد العزيز كامل : الإسلام والعروبة فى عالم متغير ( الكويت : كتاب العربى ، الكتاب الثانى والعشرون ، يناير 1989 ) ص : 281 – 292 .
أما الإسلام ، فإن علماءه متفقون على أن الكتاب والسنة مصدران تُستنبط منهما الأحكام الشرعية ، ويأتى من بعدهما الإجماع والقياس . ويجمع الإسلام بين الشمول الزمانى والمكانى والموضوعى الذى يمثله قول الله تعالى مخاطباً رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” ( الأنبياء : 107 ) وهو الفطرة فى قوله تعالى : ” فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التى فطر الناس عليها ” ( الروم : 30 ) ومنهج القرآن هو إجمال ما يتغير ، وتفصيل ما لا يتغير ، وذلك من ضرورة خلود الشريعة ودوامها . فالجزئيات الناشئة عن كثرة التعامل متجددة بتجدد الزمن وصور الحياة ، وقد مهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه من بعده طريق الاستنباط لمن جـاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم ، وبهذا اتضح مقدار سعة هذه الشريعة ، وتناولها لكل ما يجد فى الحياة ، وصلاحيتها لكل الشئون فى كل زمان ومكان . والعبادات فى الإسلام من ثوابته ، لا تتغير ، ( مع مرونة فى التطبيق تقتضيها ظروف المرض والضعف والسفر ) والمعاملات أكثر إجمالاً وأقل تفصيلاً ، لما فى طبيعتها من تغير، ومنها نظم الحكم والاقتصـاد والأنشطة العلمية بآفاقهـا المختلفة التى يكتفى فيها الإسلام بالمبادئ أكثر من اهتمامه بالتفصيلات . وعلى أساس ما تقدم ، فإنه إذا كانت العلمانية هى التوسع فى الأمور الدنيوية ، فهذا مما يدعو إليه الإسلام ، ولا تعارض فيه بين الدين والدنيا . يقول تعالى : ” هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ” ( الملك : 15 ) ويقول تعالى مخاطباً رسوله – وهو خطاب إلى كل إنسان – ” وقل ربى زدنى علماً ” ( طه : 114 ) أنظر فى ذلك ، محمود شلتوت : الإسلام عقيدة وشريعة ( القاهرة : دار الشروق، 1983 ) ص : 489 وما بعدها ، وأنظر أيضاً ، كمال صلاح محمد رحيم : السلطة فى الفكرين الإسلامى والماركسى ، مرجع سابق ، ص 304 ، 309 . أما إذا كانت العلمنة صراعاً بين الدين والعقل ، فالدين أمره معروف عند المسلمين ، والعقل خاطبه الإسلام ، وورد مع مشتقاته فى القرآن تسعاً وأربعين مرة ، وورد العلم ومشتقاته أكثر من سبعمائة وخمسين مرة .
وقد بذل جيل الصحابة والتابعيين وعلماء الحديث جهوداً خارقة فى جمع القرآن وترتيبه ، وتحقيق الأسانيد والمتون ، وهى جهود عقلانية أخلاقية لا نجد لها نظيراً فى أى حضارة أخرى . كما أن ” العلمنة المعاصرة ” – كما يراها البعض – ليست مفهوماً جدلياً يناقض الإسلام ، بل هى مسألة ملحة وحاضرة تخص العرب والمسلمين بشكل عام من أجل تشكيل الدولة الحديثة التى يتمنى كل قادة المسلمين تطبيقها فى مجتمعاتهم ، وإدخال الأفكار الحديثة إلى مجتمعات لا تزال عتيقة البُنى والهياكل فى معظمها . أنظر فى تفاصيل ذلك ، محمد أركون : تاريخية الفكر الإسلامى( بيروت: منشورات مركز الإنماء القومى، 1986 )ص : 276وما بعدها.