مفاهيم وشخصيات

نبذة مختصرة عن حياة “أفلاطون” مع شرح مبسّط لفلسفته

نبذة مختصرة عن حياة “أفلاطون” مع شرح مبسّط لفلسفته – بقلم: بكري علاء الدين

أفلاطون Plato أو Platon فيلسوف يوناني، ولد في أثينة وتوفي فيها عن عمر يناهز الثمانين عاماً، ينتمي إلى أسرة أرستقراطية، إذ يتحدر أبوه أرسطون من كودرس، آخر ملوك أثينة، وتنتسب أمه فريقتيونة إلى الحكيم سولون، وتضم أسرتها الأرستقراطية بعضاً من رجالات أثينة وأعيانها، منهم أخوها خرميدس Charmdes وابن عمها أقريطياسCritias، وهما من الأعضاء الثلاثين في حكومة الأقلية (الأوليغارشية) التي حكمت أثينة (404- 403ق.م) في شباب أفلاطون. ويعد أفلاطون من أشهر فلاسفة اليونان القديمة، إلى جانب معلمه سقراط[ر] وتلميذه أرسطو[ر]، وممن تركوا أثراً عميقاً في تاريخ الفلسفة وفي تاريخ الفكر السياسي.

وهو مؤسس القول الفلسفي أو الخطاب الفلسفي، الذي تناط به وظيفة سياسية وأخلاقية، فقد عمل على أن تتبوأ الفلسفة مكانتها في الحاضرة (المدينة) وأن تتكشف للعيان رسالتها الأخلاقية والاجتماعية، وذلك بإنشاء خطاب يستطيع أن يكون، من الناحية الشرعية الحكم الفصل بين جميع الخطابات المتنافرة التي يتبادلها المواطنون ويتداولها الخطباء؛ خطاب مؤسس على العقل أو على الفكر، الذي ميزه أفلاطون من الرأي، ويكشف انسياق هذا الأخير مع المصلحة الفردية الأنانية ومع الهوى. والوسيلة إلى إنشاء هذا الخطاب هي الحوار الذي يحيل ما انقلب من التناقض بين متحاورين إلى جدل ينشىء حقيقة أخرى ليست لأي منهما، بل لهما معاً، لأنها قائمة في كل منهما. فخطل الرأي ينبع من الانقياد للمصلحة الخاصة والنفع الشخصي، ومن الانغماس في عالم المحسوسات واللذائذ والشهوات، كما ينبع من التعليم الذي لا ينشد العدالة والفضيلة ولا يتعلق بالخير العام.

وأفلاطون هو مؤسس «الأكاديمية» التي ابتناها في أحد أطراف أثينة عام 387ق.م معبداً لربات الشعر، وقد عرفت بهذا الاسم لإطلالها على حديقة البطل أكاديموس. وأقام فيها أفلاطون يعلم الناس على طريقة أستاذه سقراط ولا يطلب من أحد أجراً. واصطفى من بين تلاميذه ثمانية وعشرين تلميذاً كان يذهب بهم في بعض الأحيان إلى منزله، وفيهم أرسطو. ومع أن «الليسية» الأرسطية نافست الأكاديمية، فقد ظلت الأكاديمية، مركزاً للتدريس والتأليف من دون انقطاع حتى أغلقها الامبراطور جوستنيان عام 529 للميلاد.

سيطر التيار الأفلاطوني على الفكر المسيحي، بدءاً من القديس أوغسطين[ر] الذي اعتنق المسيحية في القرن الخامس للميلاد بعد أن قرأ مؤلفات أفلاطون. واستمر هذا التيار الأفلاطوني، عبر حلقة كامبردج حتى القرن التاسع عشر من دون أن يتنكر للعقائد المسيحية. ذلك أن الطروحات الأساسية للفكر الأفلاطوني تؤكد روحانية النفس وتعالي القيم الأخلاقية. وقد صمدت هذه الأفكار حتى ظهور فلسفات ماركس ونيتشه وفرويد التي رأت أن في المفاهيم الأفلاطونية أوهاماً مضلِّلة.

حياته وعصره

كانت أثينة و«الدول ـ المدن» التي تجاورها في حال حروب وفوضى دائمة قادت أثينة إلى الانحطاط. إذ توالت هزائم أثينة في نزاعاتها مع إسبرطة وحلفائها. ويرجع بعض المؤرخين هذا الانحطاط إلى التضخم السكاني الذي تزامن مع الرخاء والديمقراطية لعصر بركلس Precles فقد تهافت على أثينة غرباء من كل مكان، وفيهم السفسطائيون (المعلمون)، وغيرهم، حتى تجاوز عدد سكان المدينة وضواحيها (الداخلة في قوام دولتها) نحو 200ألف نسمة. في حين أن أفلاطون وأرسطو كانا يقدران العدد المثالي لسكان هذه الدولة ـ المدينة بنحو 15ألف نسمة، ذلك أن المدينة وضواحيها تقع في منطقة جبلية محدودة الموارد، تعتمد على الحرف اليدوية والتجارة. وقد تعاظم دور العبيد في الخدمة المنزلية حتى صارت الأسر الأرستقراطية الحاكمة أقلية بالنسبة إلى الغرباء.

عاش أفلاطون انحطاط أثينة وانكسار شوكتها إثر هزيمتها البحرية في صقلية عام 413ق.م. ومع أنها حققت بعض الانتصارات البحرية العارضة فقد انتهت هذه الحرب باستسلام أثينة للقائد الإسبرطي ليساندر Lysandre الذي فرض عليها نظام حكم الأقلية (الأوليغارشي).

كان أفلاطون يميل في الفلسفة، قبل أن يصحب سقراط إلى رأي هيرقليطس. وأخذ في أول أمره يتعلم الشعر واللغة إلى أن حضر يوماً حديثاً لسقراط يقدح فيه صناعة الشعر، فأعجبه ما سمع منه ولزمه خمس سنين. ولما سقط حكم الأقلية وحل محله النظام الديمقراطي في أثينة تم توجيه تهمة إفساد الشبان إلى سقراط، وحوكم في جلسات عامة، وأصدر المحلفون حكمهم عليه بالإعدام سنة 399ق.م، فانسحب تلاميذ سقراط الذين أذهلهم الحكم إلى مدينة ميغاره Megare، جنوب أثينة، وابتعد أفلاطون عن وطنه مدة طويلة طلباً للعلم في أماكن أخرى، ويقال إنه زار مصر في أثناء ذلك. والأرجح أنه زار جنوبي إيطالية وصقلية. ومن المؤكد أن أفلاطون كان يبحث عن أصحاب فيثاغورس، وخاصة أرخيتاس التارنتي Archytas، وهو عالم رياضيات وقائد عسكري حظي بإعجاب أفلاطون الشديد، ومثّل لديه صورة الفيلسوف الملك. وقد تعرف بفضله إلى ديون Dion حليف الطاغية ديونيسوس Dionysos الأكبر، وبدأ من ثمّ بالتردد إلى بلاط هذا الحاكم الصقلي الشاب. إلا أن النفوذ الذي بدأ أفلاطون يمارسه على هذا الملك المستبد لم يرق له طويلاً. وطرد أفلاطون من سرقوسة (سرقسطة)؛ وبعد رحلة محفوفة بالأخطار  في البحر وقع أفلاطون أسيراً وبيع مع العبيد، ولكن أبيقيرس وهو من أصدقائه حرره لقاء مبلغ من المال، واستطاع أفلاطون أن يعود إلى أثينة عام 387ق.م ليؤسس الأكاديمية؛ فكانت أول جامعة تضع برنامجاً لتأهيل رجال الدولة وتكوينهم تكويناً عقلياً منظماً. وقد حاول أفلاطون في أكاديميته أن يستدرك بالتربية ما فاته بالسياسة.

وبعد موت الطاغية ديونيسوس دعاه صديقه «ديون» لزيارة صقلية مرة ثانية، للإشراف على تربية ديونيسوس الأصغر آملاً أن يتبنى هذا الحاكم أفكار أفلاطون ويحقق حلمه في أن يكون الملك فيلسوفاً. غير أن عودته بعد عشرين سنة لم تثمر كثيراً. فقد نشأ خلاف بين الحاكم الجديد «ديون» اضطر الأخير بنتيجته إلى الهرب من صقلية. ورجع أفلاطون خائباً إلى أثينة، إلا أنه عاد إلى صقلية للمرة الثالثة بدعوة من ديونيسوس الأصغر نفسه نحو سنة 361ق.م. وظل سنة يتابع تدريس الأمير، ثم انقلب إلى أثينة بعد إخفاقه في التوفيق بين الأمير وصديقهما المشترك «ديون» وإخفاقه في تحقيق ما كان يصبو إليه. ومنذ عام 360ق.م وحتى وفاته ظل أفلاطون يدِّرس في الأكاديمية. وفي عام 357 نجح «ديون» في تولي السلطة في صقلية إلا أنه قتل عام 354ق.م وبموته فقد أفلاطون نهائياً الأمل بتحقيق حلمه في أن يكون الحاكم ملكاً وفيلسوفاً في آن معاً.

مؤلفاته

غلب على مؤلفات أفلاطون طابع «المحاورة» الذي ورثه عن أستاذه سقراط. ويسهل تعرف أسلوبه التربوي في محاوراته الزاخرة بجميع الآراء والمناقشات التي كانت تدور في أثناء الدروس. وقد زخرت هذه المؤلفات بصورة نابضة من جميع فروع المعرفة، واشتملت على الدروس الحية التي كان يحضرها تلاميذه من جميع الطبقات والأنحاء إضافة إلى عرض شامل للتراث الفكري اليوناني من هوميروس إلى سقراط.

يجمع مؤرخو الفلسفة على أن مؤلفات أفلاطون وصلت كاملة. وأسهمت بعض الكتب والرسائل المنحولة في تضخيم عددها. إلا أن النقاد والباحثين ميزوا الأصيل منها وصنفوها بحسب مراحل تأليفها. وسميت مصنفات الشباب بـ«المحاورات السقراطية»، لأنها تظهر آراء سقراط وتدافع عنها، وتطرح أسئلة حول مفاهيم أساسية وتتركها معلقة، ومن أشهرها «احتجاج سقراط» وهو دفاعه أمام المحكمة قبل موته، و«هيباس الأصغر» وهي حوار يدور حول العلاقة بين العلم والعمل، و«بروتاغوراس» أو السفسطائي وتدور حول الفضيلة. ومن أهم خصائص هذه المرحلة نقد آراء السفسطائيين خصوم سقراط ومعاصريه. أما «محاورات الكهولة» فتنسب إلى ما بعد عودته من جنوبي إيطالية وإنشاء الأكاديمية. وتتصف ببروز الأفكار الفيثاغورية. ومن أشهرها «المأدبة» وموضوعها الحب الذي كان أفلاطون سباقاً إلى تناوله تناولاً فلسفياً. ومحاورة «فيدون» التي تعالج موضوع خلود النفس بعد الموت. وقد أتم أفلاطون تأليف كتابه في «السياسة» (الجمهورية) الذي كتب في أوقات متباعدة في هذه المرحلة، وفيه تظهر معالم المدينة الفاضلة. أما محاورة «بارمنيدس» فيعرض فيها نظرية المُثُل. وأما «محاورات الشيخوخة» فيغلب عليها الطابع المستقل لأفكار أفلاطون، ويبرز تفوقه في الجدل، فهو يحاول تشخيص حالة السفسطائي ويميل إلى تصنيف المعاني في أنواع وأجناس، ويعرج على معنى الوجود. ومن أشهر محاورات هذه المرحلة «طيماوس» وفيها يتناول موضوع الطبيعة ونشأة الكون والخالق. وأما آخر ما كتب أفلاطون فهو «النواميس» أو «القوانين» ويتألف من اثنتي عشرة مقالة يشرّع فيها للمجتمع.

المعرفة

يعد أفلاطون فيلسوف المعرفة، فقد لخص آراء سقراط في رده على السفسطائيين.

وهذا يعني أنه تعلم من أستاذه الفروق الفلسفية الأولى بين المعرفة الآنية المتغيرة القائمة على الحس والمعرفة التي تستقر في العقل بعد تجريدها من صور المحسوسات. وأضاف أفلاطون إلى ما تعلمه من أستاذه أول صيغة مذهبية للمعرفة. فقد أكد أن الإحساس ليس كل المعرفة كما توهم أتباع هيراقليطس[ر] والسفسطائيون. وفي رأيه لو كان حكم بروتاغوراس القائل إن: «الإنسان مقياس الأشياء جميعاً» صحيحاً، لصدقت جميع الآراء المتناقضة، وامتنع الحكم على الأشياء والأخلاق والصناعات، فيستحيل العلم والعمل. وهذا يقود إلى التفرقة بين المعتقدات الشعبية والآراء المشهورة من جهة والأقوال العلمية من جهة أخرى. ويترتب على هذه التفرقة نتائج مهمة في مجال العلم القائم على البرهان والأخلاق العلمية.

صحيح أن هنالك أفكاراً تتغير بتغير الإدراك الحسي، إلا أن الأصح هو العلم المستند إلى القوانين الثابتة. فالنفس ترقى بدراسة الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، وهي علوم تقوم على وقائع محسوسة إلا أن موضوعاتها تتمايز من المحسوسات. فليس الحساب عد الجزيئات كما يفعل التاجر، بل هو ما تفحص به الأعداد نفسها بصرف النظر عن المعدود. وليست الهندسة في قياس المساحات بل إنها تقوم على دراسة الأشكال. وقس على ذلك الفلك والموسيقى. إنها البحث عن الأصول الثابتة في كل علم على حدة. ويتدرج الفكر في سلم المعرفة من الإدراك الحسي إلى الظن أو الرأي، ثم يصعد إلى العلم الاستدلالي، وينتهي أخيراً إلى التعقل المحض بحثاً عن العلم الكامل الذي يكفي نفسه بنفسه ويصلح أساساً لغيره. ويطلق على هذا التدرج في الارتقاء الجدل الصاعد.

نظرية المُثُل

رأى أفلاطون أن المعرفة الجدلية هي المعرفة الفلسفية الحقة. وهي تساعد على الارتقاء من الأفراد المحسوسة إلى الأنواع، ومن الأنواع إلى الأجناس. ومن تبين الصفات المشتركة بين الأجناس يتم الوصول إلى الماهيات أو المُثُل. ويقوم العقل عن طريق الجدل الصاعد باستخلاص المعاني الضرورية للحكم على المحسوسات. وفوق العقل تقوم المعاني المجردة لكل الأشياء في عالم مستثقل هو عالم المُثُل. وكل جسم أو شيء يشارك في واحد من تلك الموجودات المجردة أو المثل فيتشبه به يحصل على شيء من كماله. فكما أن مجموع الأجسام يؤلف العالم المحسوس كذلك فإن مجموع المثل يؤلف العالم المعقول. وهو العالم الموجود حقاً، وما وجود الأشياء إلا ظلال وأشباح لهذا العالم العلوي. ولمعايشة النفس عالم المثل قبل نزولها إلى هذا العالم، فإن معرفتنا الحقيقية بالأشياء تعود إلى «تذكر» المثال من غير رؤية الأشياء الحسية.

يدعو أفلاطون من يريد أن يصبح فيلسوفاً أن يرتفع بالفكر إلى عالم المعقولات حيث تهيمن المثل. فالمرء إذا رغب في الوصول إلى «الجميل في ذاته ولذاته» أو إلى مثال الجمال، فإن عليه أن يرتفع من حب الجمال الذي تتصف به الوردة أو جسم الإنسان إلى حب كل الورود وكل الأجسام. وإذا أدرك أن الجمال إنما هو الانسجام فإنه يرتقي إلى اكتشاف جمال النفوس وإلى إدراك الجمال في الفن والموسيقى، ويظل يرتقي حتى يبلغ الجمال المطلق. وإذا عُكس هذا الجدل الصاعد نزولاً يعود المرء فيكتشف الجمال في الأشياء الجزئية ويفهمه فهماً أعلى من فهمه الأول. وقد رتب أفلاطون المُثُل ترتيباً هرمياً جعل في قمته مثال الخير ويليه في المرتبة الحق والجمال.

توفر المُثُل للفيلسوف الصورة الكاملة للعلم الحقيقي وللوجود الخالد، وهما حقيقتان متكاملتان. وقد رد أرسطو على نظرية المُثُل هذه رافضاً وجودها في عالم منفصل ومستقل عن المادة  بربطه بين الصورة والمادة ربطاً يسقط المُثُل (أو الصور) من عالم مفارق إلى عالمنا الأرضي.

أسطورة الكهف:

وفي أسطورة الكهف يعرض أفلاطون في قصة رمزية، العلاقة بين العالم المحسوس الزائل والمتغير والعالم المعقول عالم الخلود والثبات. إن بلوغ «المُثُل» يحتاج إلى دربة ومران. على المرء أن يتدرج في تلقين العلوم إلى الشبان قبل تعليمهم الجدل أو «علم العلوم» على حد قول أفلاطون. ذلك أن الانتقال من الظلمة إلى النور فجأة والتحديق بأشعة الشمس يبهر العيون.

يروي أفلاطون في الفصل السابع من كتاب «السياسة» أو «الجمهورية» قصة جماعة من الناس عاشت مُكَبَّلَة بالأغلال في كهف تحت الأرض. وتمنعهم أغلالهم من النظر خلفهم لأن وجوههم تقابل جداراً تنعكس عليه صور التماثيل والأشخاص الذين يمرون خارج الكهف، وتنعكس أشباح هذه الأشياء بسبب النار الموجودة خارج الكهف على الجدار الذي تسمرت عيون الجماعة عليه، فهم لا يعرفون ولا يسمعون إلا أشباح الأشياء المتحركة على الجدار والأصوات التي يعتقدون أنها تبعث منهم. ثم تصور أن هذه الجماعة ولدت وعاشت على هذه الحالة، وهي تعتقد جازمة بأن كل ما تراه أمامها هوالحقيقة التي لا يداخلها شك. والفيلسوف وحده هو الذي يقدر على تخليص هذه الجماعة من أسر الأوهام التي اعتادوها زمناً طويلاً، وهو الذي يجرؤ على كسر أغلالهم وإخراجهم من الكهف المظلم إلى عالم النور والشمس. فالكهف رمز للعالم المحسوس وإدراك الأشباح هو المعرفة الحسية، والخلاص من الأسر يتم بالجدل، والشمس خارج الكهف هي مثال الخير. والفيلسوف هو الذي يرتقي بنفسه وبأقرانه من العالم الزائف إلى العالم الحقيقي. وعلى الفيلسوف أن يفكر في المُثُل الجوهرية التي تكمن وراء المظاهر الخارجية، وطبيعي أن لا يعرف الحقيقة بحواسه بل بتعقله ويميز العَرَض من الجوهر. وهو الذي يؤثر الحكمة ويفضلها على الثقة بالمحسوسات والآراء والظن، وهو الذي ينشد الخير والحق والجمال.

وقد حاول أفلاطون في أواخر حياته أن يلفت انتباه تلاميذه إلى الرياضيات، حتى اعتقد أرسطو بأنه تخلى عن سقراط وتوجه إلى الفيثاغورثية واستبدل بالأعداد المثل، وهذا ما عبر عنه أرسطو في كتاب «مابعد الطبيعة»: «لقد أصبحت الرياضيات عند فلاسفة العصر الحاضر كل الفلسفة، ولو أنهم يقولون: إنها إنما تدرس لأجل الباقي».

النفس الإنسانية

يرى أفلاطون في محاورة «طيماوس» أن الصانع خلق «النفس الكلية» من المتشابه واللامتشابه. ومن النفس الكلية صنع العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار، ومنها نشأ الإنسان وكل ما هو موجود تحت مقعر فلك القمر من الكائنات. كذلك خلق من النفس الكلية الكواكب والزمان. وإذا كان الزمان حادثاًَ مخلوقاً فإن «المثل» لاتعرف الزمان والتغير. والعلاقة بين النفس الكلية والنفس الإنسانية هي علاقة الكلي بالجزئي. إن النفس الإنسانية الصادرة عن النفس الكلية شبيهة بها ولكنها تنطوي على معنى الفردية، ومع ذلك فإنها خالدة، لا تفنى بموت البدن. وهذه نقطة أساسية لالتقاء أفكار أفلاطون مع عقائد الديانات السماوية. وقد ساق أفلاطون براهين عدة على خلود النفس منها:

ـ أن النفس قبل أن تهبط إلى عالم الأرض، موجودة منذ القدم في عالم المُثُل، وفي هذا العالم كانت تعرف صور جميع الأشياء. وحين استقر بها المقام على الأرض أقامت علاقة مع الأشياء المحسوسة عن طريق «التذكر». فميزت هذه الأشياء من صورها الثابتة في عالم المُثُل ومن المواد التي تتشكل منها هذه الصور. وإذا كان وجودها قديماً في العالم العقلي، فإنها ستظل خالدة، بمعنى أنها لا تنحل ولا تفنى مثل المادة.

ـ أن التناوب بين الحياة والموت، الذي يُشاهد في العالم المحسوس يتيح للنفس ولادة جديدة ويخلصها من آثار المادة.

ـ لما كانت النفس بسيطة فإنها لا تنحل أبداً، كما هو حال الأشياء المادية التي تصير إلى الفناء بعد تحللها إلى العناصر التي تركبت منها. أما النفس فتظل خالدة لأن أصلها سماوي، وغير خاضع للفساد والتجزئة.

ـ النفس هي التي تمد الأجسام بالحياة، ولما كانت لها مشاركة مع «مثال» الحياة، فإنها لا تقبل الموت كالأجسام. ولا يمكن أن تتحول إلى نقيضها، فستظل موجودة إلى الأبد.

إن خلود النفس كما يتبين لدى أفلاطون يجمع بين الأزلية والأبدية. ولا يمكن أن تكون هذه البراهين مقنعة إلا إذا سبق للمرء الإيمان بوجود «عالم المُثُل» الذي يجعله أفلاطون أصلاً كلياً للوجود. ويكمن الخلاف الأساسي بين أفلاطون وأرسطو حول حقيقة عالم المُثُل الذي من دون وجوده الخارجي الموضوعي لا يمكن لفلسفة أفلاطون أن تستقيم. وقد نفذت موضوعية هذا العالم إلى الفكر العربي الإسلامي «المشرقي» (الإشراقي)، في حين رفضها ابن رشد حين أعاد إلى أرسطو صورته الواقعية والمادية عن طبيعة العالم على مستوى المادة والصورة. وحلت محل فكرة المُثُل فكرة العقولالمثالية المفارقة للمادة التي قال بها الفارابي وابن سينا من تبعهما.

وإذا كانت المعرفة «تذكراً» لدى أفلاطون، فإنها عند أرسطو وأتباعه عملية تجريدية للإحساس الملازم لإدراكنا المباشر لموضوعات العالم الخارجي، ومن ثم فإن المعرفة مستمدة من هذا العالم الأرضي وليست قائمة في النفس قبل التصاقها بالبدن. مع أن أفلاطون ترك أثراً قوياً في الفلسفة العربية ـ الإسلامية في نظرية العقول، فإن هذه الفلسفة انحازت إلى أرسطو فيما يتصل بنظرية المعرفة المستندة إلى التجربة الحسية.

الأخلاق والسياسة

ترتبط الأخلاق بالسياسة ارتباطاً وثيقاً لدى أفلاطون، والخلاف بينهما يشبه الخلاف بين  الجزئي والكلي، أو الفردي والجماعي: فالأخلاق غرضها استكمال فضائل النفس الإنسانية على مستوى الأفراد أما السياسة فإنها تدبير أحوال الناس المجتمعين في الدولة ـ المدينة. إلا أن الأخلاق والسياسة يجمعهما عند أفلاطون مثال الخير. وإن تطلع الإنسان إلى الخير يعني لدى أفلاطون التطلع إلى السعادة. وهذا الربط بين السعادة والخير ورثه أفلاطون عن أستاذه سقراط. لكن أفلاطون حاول في نظرية «المُثُل» إعطاء فكرة الخير بعداً ميتافيزيقياً. والمعروف أن الخير الأسمى لدى أفلاطون هو مثال الخير المطلق، وهو رأس المُثُل كافة، ويأتي تحته بالتدرج الهرمي مثال الحق ومثال الجمال. وإذا سلك المرء الطريق المعاكس النازل، يجد أن المادة والجسد كليهما من عالم الشر. من ثم فإن الفيلسوف هو الذي يرتفع بالعقل فوق مستوى المادة والجسد ويقترب أكثر فأكثر من الخير المطلق. فالخلاص الأخلاقي للفرد على قول أفلاطون هو إماتة العلائق الحسية بالزهد، والارتقاء إلى مستوى التأمل العقلاني الخالص. ويتجلى الخير لدى أفلاطون في أشكال شتى أعلاها صورة الخير المثالية في رأس الهرم؛ وثمة نوع آخر من الخير هو اكتشاف الانسجام الموجود في الصور الحسية، وهنالك مرتبة أدنى يتحقق فيها الخير هي اكتشاف المُثُل عن طريق العلم. أما المرتبة الأدنى للخير أو السعادة فهي الحصول على اللذة التي لا يعقبها ألم ولا يتبعها ندم.

وقد حاول أفلاطون إضافة إلى هذا الجانب النظري في الأخلاق أن يدرس الفضائل بوصفها الباعث على الانخراط في العمل الأخلاقي. وقسَّم الفضائل بحسب تقسيمه للنفس. فالنفس الإنسانية لديه تتألف من ثلاث قوى ترتبط فيزيولوجياً بالجسم الإنساني.

تقع القوة العاقلة التي يجب أن تسود في النفس على مستوى الرأس ويناسبها في المجتمع الفلاسفة والسياسيون الذين يدبرون شؤون المدينة. أما القوة الغضبية فإن مركزها الصدر والقلب، وهي توازي طبقة الجند في المجتمع وهم حراس المدينة والمدافعون عنها. في حين ترتبط القوة الشهوية بالبطن والفرج ويوازيها في المجتمع الطبقة الدنيا منه. ولكل قوة فضيلة، فالقوة العقلية فضيلتها التأمل وبلوغ الحكمة، والقوة الغضبية فضيلتها الشجاعة، أما القوة الشهوية ففضيلتها العفة. ولما كانت هذه الفضائل قائمة على قوى متنازعة فيما بينها فلابد من فضيلة رابعة تضبط ما ينشأ عنها من اختلاف، وهذه الفضيلة هي فضيلة العدالة.

ويلج المرء عالم السياسة عند أفلاطون من باب البحث في فكرة العدالة، وهو أمر ناقشه في كتابه «السياسة» أو «الجمهورية». ورأى أن تحقيق العدالة هو شأن عام يشارك فيه الجميع لبناء الدولة التي تقيم توازناً بين الأفراد، ويحصل كل فرد بموجبه على ما يستحق. ولأفلاطون باع طويل في السياسة وآراء مستجدة في تاريخ التطور السياسي لأثينة، كما أنه عاين عن كثب إخفاقات الدول وتجاوزات أنظمة الحكم المختلفة. ويعتقد أفلاطون في كتابه «السياسة» أن المجتمع الإنساني يتدهور، وأنه وجد زمان كان الناس فيه يديرون شؤونهم من دون حاجة إلى الدولة. ولما كان هذا العصر الذهبي قد ولى من غير رجعة فإن على الدولة أن تهتم بتربية الأفراد وتعليمهم ليقيموا فيما بينهم أسساً يتفقون عليها لإدارة شؤونهم.

وهنا يمكن فهم الدور الأساسي للفيلسوف، إنه المعلم الذي يوجه المواطنين نحو فضيلة التعلم والمعرفة، وإقناعهم بأن الفرد يجب أن يكون في خدمة الدولة. ولتحقيق الدولة المثالية أو «المدينة الفاضلة»، رأى أفلاطون تطبيق نوع من الاشتراكية للقضاء على الزواج والملكية بوصفهما مصدر النزاعات في المجتمع، فجعل النساء مشاعاً والأولاد أبناء للدولة التي تعدهم إعداداً عسكرياً وثقافياً وأخلاقياً ليصبحوا مواطنين قادرين على الدفاع عن دولتهم. ولكن أفلاطون، وبعد رحلاته إلى صقلية، وتقدمه في السن عدل عن آرائه السياسية هذه في كتاب يعد من أواخر مؤلفاته هو كتاب «النواميس» أو «القوانين». وفيه تتخذ الدولة طابعاً جديداً قائماً على احترام الدين، وعلى تحديد عدد السكان. كما تخلى أفلاطون عن فكرة الشيوعية في الملكية والزواج لكنه ترك للدولة سلطة كبيرة في وضع قيود تؤكد أن الزواج مؤسسة غايتها خدمة المجموع، كما وجه التربية في كتاب «النواميس» إلى فرض تعليم الرياضيات لأنها تعين على فهم الانسجام، والانسجام يقود إلى الخير. وفتح الباب واسعاً أمام المشرعين في الدولة، وأعطاهم المكان الذي شغله الفيلسوف في الدولة السابقة. وصار الشكل الذي يجب أن يتخذه الحكم مزيجاً من الارستقراطية والديمقراطية. فمنح المواطن الحق في الحرية، لكنه ترك شؤون السياسة للقادة من الأشراف.

أثر أفلاطون في الفلسفة العربية الإسلامية

لقد أثرت فكرة «المدينة الفاضلة» في الفكر العربي الإسلامي. وأول من كتب في هذا الموضوع أبو نصر الفارابي[ر] (339هـ/950م)، إلا أنه وظف المفهوم الأفلاطوني في سياق إسلامي بحت، قدم له في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، بمقدمات كلامية مستفيضة، وميز المدينة الفاضلة من المدينة الفاسقة والمدينة الضالة والمدينة الجاهلة والمدينة المعتزلة متأثراً بالتوجهات الإسلامية. وتبعه في النهج نفسه ابن باجة الأندلسي في كتابه «تدبير المتوحد». وظلت المؤلفات السياسية الفلسفية بمنأىً عن التأثير المباشر في المجتمعات الإسلامية التي أفرزت دولاً قائمة على العصبية القبلية والدين كما فصلها ابن خلدون فيما بعد.

ولا يمكن في هذا الصدد الحديث عن أهمية الملخص الذي وضعه ابن رشد لكتاب أفلاطون «السياسة»، ويرى بعضهم أن ابن رشد قام بعمله هذا بناء على طلب أبي يحيى والي قرطبة وشقيق السلطان الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور. لقد كان غرض ابن رشد من تلخيص كتاب «الجمهورية» أو «السياسة» لأفلاطون هو التنديد بجميع أشكال التسلط والاستبداد وتعرية «وحدانية التسلط» أو الحكم الدكتاتوري.

ولم يكن تفضيل أفلاطون على أرسطو في التراث العربي الإسلامي ناتجاً عن اختيار بين أحد الفيلسوفين من دون الآخر. وإنما كان الفلاسفة العرب المسلمون، بحسب الأحوال، يلجؤون على السواء إلى أحدهما دون الآخر للدفاع عن فكرة إسلامية يؤمنون بها. وقد حاول الفارابي التوفيق بين الاتجاهين دفاعاً عن وحدة الحقيقة في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين أرسطو وأفلاطون الإلهي». ولم يكن الفارابي يدري بأنه كان يوفق بين أفلاطون وأفلوطين[ر]. فكتاب الربوبية (أثولوجيا) المنحول لأرسطو ليس إلا أجزاء من كتاب «التاسوعات» لأفلوطين.

لم يدرس أثر أفلاطون في التصوف الإسلامي دراسة مستفيضة إلى اليوم. ولكن أثره في التصوف الفلسفي أكثر وضوحاً في واقع الأمر من التصوف الكلاسيكي. فقد أثر أفلاطون في الفارابي وإخوان الصفا والسهروردي المقتول أكثر من تأثيره في الجنيد والحلاج والقشيري.

كذلك لم يقتصر تأثير أفلاطون في الفكر الإنساني على السياسة، بل تجاوزها إلى مجال الأدب والفن. فالمعروف أن أفلاطون بدأ حياته شاعراً ثم تخلى عن كتابة الشعر. ورأى أن الفن عامة هو محاكاة وتقليد، يبتعد عن المُثُل مرتين، مرة حين يقلد الأشياء المادية ومرة حين يعرف أن هذه الأشياء ليست سوى أشباح زائلة للمثال الأصلي.

كذلك فتحت نظرية أفلاطون التي عرضها في محاورة «فيدون» الباب واسعاً أمام الجدل حول أصل الحب، الذي قرر أفلاطون أنه ناشيء عن علاقة بين ما هو سماوي وما هو أرضي. ومن هنا يحس المرء بالمفارقة والغموض في تحديد طبيعة الحب، لأنها في الواقع طبيعة مزدوجة.

أما أفكار أفلاطون عن الله والخلق فظلت تخضع لتأثير الأساطير البابلية والنظريات الفيثاغورية. وهو يعتقد بأن الله خالق الأرض والسماء بما فيها من نجوم وكواكب، وأنه خلق الأشياء من المادة على شاكلة الصور الهندسية. وقد تبنى الفلاسفة العرب المسلمون نظرية الخلق الأفلاطونية (علم النشأة) لفهمهم إياها على أنها خلق من عدم، في مقابل نظرية أرسطو التي تقول بقدم العالم.

المصدر: الموسوعة العربية

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى