مقالات تاريخية

كيف ساهم «الغباء» في تغيير مسار التاريخ البشري؟

كيف ساهم «الغباء» في تغيير مسار التاريخ البشري؟ – عبد الرحمن ناصر

«إن نجحت الخطَّة فهي جريئة، وإن فشلت فهي متهوِّرة». *الجنرال كارل فون كلوزوتيز

إذا كان الذي يُسيطر على الماضي سيسيطرُ على المستقبل كما قال جورج أورويل، هل يمكن إذن أن نقول بأنّ انتصارًا عسكريًّا وحتى إن كان في معركة غير هامَّة ساهم بشكلٍ كبير في تكوين التاريخ البشريّ؟ بل وتغيير مساره بالطَّبع. المؤلِّف إريك دورشميت في كتابه «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ» يذهب إلى أنّ الغباء كان عاملًا رئيسيًّا لتغيير عناوين كتب التاريخ، كذلك كان للصُّدف أو قُل للطَّبيعة دورها في ذلك. في هذا التقرير سنعرض عليك أربعة نماذج لهذا الـ «غباء» العسكريّ الذي ستفاجأ به حين تقرأ أن هناك قادة عسكريين وقعوا فيه!

  • 1- معركة واترلو والحظ السيء لنابليون

الهزيمة الأبرز للقائد العسكريّ المحنَّك والإمبراطور نابليون بونابرت، كان حظُّه سيئًا فيها جدًّا ولم يكن متوقَّعًا لقائد بمثل حنكته أن ينهزم أبدًا مثل هذه الهزيمة النَّكراء، ما جعل البريطانيون يطلقون على الشخص الذي يواجه حظًّا سيِّئًا أنَّه واجه «واترلو». ربما لم يكن الأمر خطأً من بونابرت نفسه، كان الخطأ على قائدين بارزين في جيشه، المارشال ني، والمارشال غروتشي، هذا ما يخبرنا بهِ التاريخ، وما يخبرنا به نابليون نفسه في كتابه ذكريات سانت هيلانه. كان نابليون قد انهزم عام 1813 في معركة الأمم أمام الجيوش الأوروبية التي استشعرت خطره عليها ونفته إلى جزيرة ألبا، لكنه وفي أقلّ من سنة استطاع أن يهرب من منفاه ويتربَّع على عرش فرنسا من جديد ويسير بجيشٍ قوامه 722 ألف جندي لمحاربة أوروبا، لكنّ حظه كان سيئًا في «معركة واترلو».

السببان الأساسيان لهزيمة نابليون:

  • المارشال غروتشي: فَهِمَ الأوامر بشكلٍ خاطي

قبيل المعركة النهائية خاض الجيش الفرنسيّ حربًا مع الجيش البروسيّ الذي كان المارشال بلوتشر على رأسه، بانسحاب الجيش البروسيّ أرسل نابليون المارشال غروتشي بجيش قوامه 34 ألف جندي (و108 مدفع) لملاحقة الجيش البروسيّ وذلك لتأكيد نصره وتشتيت أعدائه إذ كان من المنتظر أن ينضم الجيش البروسي إلى الجيش البريطاني في المعركة القادمة، معركة واترلو. خاض غروتشي غمار نهر الراين ليطارد البروسيين، كان بلوتشر القائد البروسي المحنَّك ذكيًا فاستطاع أن يفرِّق جيشه نصفين الأول ليطارده غروتشي والآخر لينضم للبريطانيين، قرأ غروتشي هذه المناورة بسطحيَّةٍ شديدة ما جعله يطارد فلول الجيش البروسي ويبتعد تمامًا عن ميدان المعركة، عودة غروتشي وقطع الطَّريق على الجيش البروسي من الانضمام للجيش البريطانيّ كانت لتقلب موازين المعركة، علَّل غروتشي موقفه فيما بعد بأنّ القائد العام في الحرب فقط هو من يأتيه الإلهام وبقية الضباط عليهم تنفيذ الأوامر فقط. لكنّ غروتشي حتَّى لم يفهم الأوامر على شكلٍ صحيح!

  • المارشال ني: التسرُّع

في خضمّ المعركة ارتكَبَ المارشال لي عدَّة أخطاء عسكرية كبرى، فالمهام التي أوكلها إليهِ بونابرت لم تؤدّ على نحوٍ كافٍ ما أوقف سرعة تقدُّم الجيش الفرنسي نحو النَّصر. كان ني قد غيَّر ولاءه، فمنذ ثلاثة أشهر فقط كان قد أقسم للإمبراطور لويس الرابع عشر أن يُقدِّم له بونابرت في قفصٍ حديديّ! الآن هو يحارب إلى جانب بونابرت. الخطأ الجسيم الذي فعلهُ ني أنَّه خاض بسلاح فرسانه (البالغ 5 آلاف فارس) حربًا غير صحيحة بخطأ عسكريٍّ فادح، كيف إذن؟

من الأسس العسكرية في ذلك الوقت، أنّ سلاح المُشاة يحتاج سلاح الفُرسان بقدر احتياج سلاح الفرسان (المدججين بالحديد) لسلاح المشاة. المارشال ني أمر فرسانه بالتقدُّم تِجَاه الجيش البريطانيّ في أهبَّة الحرب، دون غطاء من سلاح المشاة. من المعروف في تلك الحروب أنَّهُ حين تقوم بتوجيه سلاح الفرسان يجب أن يكون من خلفهم سلاح المشاة ليقوم بتوجيه المدفعية التي يستولي عليها الفرسان تجاه العدوّ، فتوقع الهزيمة بالعدوّ تمامًا، فبعد السيطرة على مدفعيته توجهها نحوه. وجه لي فرسانه نحو البريطانيين متناسيًا تلكَ الحقيقة العسكريّة. استطاع الفرسان أن يسيطروا على منطقة المدافع لكنهم أبدًا لم يستطيعوا أن يوجِّهُوها ناحية البريطانيين والبروسيين، ولا أن يعطِّلوها بالمسامير (يُقصد وضع مسمار ضخم في فوهة المدفع فيعطله مؤقتًا)، هنا جاء دور سلاح الفرسان البريطانيين الذين استطاعوا دحر الفرسان الفرنسيين (فرسان الإمبراطور نابليون) وسحقهم بالمدفعية تمامًا، والهزيمة النكراء في المعركة الفاصلة التي كانت لتغيِّر عناوين التاريخ في العالم الحديث. بعدها سلَّم نابليون نفسه للبريطانيين الذين نفوه لجزيرة سانت هيلانه، ويقضي هناك ستّ سنوات في المنفى قبل أن يموت.

لوحة للماريشال لي في هجومه

  • 2- معركة أجينكورت

يُشار دومًا للملك هنري الخامس باعتبارهِ أعظم ملوك إنجلترا، الملك الشَّاب الثلاثيني صاحب الطموح الكبير، ما إن وصل للعرش بعد وفاة أبيه حتى جمع جيشا قوامه 60000 إنجليزيّ للمطالبة بالعرش الفرنسي، فأكمل ما سُمِّي فيما بعد بـ «حرب المائة عام». لكنّ الانتصار الذي سجَّلهُ هنري الخامس في هذه المعركة يظلّ فارقًا تاريخيًّا في التاريخ الأوروبي الحديث وتاريخ بريطانيا، حيث كان شاهدًا على الصدف الطبيعية حين تتوافق مع ما يمكن تسميتهُ «غباء العدوّ» ليكتمل النَّصر بشكلٍ عجيب.

بعد مرحلة خاضها جيش هنري الخامس في غزو الشمال الفرنسي، وفي عودته لحصنه كالايس، والذي كان يفصلهُ عنه مسافة يومٍ واحدٍ فقط، كانت المفاجأة، جيشًا عرمرمًا فرنسيًّا كان يتعقَّبه للإيقاعِ به، بقيادة جون لومانغز، والقائد المحنك شارل دالبرت، الجيش الفرنسي كان قوامه كبيرًا جدًا بالنسبة للجيش الإنجليزي، القوات الإنجليزية كانت ما بين 6 إلى 8 آلاف جندي من ضمنهم 5 آلاف رامي سهام. بينما كانت القوات الفرنسية تتجاوز العشرة آلاف. بعض المؤرخين يقول إن العدد كان 25 ألف للفرنسيين و5 آلاف فقط للإنجليز. أيًا يكن فقد كان عدد قتلى الفرنسيين هذا اليوم قد وصل 10 آلاف قتيل!

“هنري الخامس”

كان وضع البريطانيين كالتالي: قائد واحد محنَّك هو هنري الخامس، رماة السهام الطويلة الذين كانوا هم القوة الضاربة للجيش البريطاني خلال حرب المائة عام، والجوع يأكل بطونهم بينما كانت الديزنتاريا وبعض الأمراض الأخرى تتعقبهم. لكن على الناحية الأخرى كان عدد الفرنسيين كبيرًا جدًّا، ولكنهم متفرِّقون بين كونتات ونبلاء يتصارعون فيما بينهم. شارل دالبرت غيَّر أرض المعركة ثلاث مرات في هذا اليوم ليختار المكان الأنسب للمعركة، وفي النهاية اختار سهلا زراعيّا عرضُهُ نصفُ ميل في أجينكورت. طلب الملك هنري الخامس السلام لكنّ النبلاء الفرنسيين كان جوابهم واضحًا: الموت لهنري الخامس.

مساء هذا اليوم أمطرت السماء مطرًا غزيرًا وتحوَّلت أرضية السَّهل الزراعيّ إلى طين ولم ينقطع المطر طوال الليل. القائد الفرنسي أدرك الكارثة، لكنّ النبلاء وفرسانهم –المدججين بما يقارب 40 إلى 50 كلج من الحديد في دروعهم– لم يدركوها، اندفعوا وراء «شرف الفرسان» بينما كان هنري الخامس يبحث عن ثغرة يستطيع أن يباغتهم منها. وما حدث يمكن تسميته «غباء» أو تشرذم القيادة، كالتالي:

استطاع رماة السهام الطويلة أن يصيبوا بعض الإصابات في الجيش الفرنسي، كانت إستراتيجية القائد العسكري الفرنسي هي تقدُّم فصيل من المشاة والرماة للمناوشة والخروج من هذا الوحل، الاستفزاز الذي استطاع رماة السهام الطويلة أن يُسبِّبوه للفرنسيين قتلهم تمامًا، انطلق 600 فارس فرنسي دون إذن القائد للأمام وبذلك شتَّتوا صفوف المشاة والرماة من جيشهم، وانطلقوا صوب الجيش البريطاني الذي كان أكثر تنظيمًا، استطاع 5 آلاف رامٍ بالطبع أن يجندلوا هؤلاء الفرسان الذي كانت حركتهم بطيئة للغاية، حاول فريق آخر من الفرسان اللحاق بالفرسان الآخرين لكن عبثًا، فجثثهم هم وأحصنتهم منعتهم بالطبع من تحقيق أيّ نصر على الجيش البريطاني. وانتهت المعركة التي دامت أربع ساعات بانتصار هنري الخامس الذي يشار إليه باعتباره سفاحًا لأنه قتل جميع الأسرى الفرنسيين مخالفًا بذلك أخلاق الفروسية التي سادت أوروبا في هذا العصر.

  • 3- حملة كارانسيبس: برميل خمر سيتكفل بهزيمة جيشٍ كامل!

ربما حين تقرأ عن هذه المهزلة ستعلم أيِّ رجلٍ هو الملك جوزيف الثاني ملك النِّمسا. قرَّرَ الملك فجأةً أن يقوم بحملة عسكريَّة -وهو في آخر عمره– لاستعادة البلقان من أيدي العثمانيين الأتراك. بدأ حملته بجيشٍ كبير جدًّا كالتالي:

  • ستّة فيالق تعدادها 245 ألف جندي.

  • 37 ألف حصان.

  • 900 مدفع.

  • 1000 طن بارود أسود.

العجيب من أمر هذا الملك أنَّه نصَّب قادة غير مشهورين بالقدرة ولا الحنكة العسكرية، فجعل الماريشال لاكزي هو القائد، واستبعد الجنرال لاودون الأشهر في الامبراطورية بمنجزاته العسكرية للإمبراطورة ماريا تيريزا والدة جوزيف الثاني. سار الإمبراطور العجوز على رأس جيشه الكبير التعداد. لكنَّه لم يكن قويًّا ولا حازمًا كفاية لقيادة الجيش، فقد كان مترددًا. فمثلًا: بعد أن أمر بالهجوم على الصحن التركي في بلغراد أوقف الهجوم فجأةً رغم أن ميزان القوى في يديه، بسبب فقط أنّ حلفاءه الروس لم يأتوا لمعاونته (كان الروس يخوضون حربًا أخرى حينها). ساءت صحته جوزيف الثاني، ولعدم خبرته اختار موضعًا سيئًا للتخييم بجيشه على نهر الدانوب فتفشت الأمراض في جيشه، الذي أصبح كالتالي:

  • 172 ألف جندي مصاب بالملاريا والديزنتاريا!

  • توفي 33 ألف من أفضل جنوده.

لم يتوقَّف الأمر عند هذا فحسب، فحتَّى محاولة الملك الوحيدة للنجاح بالاستعانة بالماريشال لاودون لم تجعله يحرز نصرًا. لعلّ هذا ما قد يتوقعه القارئ عن الغباء الذي نتحدث عنه وكيف غير مسار التاريخ، لكنّ الغباء الذي نقصده ليس هذا أيضًا.

الغباء الذي نقصده: بعدما حاول الماريشال لاودون أن يلملم الجيش، تمركز الجيش على نهر يحيط بقرية كارانسيبس التي ستشهد أحد أغرب المواقف العسكريَّة في التاريخ البشري، ففي أحد الليالي عبر بعض سلاح الفرسان النمساوي جسرًا إلى قرية كارانسيبس ليواجهوا جيشًا تركيّا كانوا في انتظار وصوله لمحاربته لكنهم لم يجدوا سوى بعض الغجر فاشتروا منهم الخمر الهولنديّ وبدأوا ليلتهم. طمع الجنود والمشاة في الخمر ولم يوافق الفرسان على ذلك فاشتبك السلاحان في جيشٍ يموج بالعرقيات والقوميات، وتكره بعض القوميات البعض الآخر.

ساد الهرج والمرج في الجيش الكبير، وساد الصراخ «أتراك أتراك، انجوا بجلودكم..» وهكذا حتى أن الملك المريض نفسه حاول أن يثنيهم عن ذلك بامتطاء جواده، ولكنه لم يستطع أن يوقف جيشه من الهرب فوقع عن فرسه، ثم وقع في النهر. متسللًا إلى قرية كارانسيبس خوفًا من الأتراك هو الآخر ليصل هناك ويعثر على حرسه الشخصي ويعود من حملته الكبيرة بخفَّي حُنين. العجيب أن الجيش التركي حين وصل بعد يومين لم يجد جيشًا نمساويًّا كان تعداده حين خرج ربع مليون جندي، وجد جثث 10 آلاف نمساوي فقط.

4- لسعات النحل في أفريقيا تهزم بريطانيا بسبب «الغباء»؟

في بداية الحرب العالمية الأولى كانت «جيرمان إيست أفريكا» (حاليا رواندا وبوروندي)مدينة صغيرة ومستعمرة ألمانيَّة، قرَّرت الإمبراطورية البريطانية أن تبدأ أولى حروبها في إفريقيا في مواجهة العدوّ الألمانيّ من هنا. كلفت الكولونيل أيتكينبمهاجمة جيرمان إيست أفريكا. جمع جنوده من الهنود غير المدربين، ولكنه جمع جيشًا قوامه 88 آلاف جندي. بالطبع كانت الأساطير الخاصة بأفريقيا تسري بين الجنود عن آكلي لحوم البشر وغيرها من الأساطير ما دبَّ الرعب في نفوسهم، هذا أولًا. ثانيًا كان الجنرال أيتكين يتبع شعورًا عسكريًّا غريبًا بفوقيَّته العسكريَّة، فقد كان يعتقد أنه سيذهب إلى هذه المستعمرة ويحتلها ويعود قبل عيد الميلاد في ديسمبر 1914، لكن ما حدث كان خلاف ذلك.

على الجانب الآخر كان اللواء الألماني المحنَّك بول فون ليتوور فوربيك. كان فوربيك لا يمتلك جيشًا قويًّا فقد تصدى للثمانية آلاف الذين يقودهم ايتكين بـ 1300 ضابط وجندي ألماني وإفريقي فقط و 3 آلاف حمَّال. فيما عُرف بمعركة تانغا.

بدأ الجنرال أيتكين الإنزال على الشاطئ الإفريقي الذي لا يعلم عنهُ شيئًا، كان الشاطئ مليئا بالأشجار والأعشاب، وحين حاول جيشه التخييم خيَّم في مستنقع! ولأن أيتكين يرفض مبدأ الاستطلاع فقد أمر بالهجوم دون أن يستطلع عن قوات عدوِّه، وهنا كانت الهزيمة التي انتهت حين خرجت على جنوده أفواج النحل الإفريقي التي كانت متجمِّعة في خلاياها أعلى الأشجار فهرب الجنود وقتلوا بعضهم بعضًا! بعض الصحافة البريطانية للتذرع للهزيمة النكراء قالت أن بول فون اعتمد طريقة جديدة في الحرب وهي أفواج النحل المدربة على الحرب!

كانت هذه هي الحرب الأولى لبريطانيا في أفريقيا في الحرب العالمية الأولى، ومع هزيمة الجيش البريطاني استطاع الألمان تجميع سلاحهم الذي خلَّفوه وراءهم واستخدموه في الحروب القادمة ولم يسلِّم بول فون أبدًا جيرمان إيست افريكا إلا بعد نهاية الحرب عام 1918، وبعد هذه الموقعة تحديدًا رفعت رتبته من لواء إلى كولونيل، بينما تم تخفيض رتبة أيتكين من كولونيل إلى لواء!

المصدر: ساسة بوست

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى