الرأسمالية هي إحدى المكونات المركزية في الكيان الغربي الحديث، بل لن يكون من قبيل المبالغة إن اعتبرناها تمثل المركز في بنية هذا الكيان، تزامن ظهورها مع ظهور الدولة بشكلها الحديث. وقد تحركت، ومازالت تتحرك، في فلكها منتجاتُ الغرب الثقافية، أو بالاصطلاح الماركسي مثّلت البنية التحتية للمنتج الفكري الغربي. إلا أنها منذ نشوئها كانت في حاجة ماسة لأيديولوجية تمثل الغطاء ومبرر القبول، فكانت الليبرالية غطاءها الأيديولوجي، حيث لم يكن بمقدور الرأسمالية أن تسعى لتحقيق مكاسبها بمعزل عن مبررات تمنحها القبول لدى قوى المجتمع المختلفة، فكان لزاماً عليها وهي تطالب بحرية العمل والتملك – وهي مطالبها بالأساس – أن تدمجها في سياق حقوقي أكثر اتساعاً وأقدر على جذب الآخرين، فتستطيع من خلال هذا السياق أن تضمن تحقيق مطالبها في حرية العمل والتحرك، دون أن تثير رغباتُها الجامحة ردود فعل رافضة.
وكانت الحداثة هي الأساس الفكري الذي ارتكنت عليه الرأسمالية في مواجهتها لميراث الماضي ومراكز السيطرة عليه، الإقطاعية والدينية، وفى الوقت عينه كانت الغلاف الترويجي الذي تتحرك في سياقه الرأسمالية. وكان للأفكار الحداثية بريقها على الصعيدين: الداخلي الغربي والخارجي العالمي على حد سواء، فتحرك الفكر الغربي في سياق حلم تحقيق الكمال الإنساني في هذا العالم دون حاجة لتأجيل أخروي، في الوقت الذي مثّلت طموحاً لدى الشعوب غير الغربية للحاق بركب حضارتها؛ مما أدى إلى قبولها – في الغالب – دون مساءلة أو نقد لخصوصية النشأة الغربية لمنظومة الحداثة الفكرية.
إلا أنه بعد أن حقق الغرب كثيراً من مساعيه، والتي بنيت على أساس الإيمان بالعقل وقدراته غير المحدودة في تحقيق التقدم، كانت هناك نتائج في الداخل الأوروبي والخارج العالمي أصابت تلك الثقة في العقل وقدراته بالاهتزاز، فعلى الصعيد الداخلي كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية، متضامنة مع أسباب أخرى، حافزاً على التساؤل حول العقل ودوره، ومدى قدرته على تحقيق الطموحات التي علّقها عليه الفكر الغربي. وفى الخارج العالمي، كان جشع الرأسمالية الغربية ونهبها لثروات الشعوب وفتكها وتجويعها للملايين، متحصنة في ذلك بدعاوى حداثية وتنويرية، مدعاة أيضاً لرفض منتج الغرب الحداثي بغثه وثمينه، حيث لم يحقق لمنكوبي العالم أية حداثة حقيقية، فلا أكثر من تغيرات شكلية أصابتهم، هي أقرب للتشوهات منها إلى التغيرات الحقيقية.
كانت هذه النتائج جرس إنذار للرأسمالية، حيث وجدت أن المقولات الأيديولوجية التي تحركت تحت غطائها قد أصبحت قيد التهديد، بل وغدت مرفوضة على نطاق واسع، مما حرك الكثيرين نحو نقدها إن لم يكن نقضها، وقد احتل الفكر الماركسي مركز القلب في عمليتي النقد والنقض على حد سواء، فقد قام بتعرية تناقضات الرأسمالية وكشف عن وجهها القبيح، مؤكداً على ضرورة الثورة عليها وتجاوزها. وكانت حركات التحرر في العالم الثالث تعلن هي أيضا رفضها للاستعمار ومقاومته بكافة الوسائل، رافضين الدور الذي تمارسه الرأسمالية العالمية آنذاك.
استشعرت الرأسمالية الخطر، وكان لابد لها من إيجاد بديل بعد أن تراجعت مقولات الحداثة التي كانت الحامل الفكري لها على مدار عدة قرون، فلم يعد بمكنة الحداثة المنهكة أن تقدم الغطاء اللازم أو الأيديولوجية الداعمة للرأسمالية، فحوصرت الرأسمالية بعبء الحداثة، ولم يكن ثمة بد من إعلان الثورة على الحداثة ومقولاتها المركزية، ممثلة في الذاتية والعقلانية والتقدم. وعلى صعيد آخر، يبدو أن ثمة توجهات غربية تحاول هدم الحداثة بعد أن نَعِم الغرب بمآثرها، محاولة منع الحضارات الأخرى من الوصول إليها والاستفادة منها، خاصة وأن هذه الحضارات تحاول الانتقال من ميراثها القديم إلى منظومة الحداثة. فتحاول الحضارات غير الغربية – بعد طول رفض للحداثة – أن تسلك المسار الحداثي أملاً منها في تحقيق إنجاز يمكنها من بلوغ ما وصل إليه الغرب، على اعتبار أن الحداثة هي الطريق الوحيد المتاح أمامها لإثبات ذاتها في مواجهة الإغراق الغربي، معتبرين أن الغرب لن يُقَاوم إلا بأدواته.
ومن هنا جاءت ضرورة رفض الحداثة وإعلان نهايتها أو تجاوزها؛ وبذلك تُسكت الداخل وتقدم له بديلاً، وفى ذات الوقت تقطع الطريق على مستعمراتها القديمة، والتي إن كانت قد حققت تحرراً سياسياً، فلم تستطع بعد أن تحقق تحرراً موازياً على الصعيد الثقافي، مما يعني أن مقولات الغرب حول تجاوز الحداثة ربما تصيب أتباعه في العالم بحالة من الارتباك، تجعله يحاول اللحاق بآخر مستجدات الغرب الثقافية، دون أن يضع في اعتباره أن ما يُروج له الغرب هو لخدمة مصالحه بالأساس، وبذلك يحاول العالم غير الغربي – دون وعي منه ومسكوناً بوهم الغرب المتقدم – أن يلحق بآخر منجزات الغرب الثقافية، متجاوزاً مشروعه الحداثي الذي لم يكتمل بعد، بل الذي لم يبدأ في مناطق معينة من العالم.
كان البديل الأيديولوجي، الذي وجدت فيه الرأسمالية ضالتها لمواجهة المتغيرات الداخلية والخارجية، هو ما أطلق عليه ما بعد الحداثة، والذي يرتكز على نفي أسس الحداثة، معلناً نهاية الإنسان وفشل العقلانية وانتهاءها، وعدم الإيمان بالتقدم وما يترتب عليه من رؤية خطية للتاريخ، حيث تؤكد ما بعد الحداثة على القطيعة في مسيرة التاريخ. وعلى صعيد مقولات رفض التقدم وطرح تصور القطيعة في مسار التاريخ، فإن نفي الإنسان وإعلان موته ومن قبله موت الإله يعني ضمناً أن فكرة التقدم ليست ذات محل، خاصة أن التقدم كان يقوم على الحضور الإنساني، وفى ظل غيابه لن يكون ثمة محل لفكرة التقدم، بل نفيها هو النتاج المنطقي لنفي الإنسان، ليصبح التاريخ عملية بدون ذات، أي ثمة بنية من الشروط والمحددات المادية هي التي تتحكم في توجيه حركة التاريخ وتعيين اتجاهه، وهي بنية خارجة عن إرادة الإنسان.
وهذا التصور النافي للفعالية الإنسانية وبالتالي لفكرة التقدم تضرب التصور الخطي للتاريخ القائم على رسم ملامح للمستقبل والسعي لتحقيقها، وهذا يعني، من بين ما يعنيه، إمكانية تجميد التاريخ عند لحظة الحاضر، والتي تعني ضمناً لحظة تفوق الغربي على غيره من الثقافات. ولذا يعمل خطاب العولمة – آخر صيحة من صيحات الرأسمالية – المنبثق عن فلسفة ما بعد الحداثة، على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة في استهانته بالتاريخ المشترك للأمة؛ لتحويل الاهتمام من هذا التاريخ المشكِّل للهوية إلى الحاضر الذي تسيّره قوانين السوق والتطلعات الاستهلاكية. كما أن إلغاء الفعالية الإنسانية يعني أن الحاجة أو الفعل البشري ليس هو المحرك للتاريخ، بل كما أشار ألتوسير لوجود بنية خارجة عن الإرادة الإنسانية هي التي تقوم بدور الفاعل. فمع إعلان موت الإله والإنسان لم يعد هناك مركز مرجعي يتم الاستناد إليه، ويمكننا أن نستمد من خلاله المعنى والدلالة، ويجعلنا مطمئنين لشرعية قراءاتنا وتفسيراتنا. وفى ظل هذه الحالة السائلة تقوم الشركات متعدية الجنسيات بممارسة دورها من خلال آلتها الإعلامية؛ من أجل توظيف تلك الحالة لصالحها.
وتنشأ بالضرورة عن رفض الأنساق الكبرى والفعالية الإنسانية والإيمان بالعقل وفكرة التقدم حالة من السيولة، وكان لابد من تنظير هذه الحالة، وتقديمها باعتبارها آخر مستحدثات الفكر الإنساني، فكانت فلسفة التفكيك ما بعد الحداثية، حيث أن المطلوب للرأسمالية العولمية هو عملية تسييل للكيانات القديمة الممثلة في الدولة القومية والمشروعات الوطنية والقضاء على الذاكرة الوطنية للشعوب، وكذلك نقل الفعالية إلى كيانات جديدة بلا مركز وطني، حيث أن هذه المركزية تكلف الرأسمالية ما لا تريده، ممثلاً في مطالب عمالية داخل دولها، ومطالب رعاية اجتماعية لا تريد أن تتحملها أو تساهم فيها، فمن خلال إلغاء هذه المركزية القديمة سوف تتخلص من مسئولياتها الاجتماعية، بل أتاح لها ذلك أن تنال من الدول الراغبة في الاستثمار أن تذلل لها العقبات وتقدم لها ما لم يُقدم من قبل، وتصبح بذلك سيفاً مسلطاً على رقاب العمال، حيث أن أي تململ عمالي في مكان ما يمكن تجاوزه، سواء باستبدال العمال بغيرهم، أو من خلال نقل فرع الشركة إلى مكان آخر يقبل بشروط الشركات العملاقة، بل ويرحب بها أيضا.
واقتضت الضرورة الترويجية أن تُطرح العولمة تحت لافتات الحياد الموضوعي، ففي سياق النهايات الكثيرة التي أعلنتها ما بعد الحداثة، تم في عقد الستينيات الإعلان عن نهاية الأيديولوجيا، والتي وإن خفتت باحتدام الصراعات الأيديولوجية في الستينيات، إلا أنها عادت للظهور مجدداً إثر سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي، والذي كان الممثل الرسمي للأيديولوجية الاشتراكية المناوئة للأيديولوجية الليبرالية الغربية، فظهرت أطروحة “نهاية التاريخ” كإعلان وفاة للاشتراكية، رافعة في الآن ذاته شارة النصر للأيديولوجية الليبرالية، باعتبارها آخر الأيديولوجيات، والتي سيعقبها تاريخ لا أيديولوجي تسيطر عليه الليبرالية الغربية بجناحيها الرأسمالي والديمقراطي، وفقاً لما أكده فوكوياما في أطروحته.
وإذا كان فوكوياما قد تطرق لانتهاء الصراع الأيديولوجي، وعلى الرغم من ملائمة ذلك للحظة إعلان النصر المتخيل على الغريم التقليدي، إلا أن انتهاء الصراع ليس مطلوباً؛ لأن انتهاءه بالكلية يعني انتفاء العدو. وهذا يعني أنه لن يكون ثمة خصوم للعالم الغربي في المستقبل. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الدول الغربية لن تكون في حاجة لتخصيص مبالغ هائلة للدفاع، وبالتالي سيغدو من غير الممكن إقناع الناخب الغربي بضرورة الموافقة على ميزانيات وزارات الدفاع المرتفعة، ولذا تلقفت أجهزة إعلامية وأخرى استخباراتية أطروحة صدام الحضارات لهنتنجتون؛ لأنها جهات يعنيها استمرار التوترات في العالم، وترتبط مصالحها بتفجير بؤر الصراع لتبقى مصانعها تدفع للجيوش والشعوب بمزيد من مخزون السلاح، وراحت تلك الدوائر تروج لأطروحة الصدام وتقدمها على أنها أحدث النظريات الاستراتيجية في إدارة الأزمات على المستوى الدولي، ولم تتعارض أطروحة هنتنجتون مع سابقتها لفوكوياما، خاصة أن فوكوياما تحدث عن انتهاء الصراع بشكله الأيديولوجي، في الوقت الذي تحدث فيه هنتنجتون عن صراع ذي صبغة حضاراتية.
وقد جاء هذا الكتاب من أجل أن يقبض على تفاصيل تلك الأيديولوجية العولمية، من خلال تتبع مسارها الفكري منذ نشوئها الرأسمالي، وصولاً إلى تبلورها العولمي، وتحديد الأسس الفلسفية والسياسية والاقتصادية التي تأسست عليها أيديولوجية العولمة. في محاولة لكسر حائط الحياد المصطنع، والذي تروج له العولمة على مدار العقود الماضية، مُحَاوِلة تضليل الجميع عن حقيقة أهدافها. ولا يعني ذلك أن الكتاب جاء مطالبةً برفض العولمة جملةً وتفصيلاً؛ لأن هذا لم يعد ممكناً ولا مطلوباً، فللعولمة جوانبها الإيجابية، والتي يمكن استخدامها في كسر حائط التخلف الذي نعانيه، ولكن الكتاب استهدف فقط إلقاء الضوء على الأبعاد الخفية لها؛ كي نتعامل مع الظاهرة مفتوحي العقل والعين، ونحقق أفضل المكاسب من ورائها، مع تجنب سلسلة الاستغلال التي يعانيها العالم من الرأسمالية على مدار قرون.
هذه مقدمة كتاب “أيديولوجية العولمة: دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لـ د. محمد عجلان