يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأ عنوان كتاب ” معجم الوأد، النزعة الذكورية فى المعجم العربي ” أن الكتاب هو أحد الكتب المدافعة عن قضية المرأة والداعية إلى تحريرها ، وإن كان هذا صحيحا بالفعل، إلا أن العمود الفقري للكتاب ليس قضية ذكورية الخطاب الثقافي العربي، بقدر ما هى عملية حفر نقدي فى أسس الثقافة العربية من خلال بحث العلاقة بين الوحدتين الأساسيتين لبناء أي مجتمع الرجل / المرأة، فهذا الالتواء فى العلاقة بين الرجل والمرأة ، والتى أصَّل لها الخطاب المعجمي العربي، هو مجرد مثال للالتواء فى صميم الثقافة العربية، أو بمعنى أصح هو أساس الالتواء العام فى مسار الثقافة العربية .
وصميم ذلك الخطاب الذى حاول “معجم الوأد” تعريته هو الخطاب البدائي البدوي القابع خلف مفردات اللغة، فاللغة العربية لم تتخلص من بداوتها بعد دخولها أطوار التحضر، بل احتفظت بتلك البداوة وجعلتها معيار الفصاحة، فظلت بذلك حاملة للمضامين الثقافية لمجتمع البداوة، وأصبحت مفردات اللغة غير محايدة، بل معبأة بمخزون ثقافي بدوى، تحوّل من كينونته الزمنية المتغيرة، إلى كينونة مطلقة تمارس دورا معياريا، وعندما يصبح البدوي البدائي معيارا، فالمنجز الحضاري بصفة عامة، وما يتعلق منه بطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة بصفة خاصة، سوف يخضع لتلك المعيارية البدوية، وبذلك تكون النتيجة محسومة لصالح البدائي فى مقابل الحضري.
وقد قام صاحب “معجم الوأد” بمحاولة استكشافية؛ بغية البحث عن جذور السرطان البدوي المتغلغل فى جسد الثقافة العربية، من أجل أن يلفت الأنظار إلى حيث يجب أن تلتفت، لأن أي محاولات تشخيصية للداء لا ترى تلك العلة الثقافية، فإنها تكون كمن يبنى على رمال متحركة. فلن يجدي نفعا أن نطالب بتحرير المرأة من سطوة الرجل، دون فضح الأسس الثقافية التى قام عليها الخطاب التمييزي بين الطرفين، وما يؤكد رؤية الكاتب وعمق ما سعى إلى كشفه هو أن ذلك التمييز البدوي بين الرجل والمرأة وصل إلى حالة من الرمزية جعلت المستَبَدَ به / المرأة تقبل الوضع، بل وتدافع عنه فى وجه من يريد تغييره أو تعديله، باعتباره الوضع الطبيعي، وهنا مكمن الخطورة، فقد تحولت الضحية إلى شريك فى عملية القتل التمييزي المستمرة، وأصبحنا بصدد مريض يرفض كل محاولات العلاج، حيث اكتسب التمييز الذكورى شرعيته من الضحية، وأصبح التمييز جزءا من الضمير الجمعي لأفراد المجتمع رجالا ونساء.
وفى سياق التأصيل لذلك الخطاب الذكورى، فقد تحولت الرؤية الدونية للمرأة إلى كيان ثقافي حاكم لكل من الرجل والمرأة فى آن واحد، فأصبحت المرأة فى الثقافة العربية لا تخرج عن سياق النموذج الثقافي الذكورى، ويبدو ذلك صارخا من خلال نظرة المجتمع برجاله ونسائه لإنجاب الذكر، وهذه الذكورية هي ميراث عربي بدوى قبل إسلامي، ظلت عالقة بعقلية العربي وتم تحويلها من خلال رمزية اللغة – زورا وبهتانا – إلى جزء من الإسلامي، رغم أن الإسلامي منها براء، بل جاء الإسلامي – ضمن أهم ما جاء به – للقضاء على مخلفات تلك العقلية الجاهلية، ولكن يبدو .. ليس كل ما يبتغيه الإسلام يدركه !
وأصبحت الإشكالية الآن فى عدم التفريق بين الميراث العربي الجاهلي والميراث الإسلامي، بل حصل خلط بين الطرفين، تم بناء عليه اعتبار كل ما هو إسلامي عربي وكل ما هو عربي إسلامي، رغم أن الإسلام قد جاء للقضاء على بعض ذلك العربي البدوي، ولكن لم يستطع الإسلام حتى الآن أن يقضى على كل الميراث العربي الجاهلي، ويبدو أنه لن يستطيع ذلك دون الالتفات إلى حقيقة العلة التى أشار إليها كاتب “معجم الوأد” ومحاولة علاجها، وفقا لما أشار إليه وما يمكن أن يضاف إلى مقترحاته. وبين حين وآخر تظهر الدلائل الفاضحة لذلك الميراث الذكورى الجاهلي، تحت دعاوى عديدة منها الحفاظ على المرأة واحترامها، دون احترام لها كفاعل، بل الاحترام الذكورى الذي يراها دائما قاصرة عن الفعل، بل مفعولا بها على كافة المستويات، فهي لم تخرج عن حيز الأداة الاستمتاعية، التى يحاول مالكها أن يصونها لاستمرار الدور الذي حدده لها .
وتكمن أهمية وكذا خطورة “معجم الوأد” ليس فقط فبما قدمه من تشخيص لمكمن العلة فى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة فى ظل الخطاب العربي، ولكن الخطورة فيما لم يعلن عنه الكتاب صراحة، وإن لم يتركه فى حيز المسكوت عنه، حيث أنه أحال إليه من خلال ما قدمه فى تحليله للعلاقة بين طرفي المجتمع، وما أعنيه هو البعد السياسي لـ “معجم الوأد” فالحفر فى طبقات الثقافة العربية يلفت الأنظار إلى أن الاستبداد الذي يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة دون الارتكان إلى مبررات موضوعية لذلك التمييز، ليس بعيدا عن الاستبداد على المستوى السياسي، فالثقافة التى تتقبل دون كبير عناء ذلك التمييز الظالم بين طرفيها، لن تمانع فى تقبل أي نوع آخر من الاستبداد بين أي طرفين (الحاكم والمحكومين) وتلك الثقافة التى تقبلت ذلك التمييز الذكورى، بل وحولته إلى كيان شرعي على المستوى المعرفي والاجتماعي معا، يمكنها أن تقوم بالتأصيل للخطاب الاستبدادي على المستوى السياسي، ولم لا ما دام المنبع واحدا !
وإذا كان التمييز الذكورى المتأصل فى صميم الثقافة العربية قد أدى إلى علاقة غير طبيعية وشائهة بين الرجل والمرأة، فإن ذلك قد انسحب على العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكومين، حيث انتقلت القبلية بمخزونها المنتن الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى صميم البنية السياسية العربية، بل تمت ممارسة نفس الدور التمييزي باعتبار الحاكم كائنا فوق بشرى، وأن حكمه أيا كانت سوءاته خير من الفوضى، وتحويل العلاقة من حيزها السياسي إلى حيز أبوى، مما يخرجها عن سياق المساءلة السياسية إلى علاقة احترام وطاعة .
وبدت تلك العلاقة الشائهة من خلال التأصيل للاستبداد واعتباره أفضل من الفتنة، (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم) فأصبح الخيار فى التراث السياسي العربي هو بين الاستبداد والفتنة، وليس بين الاستبداد والحرية، وتم ذلك من خلال الغطاء الديني، وإن لم يكن الغطاء الديني هو الوحيد فى أداء تلك المهمة، بل ثمة عناصر أخرى قد تكاتفت فى الوصول إلى تلك الغاية، وأبرزها ما أشار إليه الكاتب، ألا وهو اللغة المسكونة بالانحرافات التمييزية.
ولذا أصبحت العلاقة بين الحاكم والمحكوم تحمل نفس الملامح التى تحملها العلاقة بين الرجل والمرأة، فكأننا بالحاكم يحمل نوعا من الذكورة السياسية تؤهله لأن يكون قيّما مطلق اليد فى التصرف فى مقدرات المحكومين، الذين يمكن اعتبارهم يمثلون الأنثوية بإيحاءاتها السلبية فى العقلية البدوية الكامنة فى الثقافة العربية، فلقد انتقلت معادلة رجل / امرأة – ذكر / أنثى من سياقها الجنسي إلى السياق السياسي، ولا صعوبة فى ذلك على اعتبار أن الجنسي والسياسي يصنفان ضمن إطار السياق الثقافي العام، فذلك يجعل نقل تلك المعادلة من حيز الجنسي إلى الحيز السياسي نوعا من التوافق الثقافي.