الأجنحة المتكسرة – جبران خليل جبران
Public library ,
نصوص مختارة ,
6 سبتمبر, 2016,
إن للجمال لغة سماوية تترفّع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضم إليها جميع انغام البشر، تجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتاً أبدياًّ.
إن الجمال سرّ تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة، محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ، ولكنّها لا تستطيع. هو سيال خافٍ عن العين، يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفس وتنير خارج الجسد، مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لوناً وعطراً- هو تفاهم كلّي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفّع عن جميع الميول، ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبّاً.
إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس، مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما. فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها. فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظلّ طاهراً وجميلاً وخالداً.
ومرت دقائق وكلانا صامت مفكّر يترقب الآخر ليبدأ بالكلام. ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابة؟ هل هي الأصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والألسنة التي تقرّب بين القلوب والعقول؟ أفلا يوجد شيء أسمى مما تلده الأفواه وأطهر مما تهتز به أوتار الحناجر؟ أليست هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود، مقتربين من الملأ الأعلى، شاعرين بأن أجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولّد من فكر واحد أو من حاسة واحدة في داخل الانسان. كلّ ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكراً خفيّاً في عاقلة رجل أو عاطفة لطيفة في صدر امرأة. الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تعبد كالآلهة كانت فكراً خيالياً مرتعشاً بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف من الرجال. والحروب الموجعة التي ثلت العروش وخربت الممالك كانت خاطراً يتمايل في رأس رجل واحد. والتعاليم السامية التي غيرت مصير الحياة البشرية كانت ميلاً شعريّاً في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه. فكر واحد أقام الأهرام وعاطفة واحدة خربت طروادة وخاطر واحد أوجد مجد الإسلام وكلمة واحدة أحرقت مكتبة الإسنكدرية.
ما أجهل الناس الذين يتوهّمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي وإن لم يتم هذا التفاهم الروحي بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل.
إن حياة الانسان لا تبتدىء في الرحم كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم.
الوسوم:الأجنحة المتكسرة, جبران خليل جبران