كيف اختلق اليهود فكرة “العداء للسامية” ؟ – محمد خليفة حسن
لم تفتأ الصهيونية ومن بعدها الدولة العبرية تتهم شعوب العالم بعداء اليهود تحت ما أطلقت عليه مصطلح “العداء للسامية”، وقد حرصت منذ قيام إسرائيل في فلسطين على إلصاق هذه التهمة بالشعوب العربية والإسلامية، داعية اليهود العرب للهجرة إلى فلسطين بدعوى أن العرب ارتكبوا جرائم ومجازر ضد الأقلية اليهودية العربية.
مفهوم العداء للسامية
مفهوم “العداء للسامية” مفهوم يهودي صهيوني معناه الحرفي “ضد السامية”، ويترجم أحيانا إلى العربية “بالمعاداة للسامية”، و”اللاسامية”، و”كراهية السامية”. أما “الساميون” فالمقصود بهم حرفيا سلالة سام بن نوح عليه السلام، وهو أيضا مصطلح توراتي حيث تقسم الأجناس البشرية إلى ثلاثة أقسام هي:
الساميون، وينسبون إلى سام بن نوح عليه السلام، وعادة ما يشار بهم إلى الشعوب الساكنة في شبه الجزيرة العربية، وفي بلاد النهرين (العراق القديم)، وفي المنطقة السورية (سكان سوريا ولبنان وفلسطين)، وإن كانت التوراة قد أخرجت الكنعانيين من أسرة الساميين وضمتهم إلى الحاميين كنوع من الانتقام منهم ولعنتهم.
الحاميون، وينسبون إلى حام بن نوح عليه السلام، ويقصد بهم الشعوب الساكنة في القارة الأفريقية بلونهم وملامحهم المعروفة.
اليافثيون، وينسبون إلى يافث بن نوح عليه السلام وهم أصل الشعوب الهندوأوروبية الساكنة في منطقتي الشرق الأقصى وأجزاء من الشرق الأدنى القديم (بلاد فارس) والشعوب الأوروبية. وهو تقسيم عرقي يقوم على أساس من اللون.
وهكذا يقصد بالعداء للسامية عداء الشعوب اليافثية والحامية (الهندوأوروبية والأفريقية) للشعوب السامية. وقد تم اختزال “العداء للسامية” في اليهود وإخراج بقية الساميين من حظيرة السامية، واعتبار اليهود ساميين يعيشون في مجتمعات ليست سامية هي المجتمعات الهندوأوروبية.
التعريف اليهودي لمعاداة السامية
تذكر دائرة المعارف اليهودية في تعريف مصطلح “معاداة السامية” بأنه مستخدم منذ نهاية القرن التاسع عشر للإشارة إلى أي حركة منظمة ضد اليهود أو أي شكل آخر من أشكال العداء لليهود.
ويعني المصطلح كراهية اليهود بشكل عام، وهو عداء موجه إلى أشخاص يدينون باليهودية أو يعودون إلى أصول يهودية، ولذلك فهي مختلفة عن التعصب ضد اليهود في العصر الوسيط لأن هذا التعصب ديني وكان من الممكن أن ينتهي بالدخول في المسيحية.
وقد استندت نظرية معاداة السامية في العصر الحديث إلى التمييز بين عرقين: العرق الآري والعرق السامي ونسبة صفات معينة متميزة لهذين الجنسين. وانتشر هذا الاعتقاد في ألمانيا حيث أدى النشاط اليهودي في كل مجالات الحياة إلى إثارة كراهية الألمان وحقدهم على اليهود.
وكان من الصعب نسبة التعصب ضد اليهود إلى أسباب دينية بسبب المناخ الديني المتسامح في ذلك العصر، وأيضا بسبب أن اليهود تقدموا اجتماعيا في الوقت الذي ضعفوا فيه دينيًا.
تاريخ المصطلح
كان الصحفي وليام مار أول من استخدم مصطلح معاداة السامية عام 1879 وذلك لتمييز الحركة المضادة لليهود.
وبدأت تظهر الكتابات المعادية لليهود في ألمانيا مثل كتابات يوغين دورنغ ضد السيادة اليهودية على الحياة الألمانية والداعية إلى اتخاذ معايير لتصحيح هذا الوضع، وذلك بعدما لقيت هذه الحركة دفعة قوية على يد المستشار الألماني بسمارك.
وقد نشأت جماعة أو “جمعية معاداة السامية” بعدما تمكنت من جمع 255 ألف توقيع يطالب بطرد اليهود، كما قامت مظاهرات عدة في بعض المدن الألمانية مؤيدة لهذا الاتجاه. وقد رفعت ضد اليهود تهمة القتل الطقوسي (تهمة الدم) التي وجهت لهم في العصور الوسطى.
وكسب حزب معاداة السامية 15 مقعدًا عام 1893 في الرايخ Reichstag وانتشرت الحركة المعادية للسامية من ألمانيا إلى بقية البلاد الأوروبية، وتجددت في روسيا الاضطهادات الدينية عام 1881. وتم تكوين جماعة معادية للسامية في النمسا عام 1895 وتكونت إدارات صريحة معادية للسامية في فيينا رأسها كارل لويجر. وفي المجر ظهرت تهمة القتل الطقوسي عام 1882. ووصلت الظاهرة إلى فرنسا (رائدة التحرير اليهودية) وانتشرت الدعاية المضادة لليهود بواسطة بول بونتو وإدوارد درومونت مؤلف كتاب “فرنسا اليهودية” (1886).
وفي إنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة ظهرت أشكال معاداة السامية. وفي أول مؤتمر دولي لمعاداة السامية طولب بتطبيق قيود متعصبة ضد اليهود. وقد أعطى هوستون ستيوارت تشامبرلان قاعدة فلسفية لهذا المفهوم وذلك بوضعه الألمان على قمة البشرية ووضعه اليهود في أدنى سلم البشرية.
وقد أدى نشر بروتوكولات حكماء صهيون بعد الحرب العالمية الأولى إلى دعم الاتجاه المعادي للسامية، فقد أظهرت البروتوكولات رغبة يهودية في السيادة العالمية مما أدى إلى إحياء الدعاية المعادية للسامية. وقامت ثورات عنيفة ضد اليهود في المجر عام 1920. وفي الولايات المتحدة دعم هنري فورد الحركة المعادية لليهود معنويًا وماليًا. وفي ألمانيا جعل أدولف هتلر معاداة السامية أحد المبادئ الأساسية لبرنامج حزبه النازي.
مغالطات المصطلح
يلاحظ أن مصطلح العداء للسامية يحتوي ضمنا على العديد من المغالطات التاريخية والإثنية، إذ إن اليهود الأوروبيين الذين اخترعوا هذا المصطلح لا ينتمون إلى الساميين، بل هم أوروبيون يعيشون في أوروبا منذ عام 70م بعد أن طرد الرومان اليهود من فلسطين وشتتوهم في كل بلاد العالم فيما يعرف بالشتات اليهودي العام. وقد تغيرت الأوضاع العقلية والجسمانية لليهود الذين شتتوا في البلاد الأوروبية، وفقدوا المواصفات العربية (السامية) وأصبحوا أوروبيين وذلك من خلال عدة عوامل:
العامل المناخي الجغرافي الذي أفقد اليهود صفاتهم العرقية العربية فتغير لونهم وتبدلت عقولهم.
المصاهرة التي تمت بين اليهود والأوروبيين إثر تحول عدد كبير من اليهود إلى المسيحية بعد ظهورها وانتشارها في أوروبا. وقد تم هذا التحول اليهودي إلى المسيحية إما طواعية أو نتيجة للاضطهاد الكنسي المسيحي لليهود خلال فترة العصور الوسطى. وقد دخل اليهود المتنصرون في علاقة مصاهرة مع المسيحيين في المجتمع الأوروبي وتغير دمهم وتحول نسبهم من بعدهم إلى هندوأوروبيين وفقدوا بالتدريج صفاتهم العربية (السامية).
ويجب أن نشير هنا إلى ضرورة تصحيح هذا المصطلح وتوضيح ما به من أخطاء ومغالطات مقصودة. ومن أهم وجوه التصحيح اللازمة ما يلي:
المصطلح يشير أساسا إلى كراهية اليهود والعداء لهم لأسباب ذاتية تعود إلى طبيعة الجماعات اليهودية وطبيعة الشخصية اليهودية، كما تعود إلى أسباب خارجية طورت فكرة كراهية اليهود في النفس الأوروبية.
مفهوم كراهية اليهود مفهوم محدود فيهم ومن الخطأ تعميمه لكي يشمل كل الساميين.
مفهوم كراهية اليهود مفهوم غربي ويشير إلى ظاهرة غربية وليس له وجود في الشرق وبخاصة في الشرق السامي (العربي القديم) ولا في الشرق الإسلامي، وذلك لأن كراهية اليهود في الغرب نتيجة لمشكلة طورها الغرب وسماها بالمشكلة اليهودية. ولم يمثل اليهود مشكلة بالنسبة للشعوب الشرقية. وبالعودة إلى المصادر التاريخية اليهودية نجد أن مصطلحي “المشكلة اليهودية” و”العداء للسامية” لا يوجدان في قاموس العلاقات بين اليهود والشعوب الشرقية، ولكنهما سائدان في قاموس العلاقات بين اليهود والشعوب الغربية.
اليهود في الغرب ليسوا “ساميين” لأنهم ومنذ عام 70م أصبحوا أوروبيين على المستوى العقلي والإثني، كما سبق بيانه.
توظيف الصهيونية لمفهوم العداء للسامية
ابتدعت الصهيونية مفهوم “معاداة السامية” وبدأت توظفه لتحقيق مصالحها بعدما اتخذت القيادات الصهيونية من ظاهرة معاداة السامية ذريعة لفصل الجماعات اليهودية في أوروبا عن المجتمعات المسيحية التي كانت تعيش بينها، وطورت على أساسها الفكرة القومية الموجهة لإنشاء ما يسمى بالوطن القومي لليهود.
توظيف “معاداة السامية” عند ليو بنسكر
من أول المفكرين الصهاينة الذين تناولوا ظاهرة معاداة السامية بالتحليل “ليو بنسكر” الذي فسرها على أنها ظاهرة مرضية وعقدة نفسية دائمة أصيب بها الإنسان الأوروبي المسيحي، وهي ليست فقط ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية كما اعتقد الكثيرون.
فمعاداة السامية في رأي بنسكر هي كراهية الغريب، وطالما أن اليهود أقلية في كل مكان يعيشون فيه فهم كالأشباح المطاردين في كل مكان، وغرباء على كل الشعوب التي تكره بطبيعتها كل ما هو أجنبي عليها.
ولهذا فالسبب الأول في كراهية اليهود هو أنهم لا ينتمون إلى الأوطان التي يعيشون فيها، ومن ثم فهم عنصر غير مرغوب فيه، حتى لو حاولت الجماعات اليهودية تغيير أوضاعها داخل هذه المجتمعات فالتغيير اليهودي لن يجلب رضا الأغلبية.
ولهذا يؤكد بنسكر أن اليهود أجانب على المجتمعات التي يعيشون فيها، وأن حلم اندماجهم في هذه المجتمعات لا يمكن تحقيقه. وهذا في رأيه ليس مرجعه أن اليهود غير قادرين على الاندماج، ولكن لأن الأغلبية لن تسمح لهم بذلك.
وعلى هذا فالحل الذي يقترحه هو نقل اليهود وتهجيرهم من أماكنهم إلى قطعة أرض يملكونها فيصبحون أمة طبيعية، ويتغير هذا الوضع غير الطبيعي في رأي “بنسكر”.
ويجب أن نلاحظ أن بنسكر لم يصر على أن هذه الأرض التي يتحدث عنها هي أرض فلسطين بالذات، ولكنه اقترح أرضا تلائم الاستيطان الحالي لليهود كجزء من القارة الأميركية مثلا، حيث يستطيع اليهود أن يتموا تحررهم.
ويظهر من هذا تأثر “بنسكر” بالأفكار التحررية التي ترى مبدأ التحرر اليهودي أساسا لحل المشكلة اليهودية، كما يظهر هذا في رغبته في قبول اليهود على قدم المساواة في العالم مع غيرهم من الشعوب، وهي فكرة ترجع أصولها إلى مبادئ المساواة التي بثتها الثورة الفرنسية. وقد عبر عن آرائه الصهيونية في مقال بعنوان “التحرر الذاتي: نداء من يهودي روسي إلى شعبه”.
توظيف “معاداة السامية” عند هرتزل
معاداة السامية في رأي “ثيودور هرتزل” حركة شديدة التعقيد. ويدعي هرتزل أنه يفهم سر هذه المعاداة، فهو يقول إنه يعالج حركة معاداة السامية كيهودي ولكن دون خوف منها أو كراهية لها.
ويرى في هذه الحركة عناصر قاسية، منها التعصب الموروث، والمنافسة التجارية العامة، وعدم التسامح الديني، إلى جانب عنصر الدفاع عن النفس. وهرتزل لا يعتبر المشكلة اليهودية مشكلة اجتماعية أو دينية، حتى وإن أخذت أحيانا هذا الطابع. بل المشكلة من وجهة نظره مشكلة قومية، ولكي تحل يجب إثباتها كمسألة سياسية دولية تناقشها وتعالجها أمم العالم المتحضرة.
والشعب اليهودي في نظر هرتزل شعب واحد مهما اختلفت البلدان التي يعيش فيها والنظم التي يتبعها. وهذا الشعب حاول أن يختلط بالمجتمعات القومية التي عاش فيها، إلى جانب محاولته الحفاظ على تراثه اليهودي وديانته، ولكنه فشل في ذلك لأن الدول التي يعيش فيها لم تسمح له بذلك.
ويقول إنه من العبث أن يصبح اليهود وطنيين مطيعين لهذه الدول، ومن العبث أيضا أن يضحي اليهود بالحياة والعتاد من أجل هذه الدول، كما يفعل المواطنون. كما أنه من العبث أن يحاول اليهود الإسهام في شهرة هذه البلاد ورفع شأنها في العلوم والفنون أو في إثرائها عن طريق التجارة.
ففي هذه البلاد -يقول هرتزل- يعامل اليهود معاملة الأجانب، فالأغلبية هي التي تقرر عادة من هو الأجنبي وتحدد علاقتها به على أساس القوة التي تملكها. ولذلك يقول إنه من العبث أن يعلن اليهودي ولاءه لهذه الأمم وطاعته لقوانينها.
والدولة اليهودية التي يدعو إليها هرتزل سوف لا تضر -على حد قوله- بمن تم اندماجهم من اليهود الذين يخشون على أموالهم وحقوقهم التي اكتسبوها في البلاد التي اندمجوا فيها. ويطمئن هرتزل هؤلاء المندمجين من اليهود بأن إنشاء الدولة اليهودية سيكون في صالحهم حتى لو لم يهاجروا إليها، وذلك لأنهم سيجدون ملاذا لهم في أي وقت يتعرضون فيه للخطر أو يفقدون فيه الأمان في البلاد التي يعيشون فيها.
ويتهم هرتزل اليهود المندمجين بأنهم من العوامل المساعدة على تقوية معاداة السامية بل والعمل على بعثها في المناطق التي لا توجد بها، إذ إن كثيرين من المعادين للسامية هم من أصل يهودي يتسترون خلف ستائر العمل الخيري للعمل على عدم استقرار اليهود المضطهدين في بلادهم.
وكان هرتزل يعتقد أن القوى الكبرى يجب أن تعمل من جانبها على مساعدة اليهود في التخلص من العداء للسامية عن طريق إنشاء دولة يتم تهجير اليهود إليها فيتحقق لهذه الدول الخلاص من العنصر اليهودي، وتنتهي بذلك ظاهرة معاداة السامية.
وهكذا يجعل هرتزل معاداة السامية مشكلة العالم الغربي وليست فقط مشكلة خاصة باليهود. وقد وضح هرتزل هذا الرأي في المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل عام 1897.
ويرى هرتزل أيضا أن العنصر اليهودي في أي مجتمع من المجتمعات عنصر مثير للاضطراب والتمرد داخل المجتمع الأوروبي، وهذا أمر يتعلق بطبيعة اليهودي، فهو بطبيعته لا يستطيع الحياة مع الشعوب الأخرى، وإن عاش فلكي يكون عنصرا مدمرا لقوة هذه الشعوب ومحرضا على الثورة وقلب الأوضاع.
وقد استند هرتزل إلى هذا الرأي في مراسلاته مع ملوك وحكام أوروبا، فقد صور لهم أن بقاء اليهود داخل المجتمعات التي يحكمونها ليس في صالح هذه المجتمعات ولا في صالح حكوماتها، ولهذا يجب على هذه الحكومات تشجيع فكرة الصهيونية وإنشاء الوطن اليهودي حتى تتخلص هذه الحكومات من العناصر المناهضة لها.
توظيف “معاداة السامية” في تفسير التاريخ اليهودي
لم يكتف زعماء الصهيونية بتوظيف فكرة معاداة السامية لخدمة الأهداف القومية اليهودية في التاريخ اليهودي الحديث والمعاصر، وإنما نجدهم أسقطوا هذا المفهوم على التاريخ اليهودي في الماضي وأعادوا تفسيره من وجهة نظر مفهوم معاداة السامية حتى أصبح التاريخ اليهودي القديم والوسيط لا يفهمان الآن إلا من خلال معاداة السامية.
ومعنى هذا أن علاقات اليهود في التاريخ القديم مع الشعوب التي عاشوا بينها أو اتصلوا بها فُسرت داخل إطار نظرية معاداة السامية.
القاعدة إذن التي اتبعها المؤرخون الصهاينة هي أن التاريخ اليهودي هو تاريخ العداء للسامية، فكل من ناصب اليهود العداء وتسبب في معاناتهم فهو معادٍ للسامية.
ويصبح الفهم الأساسي للتاريخ فهما عنصريا يضع بني إسرائيل في كفة والبشرية بكاملها في الكفة الثانية، بل يصبح التاريخ العام للبشرية هو العداء لليهود، أو ما أصبح يسمى بتاريخ العداء للسامية. ولذلك لا نعجب إن وجدنا شريحة من الكتب التاريخية المؤلفة بواسطة مؤرخين يهود تحمل عنوان تاريخ معاداة السامية.
ونلاحظ هنا أن إسقاط مفهوم معاداة السامية على التاريخ القديم يحتوي على مغالطة صهيونية كبيرة تتمثل في النظر إلى اليهود في العالم القديم على أنهم الممثلون الوحيدون للعنصر السامي، وذلك رغم أنهم أضعف العناصر الممثلة لهذا العنصر بسبب شتاتهم واختلاطهم بالشعوب الأخرى.
فالساميون في التاريخ القديم يمثلون أساسا عرب شبه الجزيرة العربية أصل الساميين، وبلادهم تمثل “المهد الأول” للساميين ولغتهم تمثل “اللغة السامية الأم”.
ولا يمكن في التاريخ القديم أن نتحدث عن عداء للساميين بالمعنى الشامل لكلمة “ساميين”، فلا يمكن الحكم على علاقة الشعوب القديمة مع بعضها البعض بأنها قامت على أساس من العداء العنصري. ولم تشر المصادر التاريخية القديمة -على اختلاف مواقعها- إلى أي معاداة عنصرية شاملة بين شعب وشعب.
نعم قد تكون هناك نظرة استعلائية معينة لكنها لم تتحول إلى عداء شامل لشعب بعينه ولم تصبح معيارًا للعلاقات بين الشعوب. ولذلك فمفهوم “معاداة السامية” مفهوم حديث تم إسقاطه على التاريخ القديم واستخدامه في تفسير علاقة اليهود بغيرهم في التاريخ القديم والوسيط مثلما استخدم في تفسير علاقة اليهود بغيرهم في التاريخ الحديث والمعاصر. ولأول مرة يكتب التاريخ من زاوية حب شعب لشعب أو كراهية شعب لشعب.
العرب والعداء للسامية
ومن الطبيعي حتى لا تفسد النظرية في تطبيقها العام على التاريخ البشري أن يوجه سهم معاداة السامية إلى كل الشعوب بلا استثناء، ويعتبر العرب من بين أهم الشعوب التي اتهمت بالعداء للسامية. ويكتب تاريخها العام بواسطة المؤرخين الصهاينة من زاوية العداء والكراهية رغم أن التاريخ العربي كله يشهد بالعلاقات الطيبة مع اليهود، كما أن المؤرخين اليهود الموضوعيين والسابقين لظهور الصهيونية اعتبروا حياة اليهود في العالم العربي والإسلامي تمثل العصر الذهبي في التاريخ اليهودي.
زيف اتهام العرب بالعداء للسامية
والحقيقة أننا نتخذ من تاريخ العلاقات اليهودية الإسلامية دليلاً قاطعًا على زيف نظرية المعاداة للسامية.
والسؤال هنا: إذا كانت نظرية معاداة السامية نظرية عرقية فكيف يمكن توجيه تهمة العداء للسامية إلى العرب وهم ساميون؟
توجيه هذه التهمة ينطوي على العديد من المغالطات التاريخية والإثنية العرقية. ومن أهم هذه المغالطات:
أن العرب “ساميون” ويمثلون الأصل الأول للساميين ولا يمكن للعرب أن يكرهوا أنفسهم كساميين ويضطهدون أنفسهم ويعادون جنسهم.
أن توجيه التهمة إلى العرب معناه إنكار سامية العرب وأن اليهود هم فقط الذين يمثلون الساميين.
أن العرب لم يضطهدوا اليهود في التاريخ بسبب عرقهم ولا بسبب دينهم. وتثبت معطيات التاريخ اليهودي واعترافات المؤرخين اليهود أن البلاد العربية والإسلامية كانت دائما ملاذا لليهود يفرون إليه من الاضطهاد الأوروبي لهم سواء لأسباب دينية أو لأسباب عرقية كما يدعي اليهود.
أن اتهام العرب بالعداء للسامية يدخل ضمن إطار تعميم نظرية معاداة السامية لتشمل العالم كله. ويتم في نفس الوقت قصر الساميين على اليهود، وهذا فيه مغالطتان هما: اتهام البشرية كلها بمعاداة السامية، وتحديد اليهود فقط كساميين. وكأن العداء البشري لليهود عداء عرقي إثني.
أن معاداة السامية اختراع يهودي أوروبي ليس له علاقة بالبلاد العربية ويتصل بمشكلة اليهود في أوروبا.
مع تطور المقاومة العربية للمشروع الصهيوني تم توجيه الاتهام إلى العرب بمعاداة السامية ووقوفهم في طريق المشروع الصهيوني واضطهادهم للأقليات اليهودية في البلاد العربية، وارتكابهم مجازر ضد هذه الأقليات لدفعها إلى الهجرة إلى فلسطين قبل قيام الدولة وبعدها.
اندماج اليهود في البيئة العربية
والحقيقة أن الباحث الموضوعي لأحوال يهود العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث يعرف تماما أن اليهود استقروا في المنطقة العربية والإسلامية استقرارا دائما وثابتا، واندمجوا في البيئة العربية الإسلامية اندماجا تاما على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل لم يحدث لليهود في أي مجتمع آخر.
وكان المجتمع العربي الإسلامي مجتمعا مفتوحا أمام اليهود، فلم تحدد إقامتهم في أحياء مثلما كان الوضع في أوروبا المسيحية، حيث تم الفصل التام بين الأقلية اليهودية والغالبية المسيحية من خلال عزل اليهود داخل أحياء وعدم السماح لهم بالتعامل مع المجتمع الكبير.
وأصبح الحي اليهودي بمثابة دولة داخل الدولة وذلك إلى حد أن الصهيونية باركت الغيتو اليهودي في العصر الوسيط في أوروبا المسيحية، لأنه حافظ على الشخصية اليهودية وحماها من الضياع داخل المجتمع الأوروبي وذلك بسبب سياسة العزل أو الفصل التام بين المجتمع اليهودي والمسيحي في المدينة الأوروبية.
أما المجتمع العربي المسلم فقد حدد لليهودي وللمسيحي كذلك وضعا دينيا شرعيا يضمن له الحماية الشرعية والدينية. فاليهود والمسيحيون صنفوا على أنهم أهل كتاب وأهل ذمة مع المسلمين، الأمر الذي حقق لهم الحياة الآمنة المستقرة داخل المجتمع المسلم.
وحصل أهل الكتاب على استقلالهم الديني وحريتهم الدينية في ظل اعتراف إسلامي باليهودية والمسيحية، وهو أمر لم يتحقق لليهود في العصور الوسطى بأوروبا التي أنكرت الديانة اليهودية ولم تعترف بها، وصنفت اليهود على أنهم كفرة لا يؤمنون بعيسى عليه السلام وعلى أنهم قتلة المسيح عليه السلام ولا يستحقون إلا الاضطهاد، مع الحفاظ عليهم لأمر لاهوتي وهو أنهم شهود على عيسى عليه السلام ودعوته ووجوده.
وبذلك جمعت الكنيسة المسيحية بين اضطهاد اليهودي والحفاظ عليه في نفس الوقت، وقد حققت فكرة الغيتو اليهودي هذا الهدف.
أدلة عدم اضطهاد العرب للأقلية اليهودية
مع قيام الحركة الصهيونية وسعيها لتحقيق مشروعها السياسي في فلسطين لم تتغير نظرة العرب والمسلمين إلى اليهود الذين يعيشون في البلاد العربية والإسلامية، وكانت المقاومة العربية في فلسطين موجهة ضد اليهود المهاجرين من أوروبا وغيرها والقادمين لاغتصاب فلسطين وانتزاعها من العرب.
وهناك أدلة عديدة على عدم تطور اضطهاد عربي للأقليات اليهودية أهمها:
رفض غالبية يهود العالم العربي للنشاط الصهيوني الدافع إلى الهجرة ورفضهم فكرة الهجرة إلى فلسطين بسبب استقرارهم في بلدانهم وبسبب إمكانية قيامهم بزيارة فلسطين في أي وقت. وقد قويت العلاقات بين الأقليات اليهودية في العالم العربي والإسلامي بفلسطين وتمثل ذلك في الزيارة المستمرة لفلسطين وفي العلاقات المتصلة بيهود فلسطين.
تأخر هجرة اليهود العرب إلى فلسطين إلى ما بعد قيام إسرائيل رغم أن حركة الهجرة اليهودية التي شنتها الصهيونية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث بدأ اليهود يتوافدون في هجرات كبرى متتالية إلى فلسطين، وبقي يهود العالم العربي والإسلامي في بلدانهم بدون اضطهاد وبدون رغبة في الهجرة.
النشاط الصهيوني بين يهود العالم العربي والإسلامي تأخر كثيرا ولم تعتمد الصهيونية في مشروعها على اليهود العرب، فهو مشروع يهودي غربي يعالج مشكلة يهودية غربية ليس لها وجود في العالم العربي والإسلامي عموما. ولذلك لم يصبح النشاط الصهيوني بين يهود العالم العربي والإسلامي قويا إلا قبل قيام دولة إسرائيل بسنين قليلة.
هجرة يهود العالم العربي إلى إسرائيل لم تأت نتيجة اضطهاد عربي وإنما نتيجة ضغوط صهيونية قوية أجبرتهم في النهاية على ترك بلدانهم العربية والهجرة إلى إسرائيل.
_______________
باحث مصري متخصص في دراسة الأديان
المصادر
1 – د. أحمد سوسة: العرب واليهود في التاريخ، العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السابعة، دمشق (بدون تاريخ).
2 – صموئيل إتينجر: اليهود في البلدان العربية، عالم المعرفة، الكويت، 1995.
3 – عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 1999.
4 – د. علي إبراهيم عبده وخيرية قاسمية: يهود البلاد العربية، بيروت، 1971.
5 – د. محاسن محمد الوقاد: اليهود في مصر المملوكية في ضوء وثائق الجنيزة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة تاريخ المصريين، العدد 135، القاهرة، 1999.
6 – د. محمد خليفة حسن: الحركة الصهيونية وعلاقتها بالتراث الديني اليهودي، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، 1997.
7 – أمنون روبنشتاين: أوروبا ومعاداة السامية، جريدة هآرتس 29/4/2002.
8 – Jacob B. Agus, The Meaning of Jewish History, Abelard – Schuman, N.Y., 1963.
9 – Encyclopedia Judaica, Vol. 3, Jerusalem.
10 Charles Glock and R. Stark, Christian Beliefs and Anti – Semitism, Harper and Row, N.Y., 1960.
11 – James Parkes, The Conflict of the Church and the Synagogue, A Study in the Origins of Anti – Semitism, A thenium, New York, 1969.
12 – Leon Poliakov, The History of Anti – Semitism, Schocken Books, N.Y., 1974l
13- The Standard Jewish Encyclopedia, ed, by Cecil Roth, Massada pub. Co. Jerusalem, 1960.
14 G. Selznick and S, Steinderg, The Tenacity of Prejudice, Anti – Semitism in Cotemporary America, Harper and Row, N.Y., 1969.
المصدر: الجزيرة نت