تعرّف على قصة الجارية التي امتلكت جيشاً وحلمت بحكم مصر – بقلم: نورهان مصطفى
«سبيلُ سعادةٍ ومراد عزٍ وإقبال لمحسنة رئيسة
يُسرُّك منظرٌ وصنع بديع وتَعجبُ من محاسنِه الأنيسة
جري سلساله عذبٌ فرات فكم أحيت به مهجا بئيسة
نؤرخه سبيل هدى وحسُنَ لوجه الله ما صنعت نفيسة»
أبياتٌ شعرية كُتبت على واجهة سبيل «نفيسة البيضا»، السيدة التي اختارت أن تُنشئ السبيل الخاص بها، قُرب باب زويلة، لكي تكون قريبة من كُل العابرين، بالإضافة إلى كُتَّاب مُلحق بالسبيل لتعليم صبية الحيّ.
في القرن الثاني عشر للهجرة، أتت نفيسة إلى مصر، جارية حلبية، تنتمي إلى أصول شركسية، تتمتّع بلون بشرة مختلف بدرجة ملحوظة عن أبناء مصر، فعُرفت بـ«نفيسة البيضا».
لم تكُن «نفيسة البيضا» مُجرد سيدة عادية، بل كانت جارية شركسية أتت من بلاد بعيدة، لتستقر في مصر، ولجمالها الشديد، أعتقها سيدها الأول، علي بك الكبير، وتزوجها لتُصبح بذلك حرة طليقة، وأصبحت نفيسة أرملة بعد ذلك، لكنها لم تدخل فيما ورثه أبوالذهب عن سيده، علي بك، لأنه وافق على أن تكون زوجة للأمير مراد بك نظير مساعدته له في التخلص من زوجها، فلما قتل علي بك تزوجها مراد وصارت تعرف تبعاً لذلك «نفيسة المُرادية». حسبما ذكرت مدونة «قبل الطوفان» التاريخية.
تعايشت نفيسة مع وضعها الجديد ورضيت بأن تكون زوجة لأمير مملوكي يحكم مصر مناصفة مع قرين آخر هو إبراهيم بك بعد أن كانت زوجة لرجل يحلم بأن يكون ملكاً متوجاً على مصر وأجزاء من بلاد الشام.
ولما كانت وريثة لثروة علي بك في زمن ولت فيه الطموحات السياسية، فقد أعادت استثمار أموالها في التجارة وصارت واحدة من أثرياء البلاد، ويكفي أنها امتلكت عدداً من القصور والبيوت ووكالات التجارة وجيشاً صغيراً مؤلفاً من 400 من المماليك، فضلاً عن عدد كبير من الجواري والخدم في قصرها.
في تلك الفترة بدأت شخصية نفيسة تفصح عن نفسها كسيدة على إلمام بالثقافة التركية وموحية لزوجها المتغطرس بالتخفيف من سطوته على الناس وذاع صيتها بين المصريين عندما شيدت لنفسها «وكالة» للتجارة يجاورها «ربع» لسكنى فقراء الحرفيين، وألحقت بهما سبيلاً للماء يعلوه «كُتّاب» لتعليم الأطفال الأيتام مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم.
عُرفت نفسية بالبذخ وحُب أعمال الخير والذكاء، كانت تعطي فقراء الحرفيين أجرة شهرية بسيطة، كانت إيرادات الوكالة والربع توجه للإنفاق على وظائف التدريس بالكتاب وعلى قيام السبيل بتوفير ماء الشرب للمارة في تلك المنطقة التجارية.
ويتميز السبيل بشبابيك مُزخرفة جميلة، مُعلّق بها أكواب للشرب عن طريق سلاسل حديدية، أما في الماضي، فكان العاملون بالسبيل يملأون الأكواب من أحواض رخامية ويسلمونها للناس فى الخارج، وأسفل الأحواض الرُخامية كانت تمتلئ الأرض بماء النيل الذى كانت تجلبُه الجِمال، ويختلف هذا السبيل فى أن صهريجه لا يوجد أسفله وإنما أسفل مبنى مجاور.
وقد تركت نفيسة البيضا مجموعة معمارية متكاملة بالطرف الجنوبي من شارع المعز لدين الله داخل باب زويلة، وهي تتألف من وكالة وربع وسبيل يعلوه كُتاب، وكانت تعرف إجمالاً باسم «السكرية» نسبة لسوق تجار السكر والحلوى بتلك البقعة.
قال عنها أحد الكُتاب: «إنها كانت تعرف كتابات شعراء العربية، كما لو كانت العربية لغتها الأصلية، برغم أنها لم تتعلمها إلا فى وقت متأخر من حياتها».
في عام 1798، جاء نابليون مصر ليهزم المماليك بقيادة زوجها مراد بك، ويحتل القاهرة وفر مراد نحو الصعيد تاركاً زوجته تواجه سلطات الاحتلال الفرنسي، فأصبحت سيدة مصر الأولى.
وبالفعل حصلت على احترام سلطات الاحتلال الجديدة، وذلك عندما سمحت أولاً بأن يتلقى بعض الجنود الفرنسيين من الجرحى العلاج داخل قصرها الذي ورثته عن علي بك بالأزبكية وكان مواجهًا لمقر إقامة بونابرت.
وحاول بونابرت أن يستميل مراد بك للصلح معه لوقف حشد القوات ضده بالصعيد بحسن معاملة زوجه نفيسة البيضا، وبالغ الرجل في الأمر حتى إنه منحها هدية ثمينة من الحلي، يعتقد أنها كانت تحمل ألوان العلم الفرنسي، لكن ذلك لم يحقق شيئاً مما كان يطمح إليه الجنرال الفرنسي فقلب لها ظهر المجن.
بدأ بونابرت بتنفيذ سياسته الانتقامية بتوجيه تهمة إخفاء ثروات المماليك الفارين للصعيد، وفتش قصرها أكثر من مرة، وصودرت بعض ممتلكاتها، ثم أعقب ذلك بالقبض على حريم أمراء المماليك، مما اضطر نفيسة البيضا لدفع الغرامات التي فرضت عليهن نظير الإفراج عنهن وصيانة كرامتهن وتجاوز ما دفعته المليون ريـال.
وعندما اشتد الطلب عليها رهنت بعضاً من مصاغها ومن ضمنها قطعة الحلي الفرنسية التي أخذها بونابرت وأهداها لعشيقته، ورغم ذلك ظلت نفيسة البيضا قادرة على رعاية حريم المماليك وموضع احترام سلطات الاحتلال، خاصة بعد سفر بونابرت وتولي كليبر قيادة الجيش الفرنسي، وعندما نجح الأخير وربما عبر نفيسة البيضا في إقناع مراد بك بالتخلي عن السلاح.
ورضي بأن يحكم الصعيد بوصفه نائباً عن الفرنسيس، وظنت نفيسة أن الزمان يوشك أن يعاود ابتسامته لها، لكن وهي تتأهب لاستقبال زوجها مراد أتاه وباء الطاعون ليحصد روحه في عام 1801، وفي نفس العام رحل الفرنسيون عن مصر، ولكن الحاكم التركي الجديد أحمد باشا خورشيد سلط رجاله على نفيسة البيضا، وصادر أموالها غير مرة، ولاحت في الأفق بوادر ثورة شعبية ضد ظلم خورشيد، وسرعان ما نجحت الثورة الوليدة في طرد الوالي العثماني وتعيين محمد علي عوضًا عنه.
لم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للسيدة التي تقدم بها العمر وفقدت جزءًا كبيرًا من سطوة جمالها، إذ شرع محمد علي في استئصال ما تبقى لها من ثروة ولم يتركها في بيت زوجها الأول علي بك الكبير إلا بعد أن صارت فقيرة معوزة، وماتت كذلك في عام 1816 بعد أن كانت ملكة غير متوجة لمصر.