هناك ملاحظتان لغويتان سنتحدث عنهما (حذف ياء الملكية في كلمة “رب” ) و (حذف واو الفعل المضارع في “وأكن” ) والعلاقة بين الحذفين بالصدقة وكينونة العمل الصالح في الانسان ..
أولا : (رب لولا أخرتني إلى أجل قربب)
نلاحظ حذف ياء الملكية من رب ، اذ أن الياء حرف مد وحروف المد تعطي الامتداد في الشيء باتصال (فمثلا كلمة يجري تدل على امتداد الجري في مساحة وزمن طويلين فلو حذفت الياء كما في الجزم ، لم يجر لانتفى الامتداد في المساحة والزمان فهو لم يجر منذ البداية) ، فلو تواجدت في (رب) هنا لدلت على بعد بين الانسان وربه ! ، فالرب قريب سميع مجيب الدعاء (واذا سألك عبادي عني فإني قريب )
ولعل قربه عز وجل منا ما يجعلنا نفكر قليلا في ارتباط القرب هذا بالصدقة والعمل الصالح لنغترف منها ما يفيدنا في دنيانا وآخرتنا.
ثانيا : (فأصدق وأكن من الصالحين)
فأصدق : الفاء هي فاء السببية وهي تعلل الفعل المرتبطة به كنتيجة وسبب للفعل الأول وهي من نواصب الفعل المضارع لذلك جاء (أصدق) منصوبا بالفتحة الظاهرة علي آخره ..
وأكن : الواو للعطف وما يأتي بعدها يسمى معطوفا عليه وهو من التوابع اي يكون المعطوف عليه تابعا للمعطوف في الحكم الاعرابي ولكن هنا جاء الفعل (أكن) مجزوما ولم يأت منصوبا كما الفعل (المعطوف) ليكون تابعا له في الحكم ..
ترى ما السبب؟!
في الفعل (أكن) حذف حرف الواو عند وسط الفعل ..
دلالة حرف الواو : صوت يدل علي ضم مكاني ممتد
والحذف لهذا الحرف هنا يأتي متسقا مع دلالات الحدث الموصوف في الآية (الموت)
نعود لنقرأ الآية من جديد .. الآية تحث علي الانفاق من قبل ان يأتي الموت فيأخذ الانفس ..
تخبرنا الآية عن أنه عند الموت يتمني المحتضر من ربه ان يؤخره الي اجل قريب وتاتي فاء السببية لتبين العلة من هذا الطلب وهو الصدقة ، واو العطف تدل علي الترتيب في الاحداث وتواليها مما يدل علي أنه بمجرد الصدقة يكون الشخص من الصالحين وهذا ما يفسر حذف حرف الواو في (أكن) أي أن المحتضر لا يتمني عند تلك اللحظات الا زمنا يسيرا -وليس ممتدا- ليدخل ضمن زمرة الصالحين وبعد ذلك يأخذه الموت وهذا ما يبين عظيم أجر الصدقة وأنها لا تأخذ الا الزمن اليسير وأن فاعليها هم من الصالحين بنص الآية وانها أمنية الشخص عند الموت ..
أيضا حذف الواو يدل علي قرب المحتاجين للصدقة من الناس وأن أفضلها تكون للأقربين لأن الشخص لن يتمني عند موته زمنا كبيرا ليبحث فيه عن مستحقي الصدقة ولا يحتاج ان يذهب لأماكن بعيدة لينفق فيها ويتصدق ، ولأن المحتضر سيتمنى أجلا قريبا لفعل العمل الصالح فبالتالي ستكون كينونته صالحة في وقت قريب بمجرد فعل الصدقة ، فلو كانت الصدقة ستأخذ زمنا طويلا لجاء الفعل “وأكون” بالواو لتدل على امتداد الزمن لحين يصبح الرجل صالحا ولما تمنى ذلك المحتضر لأنه يعلم ألن يعطى زمنا طويلا ، بهذا ندرك أن الصدقة أقرب العمل الصالح من الانسان اذا ما اراد ان يكون صالحا ، وهذا ما يدعو للتكافل الاجتماعي بين الناس وتبيين من هم احق الناس بالصدقة وبالطبع هم أقرب الناس للمتصدق واهل مجتمعه.
كذلك ختمت الآية ب(من الصالحين) وليس المؤمنين او المسلمين او الفائزين او .. او …
كما نعلم الصلاح من الدرجات العلا في الايمان مما يدل علي ان المتصدق من اعلي الناس ايمانا وبالطبع الايمان اعلي درجة من الاسلام .. ولم تختم بالفائزين لان الفوز يكون يوم القيامة (الحساب) وليس عند الموت ..
ايضا (فأصدق) : لم ترد (فأتصدق) علما بأن التاء المحذوفة هنا هي تاء الجهد .. مما يعني ان الصدقة تكون مما هو عندنا دون تكلف او بذل مجهود كبير وعناء في اخراجها مما بجعل نفس المتصدق طيبة بما فعلت وتصدقت ..
إن الصدقة لا تحتاج مجهودا يبذل فقط تحتاج تجردا من الذات وانغماسا في إصلاح المجتمع وتكافلا فيه (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ، إن النص القرآني به من الدقة ما يجعله ببساطة لا يعطي أي فرصة للتقول عنه أو فرض شيء باسمه ، فهو تنزيل العليم الخبير الحكيم ..