ريتشارد سورج.. الجاسوس الذي غيَّر مسار الحرب العالميَّة الثانية وأنقذ الاتحاد السوفيتي
في الحرب العالميَّة الثانية، شارك 100 مليون جنديّ في المعركة، وقُتل ما يقرب من 50 إلى 85 مليون جندي ومدني. كانت حربًا مجنونةً بالفعل، لكنّ الأكثر جنونًا، أن يتحكَّم شخصٌ واحد في عدَّة ملايين من الأرواح. ليس لأنَّهُ «جوزيف ستالين»، وليس لأنَّهُ فوهرر ألمانيا «أدولف هتلر»، وليس كذلك لأنَّهُ «ونستون تشرشل» أو «فرانكلين روزفلت»، أو أيّ من القادة الكبار الذين تحكَّموا في ملايين الأرواح. ولكنّ لأنَّهُ جاسوس، وبمعلومةٍ واحدة لم تتجاوز مائتي حرف كتبها في رسالة إلى الاتحاد السوفيتي، أنقذهُ من الاحتلال النازيّ الكامل للعاصمة موسكو.
شخصٌ أعرج، يتقنُ العديد من اللغاتِ والمهارات، والعلاقات. زيرُ نساء، كثيرُ الشرب للخمور، قام بأفعالٍ أقرب ما تكون للفنتازيا منها إلى الواقع، والتي تراها في أفلام «جيمس بوند»، وقد تُفاجأ أيضًا أنَّ شخصيَّة جيمس بوند السينمائيَّة قد استوحت من شخصيَّة «ريخارد زورغه أو – ريتشارد سورج» المربكة، والمحيِّرة.
جندي ألماني.. وأستاذ علوم سياسية
وُلد سورج في أكتوبر (تشرين الأوَّل) عام 1895 لأبٍ ألمانيٍّ (مهندس تعدين) وأمٍّ روسيَّة، ولد في باكو (أذربيجان حاليًا) حيث كان يعمل والده في شركة نفطٍ آسيويَّة، وكانت باكو تابعة للإمبراطورية الروسية. كان سورج الابن التاسع في أسرته، والأصغر من بين إخوته. بُعيد اندلاع الحرب العالميَّة الثانية في أكتوبر (تشرين الأوَّل) 1914 جُنِّد سورج في الجيش الألمانيّ، كان في 18 فقط من عمره، وتمّ تعيينه في كتيبة مدفعيَّة الميدان. في مارس (آذار) 1916، أصيب سورج إصاباتٍ بالغة الخطورة، فقد قطعت الشظايا ثلاثة أصابع من يده، وكسرت ساقيه ما جعلهُ يعرجُ مَدَى الحياة. نال على أثر هذه الإصابات وسام «الصليب الحديديّ».
«الشيوعيَّة».. أو ما الذي جعل سورج يخون ألمانيَّته؟
هل لأنّ أمَّهُ كانت روسيَّة؟ ربما لا، فوالدهُ الغنيّ كان ألمانيًّا، وقد شارك سورج بنفسهِ في الحرب العالميةِ الأولى مع الجيش الألمانيّ، لماذا خان سورج ألمانيَّته؟ ربما لا يعرف القارئ الآن كيف أنّ سورج خان ألمانيَّته، وهذا ما سنوضحه خلال السطور القادمة، لكنّ سؤالًا حيويًّا حول تحوُّل سورج «الدراميّ جدًّا» إلى الاتحاد السوفيتيّ وولاؤه له، ربما لأنّ الشيوعيَّة عندما يقتنعُ بها الشخص تصبح هي كلّ شيءٍ لديه، وهذا بالضبط ما حدث مع سورج.
كان سورج قد تزوج من «كريستين جيرلاش – Christiane Gerlach» الزوجة السابقة لأستاذه عالم الاجتماع الألمانيّ «كورت ألبرت جيرلاش – Dr Kurt Albert Gerlach» لكنَّهما تطلَّقا بالفعل بسبب شيوعيَّته، أو بسبب إتقانه لعمله، أو بسببهما معًا. فبعد انضمامه للاستخبارات العسكريةِ الروسيَّة، التابعة للجيش الأحمر، انغمسَ سورج في عمله تمامًا، ما عجَّل بالطلاق. على كلٍّ لم يكن سورج الشخص الذي يرضى بزوجةٍ، أو «عشيقةٍ» واحدةٍ في حياته. وانطلق سورج في عالم الجاسوسيَّة.
عُرف سورج كصحافيّ ألماني مشهور، وتدثَّر بعباءة الصحافة مخفيًا جاسوسيَّته الخطيرة عن الجميع. كان سورج مختلفًا، وموهوبًا، ربما بفطرته. فعندما ذهب إلى الصين، جاسوسًا بالطبع، كان غطاؤه الأساسيّ هو الصحافة، فتخصَّص سورج في الشأن الزراعي الصينيّ، وألَّف كتابًا في الأمر. كانت علاقاته بالطبع بالحزب الشيوعي الصيني قويَّة، عاد إلى موسكو من جديد ليُنتدب إلى المهمَّة الأخطر والأهمّ في حياته، وربما في تاريخ الاستخبارات الروسية نفسها. أمّا المعلومة الهامشيَّة أنّ سورج قد تزوَّج بالطبع في الصين.
كيف أنقذ سورج الاتحاد السوفيتِّي؟
استدعي سورج عام 1933، وكانت مهمَّته الخطيرة «تكوين شبكة جاسوسيَّة في اليابان»، باسمٍ رمزيّ هو «رامزي Ramzay». عاد إلى برلين من جديد، ليستطيع أن يحصل على مهمَّة صحافيَّة في اليابان، جدد قائمة علاقاته، وجهّز نفسه تمامًا، وفي سبتمبر (أيلول) 1933 وصل العميل الخطير سورج إلى يوكوهاما. بالطبع لم يكن لسورج أيَّة علاقات تربطه بالحزب الشيوعيّ في اليابان، ولا بالسفارة السوفيتيَّة هناك، كانت علاقاته مع السفير الألمانيّ في اليابان نفسه! تلك العلاقة كانت غريبة بعض الشيء.
أسس سورج شبكة جاسوسيَّته القويَّة في اليابان بالفعل، وكانت علاقته القويَّة مع الملحق العسكريّ في السفارة الألمانيَّة في اليابان«Eugen Ott» ، كان يوجين يثقُ في سورج للغاية، لم يكن سورج سوى صحافيٍّ ألمانيٍّ بارز، لكنّ تأثيره في الملحقّ العسكريّ كان كبيرًا للغاية. في عام 1938 تمّت ترقية يوجين لرتبة «لواء»، ثُمَّ أصبحَ بعد ذلك سفير ألمانيا في اليابان.
فاصلٌ عسكريّ
كانت الحرب العالميَّة الثانية بين فريقين: الأول يتمثل في دول المحور: ألمانيا وإيطاليا، ثُم اليابان في مرحلة متأخرة. والثاني، يتمثل في دول الحلفاء: بريطانيا، وفرنسا، ثمّ الاتحاد السوفيتيّ، ثمّ الولايات المتحدة الأمريكيَّة مؤخرًا.
بدأت الحرب مع غزو ألمانيا بولندا، وفي ظروفٍ معقدة عديدة بدأت الحرب واستمرَّت منذ 1939 وحتى 1945، قبيل الحرب، في أغسطس (آب) 1939 وقَّع الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازيَّة اتفاقًا يمنع أيًّا من الطرفين أن يدخل في صراعٍ مع الآخر حال تعرُّضِهِ للحرب، وعُرف الاتفاق باسم «اتفاق مولوتوف – ريبنتروب». وفقًا لهذا الاتفاق كان جوزيف ستالين مؤمنًا بأنّ هتلر لن يغزو الاتحاد السوفيتيّ أبدًا، تحت أيّ ظرف خصوصًا بعد انشغاله بحروبهِ في أوروبا وشمال إفريقيا مع اندلاع الحرب العالميَّةِ الثانية.
في سيبيريا، كان الاتحاد السوفيتي ناشرًا قواته خوفًا من التدخُّل الياباني من الشرق الأقصى للاتحاد السوفيتيّ، كانت المفاجأة أنّ هتلر غزا الاتحاد السوفيتي في يونيو (حزيران) 1941، بضربة سريعة وقاسية، سُمِّيت «عملية باربروسا»، أفقدت الاتحاد السوفيتيّ توازنه وغيَّرت جميع حساباته، كان الاتحاد السوفيتيّ سيصبح فريسةً لجيوش هتلر، لولا سورج.
عودة إلى الجاسوس
لنكمل الآن الحديث عن علاقة سورج بيوجين أوت، السفير الألمانيّ في اليابان. أكَّد ملحق جهاز الغاتسابوفي السفارة الألمانية في اليابان، أنّ العلاقة بين السفير الألماني يوجين أوت والصحافيّ ريتشارد سورج، أصبحت قريبةً جدًّا، كما أكد أنّ التقارير التي ترسل إلى برلين هي مجرد زوائد عن التقرير المفصَّل الذي يعده سورج ويوقِّع عليه السفير.
كانت علاقة سورج بالسفير قويَّة جدًّا بالطبع، أعطاهُ السفير ثقتهُ الكاملة، وكان يأخذ رأيه في قراراته، ويعرضُ عليه المعلومات التي تأتيهِ من برلين، وثق فيه تمامًا، وبعد فترة كانت زوجة يوجين، هيلما أوت، إحدى عشيقات الجاسوس ريتشارد سورج الكثيرات جدًّا!
لكنَّ خطأ ستالين أنَّهُ لم يُصدِّق سورج، فقد اجتاحت قوَّات الفيرماخت (القوات المسلحة النازيَّة) روسيا، كانت البداية بـ 4.5 مليون جندي من قوَّات المحور. دُمِّر في اليوم الأوَّل، ما لا يقل عن 1500 طائرة روسيَّة، بعد سنتين من الاجتياح كان عدد الأسرى الروس ثلاثة ملايين جندي، ولم يتبقّ سوى 90 ألف جندي للدفاع عن العاصمة موسكو. هنا كان تدخُّل سورج الخطير الذي أنقذ ستالين والاتحاد السوفيتي.
في يونيو (حزيران) 1941، وبينما يعاني السوفييت، والعاصمة موسكو ستقع في يدّ الفيرماخت خلال فترة قصيرة، أرسل سورج معلوماته الدقيقة التي وضَّح فيها أنّ اليابان لن تدخل الحرب مع ألمانيا، ولن تهاجم الاتحاد السوفيتي إلا بعد تحقُّق ثلاثة شروط:
- استيلاء قوَّات المحور على موسكو.
- وصول حجم قوات «جيش كوانتونغ – الجيش الإمبراطوري الياباني» ثلاثة أضعاف الجيش الأحمر في الشرق الأقصى.
- اندلاع الحرب الأهليَّة في سيبيريا.
بالطبع كان ستالين قد تعلَّم الدرس: أن يثق في قدرات سورج ومعلوماته.
كانت القوات اليابانية في منشوريا، وقوَّاتٌ هائلة تابعة للاتحاد السوفيتي في سيبريا، تخشى دخول اليابان الحرب، حين جاءت المعلومة لستالين، تنفَّسَ الصعداء، وسحب في هدوءٍ وصمت 18 تشكيلًا عسكريًّا، و 1700 دبابة، وأكثر من 1500 طائرة، ليحمي موسكو. واستطاعت القوات السوفيتية حينها أن تحمي موسكو من احتلال النازي، وسطَّرت القوات السوفيتيَّة أوَّل هزيمة لهتلر في الحرب، والتي غيَّرت مسار الحرب تمامًا!
المضحك في الأمر، أنّ المعلومات وصلت لسورج أيضًا عن طريق السفير الألمانيّ في اليابان، يوجين أوت. كان يوجين حزينًا للغاية وغاضبًا، ويشكو لصديقهِ سورج كيف أنَّه فشل في إقناع اليابانيين بدخول الحرب إلى جانب قائده الفوهرر أدولف هتلر.
النهاية المُرعبة
لكنّ سورج سطَّر نهايته أيضًا، إذ لم يكن من الطبيعيّ أن يظلّ سورج في اليابان طيلة ثماني سنوات كصحافيّ، دون أن تكتشف اليابان جاسوسيته الخطيرة. ألقت اليابان القبض على سورج في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 بُعيد إلقاء القبض على أحد أعضاء شبكته في اليابان، وبعد تعذيبٍ شديد اعترف بجاسوسيَّة سورج. في البداية ظنَّت اليابان أنَّهُ جاسوس لألمانيا، لكنّ ألمانيا نفت علاقتها به، تحتَ التعذيب اعترفَ سورج بجاسوسيته للاتحاد السوفيتيّ، استشاط السفير الألمانيّ لدى طوكيو غضبًا، فصديقُهُ متَّهمٌ بالجاسوسيَّة، ولم يكن يعلم أنّ صديقَهُ المخلص كان يخون بلاده تمامًا لصالح السوفييت، ويخون صداقتهما أيضًا لصالحِ شهوته، ويزور سرير يوجين أوت.
كان سورج متأكِّدًا أنّ زعيمهُ ستالين لن يتركهُ في يد اليابانيين، كان واثقًا أنه سيبادله ببعض الجواسيس أو الأسرى لديه، لكنّ سورج كان مخطئًا، لقد خانتهُ حاسته الجاسوسيَّة هذه المرَّة، فستالين لم يكن ليترك لأحدٍ فضلًا عليه، ولم يكن ليترك شاهدًا على خطئه الذي لا يغتفر (أنه لم يصدق معلومات سورج عن هجوم هتلر) حيًّا. أعلن الاتحاد السوفيتيّ أن لا علاقة تربطه بسورج. ليظلّ سورج في سجن «سوجامو» حتَّى 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1944، ويتمّ إعدامهُ، ليس كشخصٍ عاديّ، وإنما كشخصٍ استطاعَ أن يتسبب في هزيمة القوَّة الأعظم في العالم.
المصدر: ساسة بوست