كل ما تريد معرفته عن نظرية «صدام الحضارات»

كل ما تريد معرفته عن نظرية «صدام الحضارات» – د. محمد عجلان
ترتكز أطروحة صدام الحضارات على فرضية أساسية، وهي أن الثقافة أو الهوية الثقافية، والتي هي فى أوسع معانيها الهوية الحضارية، هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع فى عالم ما بعد الحرب الباردة ([1]). لذلك يرى هنتنجتون أن أكثر الصراعات انتشاراً وأهمية وخطورة لن تكون بين طبقات غنية وفقيرة، أو جماعات أخرى محددة على أسس اقتصادية، ولكن بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة؛ لأن عالم ما بعد الحرب الباردة – وفقا لأطروحة هنتنجتون – يتكون من سبع أو ثمان حضارات، وتشكل تلك التماثلات والاختلافات الثقافية المصالح والتناقضات والتجمعات بين الدول ([2]).
يرى هنتنجتون أنه وحتى سقوط جدار برلين كانت الأمور أكثر وضوحاً، حيث كانت ثمة مواجهة بين قوتين عظميين فى كل المجالات، لكن دون الدخول فى حرب مباشرة؛ إلا أن الوضع تغير مع انتهاء الحرب الباردة. ويؤكد على أنه منذ انتهاء الصراع بين تلك القوتين ([3]) لن تكون العوامل الأيديولوجية والاقتصادية هي المصدر الأساسي للصراع، لكنه سيكون صراعاً قائماً على أساس الاختلافات الثقافية. فالصراعات الرئيسية فى السياسة العالمية ستحدث بين أمم وجماعات متمايزة من حيث التاريخ واللغة والثقافة والتقاليد، خاصة الدين ([4]).
يقول هنتنجتون: “يقوم افتراضي على أن المصدر الأساسي للصراع فى هذا العالم الجديد لن يكون أيديولوجياً أو اقتصادياً فى الأساس، فالتباينات بين الجنس البشري والمصدر المحوري للصراع ستكون ثقافية، وستظل الدول القومية أكثر الوحدات الفاعلة فى الشئون الدولية، غير أن الصراعات الأساسية فى السياسة الدولية ستقع بين دول وجماعات صاحبة حضارات مختلفة. وسيهيمن صراع الحضارات على السياسة الدولية، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط القتال فى المستقبل ([5]).
ويؤكد هنتنجتون على أن الصراع بين الحضارات سيشكل آخر مراحل تطور الصراع فى العالم المعاصر. ويقول: إنه بعد مرور قرن ونصف القرن من ظهور النظام الدولي المعاصر بسلام وستفاليا، كانت الصراعات فى العالم الغربي تدور إلى حد كبير بين الأمراء والأباطرة والملوك ذوي السلطة المطلقة، والملوك الدستوريين الذين يحاولون تضخيم بيروقراطياتهم وجيوشهم وتعزيز قوة اقتصادهم المركانتيلي ([6]). والأهم من ذلك زيادة رقعة الأرض التي يحكمونها، وفى إطار هذه العملية خلقوا الدول القومية. وبدءاً بالثورة الفرنسية بانت الخطوط الأساسية للصراع بين الدول لا الأمراء. واستمر هذا النمط للصراع الذي ساد القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وهكذا ونتيجة لقيام الثورة الروسية وما أثارته من ردود فعل مناهضة لها أسلم الصراع بين الدول نفسه للصراع بين الأيديولوجيات، وحدث الصراع أولاً بين الشيوعية والفاشية النازية وبين الديمقراطية الليبرالية، ثم ما لبث أن انحصر بين الشيوعية والديمقراطية الليبرالية. وخلال حقبة الحرب الباردة أصبح هذا النمط للصراع متجسداً فى الصراع بين القوتين العظميين التي لا تعد أي منهما دولة قومية بالمعنى الأوروبي التقليدي، كما أن كلاً منهما حصرت هويتها فى إطار اصطلاحات أيديولوجيتها ([7]).
وكانت تلك الصراعات بين الأمراء والدول القومية والأيديولوجيات هي أساساً صراعات داخل الحضارة الغربية، أو حروب أهلية غربية، وكانت هذه حقيقة الحرب الباردة، مثلما كانت حقيقة الحروب العالمية السابقة فى القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. ومع انتهاء الحروب الباردة خرجت السياسة الدولية من طورها الغربي وأصبح واسطة عقدها هو التفاعل بين الحضارات الغربية وغير الغربية. وفى سياسة الحضارات لم تعد شعوب وحكومات الحضارات غير الغربية موضوعاً للتاريخ كأهداف للاستعمار الغربي، بل أنها تنضم للغرب كمحرك وصانع للتاريخ ([8]).
من الواضح أن هنتنجتون ينطلق من فرضية يعتبر فيها الحضارات هي القبائل الإنسانية الكبرى؛ وصدام الحضارات هو صراع قبلي على المستوى العالمي، وليؤكد حتمية هذا الصراع يشير إلى أن الهوية الثقافية هي العامل الرئيسي الذي يشكل تقاربات الدولة وعداوتها، فهي سابقاً كان بإمكانها أن تتجنب انحيازات الحرب الباردة واستقطاباتها، أو أن تغير تحالفاتها حسب مصالحها الآنية وحسبانها لتوازن القوى واختياراتها الأيديولوجية. لكن فى عالم ما بعد الحرب الباردة اختلف الأمر، فقد أصبحت الثقافة عاملاً حاسماً وموحداً فى آن واحد. فالشعوب التي فصلتها الأيديولوجيا وحّدتها الثقافة ([9]). ويزعم أنه خلال الحرب الباردة كانت معظم الصراعات فى العالم بين الأيديولوجيات الغربية (الصراع بين الديمقراطية والشيوعية) إلا أنها انتهت بانتهاء الحرب الباردة، وأصبحت معظم الحضارات قائمة على أساس الاختلاف الحضاري ([10]).
وعلى الرغم من أنه يجعل الحضارات محور اهتمامه، إلا أنه لا يقدم غير النزر اليسير جداً مما يمكن أن نعرفه عنها. إنه يقرر أننا فى عالم اليوم يمكن أن نجد خمسة أو ربما سبعة مجالات ثقافية مختلفة: الحضارة الصينية والهندوسية والإسلامية والغربية، علاوة على ما يمكن إضافته من حضارات أمريكا اللاتينية والأفريقية، ولم يقدم لنا هنتنجتون تفسيرات شافية عن هذه الحضارات. ويذهب هنتنجتون إلى أن جوهر الحضارة الغربية يبنى على العوامل التالية: التراث الكلاسيكي (العقلانية الإغريقية والتشريع الروماني وغيرهما) والكاثوليكية، والبروتستانتية، واللغات الأوروبية بصورها المتباينة، والفصل بين الكنيسة وسلطة الدولة، وسيادة القانون. والتعددية الاجتماعية، والهيئات العامة النيابية، والنزعة الفردية ([11]).
ويؤكد هنتنجتون عن حق أن هذه العوامل أو توليفة منها كانت هي الأساس الأصلي للفردية الغربية. وتراه يحاول – مع قدر من المبالغة – أن يدفع بأن هذه الخصائص غربية وليست حديثة فى العالم الغربي. إن العصر الحديث، وكذا التحديث (بمعنى التصنيع وتوسيع الحضر ومعرفة القراءة والكتابة والتعلم والرخاء والحراك الاجتماعي) يندرجان ضمن تصميم حديث العهد، بينما الخصائص الثقافية الجوهرية المميزة للغرب أقدم عهداً ([12]).
ومن اللافت فى تصنيف هنتنجتون هو تعاميه عن الديانة اليهودية، على الرغم من اعتماده الدين كمتغير أساسي فى تحديد الحضارات وتصنيفها، وبالتالي لم يشر إلى الصراع المحتمل بين اليهودية والإسلام ([13])، واليهودية والمسيحية، كما يشير إلى حتمية الصراع بين الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية من جهة والحضارة الغربية من جهة أخرى. وهذا هو أحد المآخذ على تحليله الذي يعتمد معايير منهجية انتقائية. فاستخدام الدين كمتغير أساسي سيؤدي إلى تصنيف حضارة مسيحية وحضارة إسلامية، وأخرى بوذية ويهودية، لكنه لا يعتمد الدين كمتغير وحيد، مستخدماً متغيرات أخرى مثل اللغة والعادات والمؤسسات والجغرافيا، لكنه كما يتبين استخدام انتقائي، فجغرافياً يميز بين حضارة أمريكا الشمالية وتلك الجنوبية، مع أنها قارة واحدة، ومع هذا نراه يتحدث عن حضارة آسيوية تبعاً لمتغير جغرافي، فى المقابل حين يتحدث عن الحضارة الغربية يتجاوز الجغرافيا لكي يتمكن من دمج ثقافات من قارات مختلفة (أمريكا الشمالية وأوروبا واستراليا). ومن جهة أخرى يفصل الأرثوذكس عن الثقافة الغربية، مع أن السلاف الأرثوذكس هم شعب أوروبي يتبنى الثقافة الغربية، وليس هناك اختلاف جوهري بين الأرثوذكسية والمسيحية. فلماذا هذا التمييز والقطع بين أشكال المسيحية؟ ولماذا تجاهل أفريقيا المسلمة والمسيحية؟ هذه التساؤلات وغيرها بقدر ما تشير إلى تخبط منهجي، تشير إلى هيمنة النزعة المركزية الغربية فى تحليلاته ([14]).
ويبدو أن هنتنجتون لا يستعمل الدين كمقياس للتمييز بين الحضارات إلا بالنسبة للإسلام وحده، أم الحضارات الأخرى فهو ينسبها إلى شيء آخر غير الدين، فالكونفوشيوسية ليست ديناً بل فلسفة أخلاقية وسياسية، أما الديانة السائدة فى الصين فهي البوذية تليها الطاوية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالكونفوشيوسية منتشرة أيضاً فى اليابان إلى جانب البوذية والشانتو التي هي نِحلة متفرعة من البوذية. وهكذا، فإذا اعتمدنا الدين كأساس لتصنيف الحضارات، فسيكون من المعقول تماماً جمع كل من الهند والصين واليابان تحت اسم “الحضارة البوذية”، فالبوذية هي القاسم المشترك بين هذه البلدان، أما الاختلاف بين البوذية والديانات المحلية الأخرى كالطاوية فى الصين والشانتو فى اليابان .. الخ، فليست أكثر اتساعاً وعمقاً من الاختلافات داخل المسيحية أو داخل الإسلام ([15]).
ولعل مما يثير الدهشة فى أطروحة هنتنجتون عن صدام الحضارات، أنه لا يكشف بوضوح عن الأفكار الرئيسية التي تمثل أساس الاستعداد للحرب. بيد أننا نقرأ تعليقات عرضية وإشارات تاريخية عن الحروب الصليبية “المسيحية” والحروب المقدسة “الإسلامية”، وكذا عن ميل الدولة الصينية إلى التفكير تأسيساً على رؤية للهيمنة بدلاً من توازن القوى. وطبيعي أن هذا لا يقوم بديلاً عن التحليل النسقي المنهجي. وإن مثل هذا التحليل من شأنه أن يصل بنا إلى إجابة على سؤال عن الأسباب المؤدية فعلاً إلى سلوك قائم على الصراع. وكذا عن ذهنية الحرب الصليبية أو ما هو على النقيض من ذلك الميل لضبط النفس أو الاستعداد للحوار داخل الحضارات كلا على حدة (باعتبارها قوى فاعلة). ولماذا ينبع من روح الثقافة ذاتها لكل حضارة على حدة وبخاصة فى حال صراع الحضارات والاستعداد للصراع والعنف، والعدوان والسلوك العنيف ([16]).
إننا إذا ما افترضنا كما يفترض هنتنجتون بوضوح وجود “روح الثقافة” التي يمكن اكتشافها وإدراكها، وأنها روح بكر أصيلة لم تتغير تختص بها كل حضارة على حدة، فإننا لن نصل إلى إدراك نزوعها القتالي الفطري إلا من خلال تحليل تفصيلي لهذه الثقافة. ولكن ما يثير الدهشة والاستغراب أننا لا نجد مثل هذا التحليل، ولهذا غيّر من منظوره الفكري الأساسي على المستوى الكلي إلى مجرد رؤى وهمية لا تقوم على أساس، لا تفسر لنا أطروحة هنتنجتون، التي ترى أن صدام الحضارات هو لب السياسة الدولية، لماذا حضارات بعينها أو الدولة الممثلة لها، يتعين عليها أن تدخل فى صدام أصلاً كنتيجة لخصائص ثقافية ([17]).
ويضيف هنتنجتون إلى سلسلة مغالطاته مغالطة أخرى، حيث يسعى إلى الإيهام بأن “الانتماء الحضاري” لا تنال منه الخلافات الأيديولوجية الطبقية، صارفاً النظر بكل مكر السكوت والتجاهل عن أبرز الحقائق التاريخية فى العصر الحديث، وهو الصراع الأيديولوجي الطبقي داخل الحضارة الواحدة، انطلاقاً من الحضارة الأوروبية نفسها: الثورة الفرنسية، والثورات الهادئة نسبياً التي عرفتها بريطانيا وأسبانيا وإيطاليا وألمانيا، وكذا الثورة الروسية والثورة الصينية ومختلف الثورات فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، قد جرت كلها داخل الحضارة الواحدة يحركها التفاوت الطبقي والاختلاف الأيديولوجي ([18]).
هذه الثورات التي هي أبرز الأحداث التاريخية فى القرن العشرين يسكت عنها هنتنجتون ليقرر أن الانتماء الحضاري والإثني هو الحقيقة التي تنكسر عليها الاختلافات الأيديولوجية، معتمداً فى ذلك على مغالطة مكشوفة، حيث يرى أنه فى الاتحاد السوفييتي السابق يستطيع الشيوعيون أن يتحولوا إلى ديمقراطيين، والأغنياء إلى فقراء والفقراء إلى أغنياء، ولكن الروس لا يمكن أن يصبحوا إستونيين، ولا الأذريين إلى أرمن. إلا أن هذا حق يراد به باطل، صحيح أن الروس لا يمكن أن يصبحوا إستونيين، ولكن صحيح أيضاً أنهم تحولوا جميعاً، فى وقت من الأوقات، إلى شيوعيين، وأخذوا يتحولون بعدها إلى ديمقراطيين، تماماً مثلما لا يمكن أن يصبح الفرنسيون ألماناً أو إنجليزاً، ولكنهم تحولوا إلى معسكر واحد ضد الشيوعية. إن القوميات المختلفة ليست متصادمة بالطبع، بل قد تتعاون وقد تتصادم بسبب عوامل لا تدخل فى كون الروس روساً ولا الفرنسيين فرنسيين، عوامل مثل المصالح الاقتصادية والاختلافات المذهبية داخل الدين الواحد ([19]).
ويرى هنتنجتون أن الغرب سيبقى الأول فى القوة والنفوذ، غير أن تغيرات تدريجية وجوهرية ستحدث فى توازنات القوى بين الحضارات، وأن قوة الغرب ستضمحل وتتلاشى، وما سيبقى من معالم قوته سينتشر على أسس إقليمية بين الحضارات الرئيسية ([20])، وأن أكبر وأهم زيادة فى القوة سوف تحدث ستكون للحضارات الآسيوية مع بزوغ مجتمع الصين التدريجي ([21])، وهذه التحولات فى القوة بين الحضارات ستؤدي إلى إحياء وتأكيد الذات الثقافية المتزايدة للمجتمعات غير الغربية. ويشرح تفصيلاً كيف ستتدهور قوة الغرب، وبخاصة على ثلاثة مستويات: السكان، الإنتاج الاقتصادي، والقوة العسكرية. فى عالم الحضارات هذا ستكون العلاقات بين الدول عدائية، وفى بعض منها ستكون عرضة للصراع أكثر من غيرها ([22]).
ويؤكد هنتنجتون أن الصراع سيكون أكثر عنفاً بين الإسلام وجيرانه الأرثوذكس والهندوس والأفارقة والمسيحيين الغربيين. وعلى المستوى العام سيكون التقسيم بين “الغرب والشرق” مرتبطاً بصراعات شديدة بين المجتمعات المسلمة والمجتمعات الآسيوية من جهة والمجتمعات الغربية من جهة أخرى. والصدامات الخطيرة فى المستقبل من المحتمل أن تنبع من التفاعل بين العجرفة الغربية واللاتسامح الإسلامي والإصرار الصيني ([23]).
السؤال المركزي الآن هو: هل الثقافة فعلاً قد غدت أساس الصراع؟ يرى هنتنجتون أن آثار ونتائج المشكلات الثقافية لا تظهر فقط فى السياسة العالمية بين دول القلب الثقافي، بل وتظهر أيضاً على المستوى الإقليمي ودون الإقليمي، ومن ثم يكون طبيعياً أن تتجلى فى النزاعات الداخلية. إن جميع النزاعات السياسية الإثنية أو النزعات القومية الإثنية، يمكن كقاعدة عامة استخدامها كنماذج توضيحية. وتأخذ هذه النزاعات أيضاً، حال تصاعدها، أبعاداً ثقافية وبخاصة الأبعاد الدينية. ولكن يظل تحليل هنتنجتون فى هذا الصدد أيضاً تحليلاً سطحياً، إذ على الرغم من النطاق الواسع لبحثه عن الإثنية، إلا أن تحليله لا يرى أن العوامل الثقافية والعوامل الدينية، كقاعدة عامة، نادراً ما تكون وثيقة الصلة بالبداية الأولى التي انطلق منها تصعيد النزاع. ومن ثم، فإن المشكلات الاقتصادية الاجتماعية التي لا تجد فرصاً للحل تكون أهم كثيراً، وتتضمن مثل هذه الحالات مظاهر التمييز الاجتماعي والاقتصادي المزمنة والمثيرة للإحباط، وهو تمييز يتواتر ويكرر نفسه على المستوى السياسي والثقافي ([24]).
وليس بوسعنا إنكار الطابع الثقافي لهذه المنازعات، ومن ثم فإن خطوط المنازعات بشكل تام ومطلق عبر المجتمعات هي خطوط وثيقة الصلة بدرجة كبيرة. بيد أن العوامل الثقافية فى هذه المنازعات لا تكون ذات أهمية كبيرة فى بداية النزاع بوجه عام، وهو النزاع الذي تثيره وتؤججه عوامل اقتصادية اجتماعية. ولكنها تتحول نتيجة للتصعيد فقط وتصبح عوامل مستقلة ذات قوة دفع أصيلة بنفسها. وهذا ما تؤكده بقوة حقيقة السياقات الاقتصادية الاجتماعية المتماثلة من حيث طبيعة المشكلات؛ إذ تفضي إلى حدوث ديناميات صراع متطابقة على الرغم مما نلاحظه من توجه ثقافي تحدد عبر جانبي خط المنازعة. وبعبارة أخرى، فإنه حين يتصاعد نزاع حدث بتأثيرات ثقافية، ولكن لم تكن الثقافة هي المحددة له، فإنه يكون غير ذي صلة سواء كان يجرى فى إطار توجهات كونفوشيوسية مقابل هندوسية، أو إسلامية مقابل توجهات غربية مسيحية. إذ إن هذه التوجهات الثقافية قابلة للتبادل فيما بينها على نحو ما يبدو فى ظاهر الأمور: الكاثوليكية والبروتستانتية فى أيرلندا الشمالية، والبوذية والهندوسية فى سيرلانكا، وهكذا. ولقد أوضحت البحوث أن العوامل الثانوية أو العوامل من الدرجة الثالثة يمكنها فى حالات متماثلة من تصعيد النزاعات أن تصبح عوامل من الدرجة الأولى. ولكن تحليل هنتنجتون لخطوط نزاع الصراعات يخطئ فى تحديد وضع ومكان العوامل الثقافية، بحيث يبدو نهجه أشبه بنهج ثقافي غير راسخ الجذور فى الواقع ([25]).
ولم يتوقف هنتنجتون عند حدود تقديم الثقافي على الاقتصادي، بل ربط الاقتصاد بما يسميه “الحضارة”، فالتكتلات الاقتصادية – على حد زعمه – يمكن أن لا تنجح إلا عندما تكون متجذرة فى حضارة مشتركة، كما أنه سيكون للنزعة الإقليمية الناجحة فى الاقتصاد دورها فى تعزيز الوعي الحضاري. وهكذا، فالاقتصاد لم يعد يخترق الحضارات كما كان الشأن من قبل، بل الحضارات هي التي تحكم الاقتصاد. ويحاول هنتنجتون أن يعزز رأيه بأمثلة يختارها بكيفية تعسفية، فالمجموعة الأوروبية تقوم على أساس مشترك من الحضارة الأوروبية المسيحية الغربية؛ ولذلك نجحت وتزداد نجاحاً. كما أن نجاح منظمة التجارة الحرة الأمريكية الشمالية يعتمد على التقارب الذي يجري تفعيله الآن بين الحضارات المكسيكية والكندية والأمريكية. أما اليابان التي هي مجتمع متفرد، فهي تجد صعوبات فى إنشاء كيانات اقتصادية من هذا النوع فى منطقة شرق آسيا، وهذا يرجع إلى اختلافاتها الحضارية فى تلك البلدان. وعلى العكس من ذلك الصين، فإن اشتراكها فى حضارة واحدة مع هونج كونج وتايوان وسنغافورة والجاليات الصينية التي تقطن البلدان الآسيوية الأخرى، يجعل النمو الاقتصادي المطرد فى علاقاتها الاقتصادية مع جيرانها هؤلاء يتجه نحو خلق مجموعة إقليمية اقتصادية بشرق آسيا تحت زعامتها ([26]).
وما طرحه هنتنجتون هو مغالطة مضاعفة تقوم على إلغاء التاريخ والسكوت عن أصول الأشياء. إن فصل اليابان عن المجموعة الإقليمية الاقتصادية بشرق آسيا انطلاقاً من كونها حضارة ذات طابع متفرد، دون التعرض لحقيقة هذا التفرد، هو نوع من الفصل التعسفي. فما يفصل اليابان عن بلدان شرق آسيا ليس الحضارة، فهذه المنطقة متداخلة دينياً وتاريخياً وجغرافياً، لكن ما يجعل اليابان ذات طابع متفرد هو ارتباطها الاقتصادي والسياسي مع الغرب منذ إلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي.
أما بالنسبة لهونج كونج وتايوان، فإن إرجاع دخولهما فى كتلة اقتصادية مع الصين إلى “الوحدة الحضارية” هو عمل ينطوي على مغالطة، فتايوان اليوم ليست شيئاً آخر غير جزيرة فرموزة التي هي جزء لا يتجزأ من الصين، وكانت قد تعرضت لغزوات الهولنديين والأسبان ثم استعادتها الصين، ثم ضمتها اليابان إليها بموجب اتفاقية 1895 لتعود إلى الصين سنة 1945 وتصبح عاصمة لما كان يسمى بـ “الصين الوطنية” التي كان على رأسها تشان كاي تشيك عميلاً للغرب ومحمياً من الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما اعترفت الولايات المتحدة بالصين الشعبية عام 1979 بقيت تايوان منفصلة عن الصين. فما يجمع تايوان بالصين ليس مجرد انتماء إلى حضارة واحدة، إن ما يجمعها هو ما يجمع الجزء إلى الكل. أما هونج كونج، فهي أيضاً أرض صينية احتلها الإنجليز 1842 وجعلوا منها مستعمرة فى صورة “منطقة حرة”. ومعلوم أن اتفاقية وقعت بين بريطانيا والصين عام 1984 تقضي برجوع هونج كونج إلى الصين عام 1997. وما نود تأكيده هنا هو فساد الأصل الذي أقام عليه هنتنجتون قياساته واستنتاجاته، فليس الاشتراك فى حضارة هو الذي يجمع تايوان وهونج كونج مع الصين، بل يجمع بينها الانتماء إلى أمة وتاريخ وجغرافيا واحدة ([27]). لكن هنتنجتون أراد ليّ عنق الحقيقة من أجل أن توافق أطروحته الأيديولوجية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) لمزيد من التفاصيل حول تهافت أطروحة هنتنجتون حول أن صراع ما بعد الحرب الباردة سوف يتحول إلى صراع حضاري، انظر هذا الكتاب:
– Group of Authors: The Clash of Civilization, Debate, Second Edition (USA: Foreign Affairs, 2010) P: 33 – 39.
(2) مالك أبوشهيوة: مساهمة أولية للوعي بالآخر، منطلقات وآليات صدام الحضارات، بحث منشور كتقديم لكتاب صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك أبوشهيوة ومحمود محمد خلف، ط1 (ليبيا: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1999) ص: 14.
(3) Tzvetan Todorov: The Fear of Barbarians, beyond the Clash of Civilizations, translated by Andrew Brown (USA: University of Chicago Press, 2010) P: 87 – 88.
(4) Group of Authors: The Clash of Civilization, op. cit, P: IV.
(5) صمويل هنتنجتون: الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، ط1 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1995) ص: 5.
(6) النظام الاقتصادي المركانتيلي هو النظام الذي ظهر فى أوروبا إبان ضعف الإقطاع؛ من أجل تعزيز ثروة الدولة عن طريق التنظيم الحكومي الصارم، بإتباع سياسات تهدف لتطوير الزراعة والصناعة. ويرى البعض أن المركانتيلية كانت تمثل الجانب الاقتصادي للقومي، حيث كانت تعمل على زيادة قوة الدولة ونمو تجارتها، مما يعمل على تعزيز مركزها القومي، فلقد أدى التنافس التجاري كما يرى “ماكيفر” إلى نمو الوعي القومي إلى حد كبير، انظر فى ذلك:
– Hartmann, F. H: The Relations of Nations (New York, 1962) P: 135.
– Macciver, R. M: The Modern State (London, 1954) P: 125.
(7) صمويل هنتنجتون: الإسلام والغرب، مرجع سابق، ص: 6 – 7.
(9) عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الثقافة، مرجع سابق، ص: 252.
(10) Jonathan Fox: Ethnic Minorities and Huntington’s Thesis, British Journal of Political Science, 32, P: 415 – 416.
(11) دييتر سنغاس: الصدام داخل الحضارات، التفاهم بشأن الصراعات الثقافية، ترجمة شوقي جلال، ط1 (الإسكندرية: دار العين، 2008) ص: 135.
(12) دييتر سنغاس: الصدام داخل الحضارات، مرجع سابق، ص: 135.
(13) يعتبر هنتنجتون أن الإسلام دين السيف الذي يمجد الفضائل العسكرية، ويصف الحضارة الإسلامية بأنها متخلفة ومعزولة، وغير قادرة على التعامل مع متطلبات القرن الحادين والعشرين. انظر فى ذلك:
– Javaid Rehman: Islamic State Practice, International Law and That From Terrorism, A critique of the Clash of Civilizations in the New World Order (USA: Hart Publishing, 2005) P: 2.
(14) عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الثقافة، مرجع سابق، ص: 253.
(15) محمد عابد الجابري: قضايا فى الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 104.
(16) دييتر سنغاس: الصدام داخل الحضارات، مرجع سابق، ص: 136 – 137.
(18) محمد عابد الجابري: قضايا فى الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 106.
(20) صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات، مرجع سابق، ص: 170 – 183.
(21) المرجع ذاته، ص: 310 – 320.
(22) عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة، مرجع سابق، ص: 254.
(24) دييتر سنغاس: الصدام داخل الحضارات، مرجع سابق، ص: 139.
(25) نفس المرجع، ص: 140 – 141.
(26) محمد عابد الجابري: قضايا فى الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 109.
(27) محمد عابد الجابري: قضايا فى الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 110 – 111.