بين نارين (قصة قصيرة) بقلم: رمضان عيسى
في ستينيات القرن الماضي يتذكر الكبار قصة الشيخ شيحان الفرافيري واعظ المسجد الوحيد في حي النزلة الواقع شمالي غزة يتذكر الكبار البداية والنهاية، أما الشباب فيتذكرون الحدث بشكل عام دون معرفة الشخوص.
وكما قال أحدهم، يومها وقف الشيخ شيحان يلقي خطبة في المسجد بعد طول غياب، حيث قال:
بسم الله غافر الذنوب، بسم الله ساتر العيوب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد…
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر من خلق فأحكم، قسم الأرزاق وعدل فحكم، أستغفر الله خالق الخير والملائكة، أعوذ به من الشيطان ملهم الشر في النفوس.
ما أن رأى الحضور الشيخ شيحان يصعد المنبر ويبدأ استغفاره حتى تعطلت لغة الكلام ورهفت الآذان وشخصت العيون ودارت الأفكار في كافة الاتجاهات، تساؤل، لماذا اختفى مدة طويلة؟ لماذا عاد؟ كيف دخل المسجد؟ من أي باب؟ لم نره؟
ما دام استغفر ربه إن شاء الله يغفر له، ويغفر لنا معاه علشان بنسمعله. تمتمة من آخر: والله يمكن مظلوم.
ولكن الشيخ شيحان استمر، من يستطيع أن يوقفه؟
استغفر الله خالق البشر وجاعل فيهم نزوع الخير والشر، وقد عدل فأحكم، وما هو بظلامٍ فأعدم،وهو للخير أعطى فأنعم، وهو غافر الذنوب فأكرم.
أيها الناس: ما هو الإنسان؟ إنه روح وجسد، خير وشر، هكذا أراده الله، فمهما نزع للخير، يبقى هناك خيوط تشده للشر، ومهما كان شريراً تشده خيوط للخير، وهو هكذا في ليله ونهاره، وكل واحد فينا كبشر لا يستطيع الهروب من هذا، فقد خلقنا هكذا، جُبلنا على هذا، وهكذا حكم الله فينا، لا اعتراض على حكمه، سبحانه.
قد تكون اليوم فاعل خير، ولكن هناك نزوع شيطاني لعمل عكس ذلك، هناك قوة وضعف، فقد تقوى على فعل الخير، ولكنك لن تقوى إلى الأبد، لابد في حياتنا من شذرات أخطاء، ومن منا بلا أخطاء؟ فالخطيئة معنا منذ البداية، ولا زالت وستبقى.
وأنا مثلكم، بشر مثلكم، إنسان نصف ملاك ونصف شيطان، قد غلبني الشيطان مرة، فعدت إلى الله مستغفراً راجياً العفو ممن سمى نفسه العفو، وأستغفر الله، أعلنها أمامكم، أستغفر الله ما دام لي روح في هذا الجسد، استغفار التائب من ذنب كبير، استغفاراً ليس له حدود.
بدأ يتلعثم، يتباطأ في الكلام كأنما ربط لسانه، تأرجح وانكفأ على وجهه دامعاً كأنما أصابت عينيه غشاوة.
حاول أن يصلب طوله، وقال بتهدج: التائب من الذنب كمن لا ذ ن..ن..ن ب ل . . ه.
فدمدم أحدهم في مؤخرة الصفوف: انهي، كفاية يا شيخ، مهما تلف ومهما تدور، مخلاص وقع المحذور… إحم… إحم
لم يستطع الشيخ الاستمرار فتباطأ في الكلام وانكفأ على حافة المنبر وتأرجح آيلاً للسقوط.
هاجت الناس وماجت، تعالت واندفعت إلى جهة المنبر، حاول بعضهم أن يسنده، أمسكوه من تحت إبطه، رفعوه، نزلوا به، كان مغمضاً عينيه، أنزلوه درجة درجة.
تعالت الأصوات من خلف الصفوف، خذوه إلى المستشفى.
ففتح عينيه وقال: لا…لا… أريد أن أصلي… سأموت وأنا تائب.
ولما نطق، أدرك المحيطون بالشيخ أن ما أصابه نوبة خفيفة، أجلسوه في الصف الأمامي، قام أحدهم إماماً وأنهى الصلاة.
خرج الجموع من المسجد وعينوهم تتلفت يمنة ويسره متسائلةً: ماذا حدث؟ لم نرَ الشيخ شيحان منذ مدة، أين كان؟ مسافر، مريض، ماذا جرى له؟ ولكنه عاد……. عاد إلى المنبر.
دمدم أحدهم…..إحم… إحم…عاد مستغفراً، طالباًَ الغفران، فسأل سامعه: ماذا فعل؟ آراه ذنب كبير… لا أعرفه، ولكن كثرة الاستغفار توحي بذلك.
نظرة إلى ساحة المسجد، لن ترَ أحداً يسير بمفرده، بل ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، فإذا مررت بمحاذاتهم تسمع آراء في كل الاتجاهات، الشيطان قوي، التوبة ، الصدق.
إن عيونه تقول الصدق، لقد تاب حقاً، إنه كلام تائب، ربنا يغفر له.
صادق ولا مش صادق…. مخلاص رسب في الاختبار، وين ما تلاقي شين اعرف أنه في وراها شين.
فقال مرافقه: ماذا شين… شين؟
فرد عليه: وين ما تلاقي شيحان….. فتش، تلاقي تحت عمامته شيطان.
استغفر الله، إحنا خارجين من المسجد يا رجل، ربنا يتقبل منا صلواتنا.
جاء العصر، وجاء المغرب فالعشاء، والناس ليس لهم حديث إلا الشيخ شيحان، رغم أن مُذنب على وشك الاقتراب من الأرض، وحروب التحرر قائمة في العديد من البلدان، لطرد الاستعمار. وحدثت انقلابات في ثلاث دول إفريقية، وولعت كوريا، والقمر الصناعي بيلف حول الكرة الأرضية، والسوفيات زرعوا الفضاء صواريخ.
كل هذا لم يزحزح قصة الشيخ شيحان من أدمغة الناس ولا من ألسنتهم، فالحديث عنها ذو شجون، خاصة إذا دار الموضوع حول حواء وبناتها والمشايخ. أكان لا بد أيها الضابط أن ترسلها إلى بيت الشيخ؟
لا…لا… بيت الشيخ بيت أمين، فهو الواعظ، المرشد، الخطاة يتوبون على يديه، فكيف لا يؤتمن؟
أين تذهب؟ من المؤتمن عليها؟ من يرشدها للتوبة أن كانت أخطأت؟ وهل أخطأت حقاً؟
أحبت، هي أحبت، أصرت على حبها، أنكروا عليها الحب، بسبب خلاف بين عائلة من تحب وعائلتها، وقعت بين المطرقة والسندان، وقعت بين نار الهوى وحرية الاختيار ونار قوة العائلة وخلافاتها القديمة مع العائلة الجارة. تكاثروا عليها، دارت حولها الأقاويل، تطورت الأمور، اشتدت الرياح والأعاصير حولها، لا نصير لها، انتهى الأمان من حياتها.
ما العمل؟ ما الحل؟ بعد ما هُددت بالموت إن خرجت عن طوع العائلة وأحبت، أرادت الزواج غير ما تشتهي العائلة، اضطربت، اختل التفكير، هربت… هربت إلى الأمان، طالبةٍ الحماية، حماية القانون، حماية الشرطة.
الضابط، وجدها واقفة أمامه، فتاة في الثانية والعشرين، ممتلئة الجسم، عطشى إلى كل شيء، إلى الحياة، هاربة من القوة العائلية، من الدكتاتورية العائلية، تنشد الحرية، الحرية في الحياة، في اتخاذ القرار، في أن تقول نعم، أن تقول لا، على الأقل فيما يخصها، في أن تختار مع من تعيش، في أن تختار من تحب.
دارت الأفكار في رأس الضابط المناوب. ما العمل؟ إن وظيفته هي المحافظة على الأمن، على حياة الناس. ماذا يفعل مع فتاة لاجئة إليه، تطلب الأمان على حياتها من قوة غاشمة، تطاردها. أيودعها السجن؟ …لا !!
فهي لم ترتكب جرماً، ولا اعتدت على أحد. أيحجزها على ذمة التحقيق؟ ما التهمة؟
ماذا فعلت؟
القانون تعطل. ليس هناك مادة في قانون الأحوال المدنية تخص ذلك، ماذا يفعل؟ لابد من فعل شيء، لابد من تأمين الفتاة، حتى تهدأ الأمور، حتى يجد حلاً لمشكلتها.
الفتاة شابة، جميلة، يافعة، لها جاذبية خاصة وهي دامعة العينين، فالظرف يفرض عليها ذلك، فكيف إذا زال عنها الكرب الذي تعيشه الآن؟ فلا بد أن تكون فاكهة ناضجة تدعوك لقطافها.
الخوف واقع عليها، ومنها. ما العمل؟ يجب تأمين الفتاة، يجب الاحتفاظ بها لفترة بعيداً عن الخطر، حتى تنتهي الأزمة.
الحيرة بدت على وجه الضابط، ماذا يفعل؟ لو يدري أنه سيواجه هذا الموقف، لقدم اعتذاراً، تمارض، حتى لا يواجه مثل هذا الموقف. رفع سماعة الهاتف، اتصل بالمسئولين، شرح المشكلة، طلب المساعدة، المشورة. ماذا يفعل؟
لابد من اتخاذ موقف يتماشى مع حجم المشكلة، لابد من إيجاد حل لا يترتب عليه ضرر له ولا للفتاة. أين يمكن تأمين الفتاة لفترة من الزمن حتى تنتهي مشكلتها؟
اه… الحل هو الأمان والتأمين، الأمان للفتاة الهاربة، والتأمين لها من أي ضرر ممكن أن يقع عليها.
إذاً لابد أن تكون في بيت أمين لا يستطيع أهلها الوصول إليه وهذا البيت يمنحها الأمان، ويكون أميناً.
تفتقت أفكارالضابط عن فكرة وهي إرسال الفتاة لتعيش في وسط أسرة أمينة، أسرة شيخ المسجد.
نعم… نعم، بيت الشيخ أيمن بيت، فهو الواعظ، وهو مرشد الخطاة إلى التوبة، فكيف لا يؤتمن عليها؟
لمعت الفكرة في ذهن الضابط، عاد إلى الهاتف يطلب المشورة من مسئوليه، فباركوا الخطوة.
فما كان من الضابط إلا أن استدعى الشيخ شيحان.
حضر الشيخ إلى مركز الشرطة، وطرحت أمامه مشكلة الفتاة الهاربة، وأنه وقع عليه الاختيار لتأمينها في بيته، بين أسرته لعدة أيام، قد تطول أو تقصر حتى يتاح لهم إيجاد حل لمشكلتها مع عائلتها.
توجه الشيخ للفتاة، وألقى نظرة تفحصها فيها من رأسها حتى أخمص قدميها – فقال في نفسه: … اه… إنها لوجبة دسمة، من حقها أن تحِب ومن حقها أن تحَب !!
فقال: حسناً ستكون عندي في أمان الله، والله يقدرنا على فعل الخير.
أصطحب الشيخ شيحان الفتاة إلى بيته الواقع في الجهة الغربية من الحي.
يقع البيت وسط مزرعة واسعة، يصعب المرور إليه دون عبور البوابة الرئيسة مروراً بالممر الطويل المؤدي إلى مدخل السكن.
دهشت زوجة الشيخ شيحان عند رؤيتها زوجها يصطحب الفتاة ويدخلها البيت، فهاجمتها الأفكار الغريبة والتي لم تستطع قسمات وجهها أن تخفيها رغم الضوء الخافت الذي يلقي بنوره على مدخل المنزل.
انتحى الشيخ بزوجته جانباً وشرح لها الموقف، وأنه مضطر لحفظ هذه الفتاة في المنزل وتأمينها حتى يتسنى لأهل الخير إيجاد حلٍ لمشكلتها، ورفع التهديد الواقع عليها ومنحها الأمان حتى تعود لكنف أسرتها.
لم تكن هذه المبررات لتقنع زوجة الشيخ شيحان، لكنها أمام موقف لا خيار فيه، لا مفر من استيعاب الفتاة فقالت في نفسها: إحنا كلنا بنات حوا والله يستر ع الولاية.
وفي الجانب الآخر قالت الزوجة ستساعدني في الأعمال المنزلية، خاصة وأنها – أي الزوجة- كانت كثيرة الشكوى وتزور الأطباء كثيراً، وكثيرة السفر إلى مصر للعلاج.
مرت الأيام الأولى على وجود قوت القلوب – اسم الفتاة – وهي ترافق زوجة الشيخ وتشاركها في الأعمال المنزلية وتعرفت على أفراد الأسرة وأصبحت تعيش معهم وتشاركهم في الكثير من الخصوصيات الشخصية.
طالت المدة ولم تُحل مشكلة قوت القلوب، لم تعد إلى أسرتها.
بطول المدة بدأ حرف الشين – أول حرف في الشك – يغزو صدر الزوجة. صحيح أن قوت القلوب نشيطة وتساعدها في الأعمال المنزلية، إلا أنها لن ترتاح لوجودها لمدة أطول في منزلها، فهي شابة، جميلة ونضرة، يشع من عينيها بريق الشباب والنشاط والحيوية فبدأ يداخلها إحساس بالخوف على بيتها منها.
وبطول المدة أيضاً بداً حرف الشين – أول حرف من كلمة شوق – يغزو صدر الشيخ شيحان. فزوجته التي أمامه عرفها، وعرفها جيداً، كثيرة الأمراض والشكوى، وكثيراً ما ينام ليله غير راضٍ عنها. وبالمقابل، تعوَّد على قوت القلوب وأصبحت قطعة من المنزل، فنسي، بل تناسى مشكلتها، تمنى التعقيد لسنة أو يزيد، لا تداخله فكرة مغادرتها المنزل، فهي قوت القلوب بشبابها وجمالها ونضارتها.
وأخذ يتساءل: لماذا؟ …… لماذا؟ …… ولماذا؟ فهو رجل قبل أن يكون شيخاً وواعظاً. وهو إنسان يحب ويطرب ويأنس. ولكن هذه العواطف مقيدة، محددة الاتجاه، باتجاه بيته، ولكنها بدأت تتململ، بدأت تظهر على السطح ، تريد أن تخرج، أن تنطلق من عقالها، كم هي شيطانية هذه العواطف إذا أطلت برأسها، إنه يلجمها كثيراً، فيقترب من الكمال.
لا كمال إلا لله وحده، هو الكامل، وهو فقط متصف بالكمال، لا تشوبه شائبة، سبحانه، ونحن مهما اكتملنا فإن كمالنا حتماً أقل، نحن نصبوا إلى الكمال، وتواجهنا الحياة، فاليوم درجة لأعلى، وغداً درجتان، وبعد غد ذهبت للسوق فرجح الميزان لصالحي فسكتت فعشرة لأدنى وبعد أسبوع تصدقت فعشرون لأعلى، ونظرت لمرأة جميلة مرتين فعشرون لأدنى فحساب الشهر طلع في الماينوس. وهذا الصيف كان به خمسة رحلات للبحر أخرجتني عن طوري فخسرنا الكثير وبدون عدد.
اه … إنه الشيطان في داخل كل إنسان، يدفعه دوماً إلى المزيد من كل شيء، لا يقنع، يطل برأسه يومياً وأحياناً كل ساعة، ليلاً، نهاراً، ومع كل خطوة، ومع كل نظرة.
اه … لماذا لم نقتل الشيطان؟
ماذا يحدث لو مات الشيطان، إبليس؟ ماذا سيكون عليه الحال لو لم يوجد؟ لو لم يوجد في أذهان الناس؟
في ثقافة كل شعب شيطان، منذ بدأ الكائن البشري بالنطق، بنطق الكلمات، وعرف المفاهيم وأصبح لكل شيء اسماً، أسماءً لكل الأشياء المادية والسلوكية والمعنوية، وأصبح الشيطان اسماً يقبع خلف كل سلوك غير مرضي عنه في المجتمع، فهو المحفز، الدافع للتصرفات المشينة، إنه البشاعة في كل شكل، في كل سلوك، في كل قول ممجوج، إنه وراء كل مشكلة، هكذا عرفنا الشيطان منذ الصغر، إنزرع في أذهاننا شكلاً ما …… قبيحاً.
ولكن عجبي قد يختفي الشيطان، وهذا يحدث مراراً خلف كمية من المال، أو شيء داخلك الإغراء لامتلاكه وهو ليس لك، أو يختفي خلف امرأة جميلة، بل خلف كل قطعة من امرأة، ويقبع خلف كل شيء جميل.
عاد الشيخ شيحان يوماً من السوقِ مثقلاً بأكياس الخضار، لم يستطع أن يمد يده ليفتح الباب، ضم الأكياس بيد وضغط الجرس.
بعد لحظة فُتح الباب، إنها هي …. هي قوت القلوب، ولما لحظها من حافة الباب قال: افتحيلي، الله يفتحها علينا وعليكي.
مدت يدها لتخفف عنه أحماله، فناولها أحد الأكياس ماساً يدها، محاولاً الضغط على الأصابع، أحس برعشة، أحست برعشة.
حاولت تفادي المزيد، عيونه تحاول اقتحامها، العيون تسمرت على الجسد المهتز أمامه، انخلعت عيونه من محجريها، جذور قلبه تخلخلت، روحه أصبحت رجراجة.
تساءل …. متى …. متى …. إذا كانت لمسة أطراف الأنامل تسبب الارتعاش، فكيف ما بعد؟ ماذا سيحدث لي لو اقتربت من الما بعد؟ لو وصلنا إلى الما وراء؟
عادت الهواجس الشيطانية إلى رأس الشيخ شيحان، أخذ يتأرجح بين نار الجسد الطاغي الجاذب، ونار الموانع المعنوية التي تحشره داخلها، يحملها في دماغه، تعلمها منذ الفهم الأول طفلاً فشاباً مروراً بمراحل التعليم فالجامعة الأزهرية وجامعة السن والمركز والوظيفة، كل هذا في كفة ميزان….. يا إلهي، كل هذا أصبح أخف من كفة امرأة عارية تبتسم، كفة امرأة حتى لو كانت تحشر نفسها في أثوابها، حقاً إن شيطاناً يختفي خلفها، ويدفعه لسبر غورها، لكشف الما وراء.
غزت هذه الأفكار رأس الشيخ شيحان، فأخذ يستنجد، إنه على حافة الهاوية، إنه يمشي على سيف حاد، لابد أن يقع يميناً أو يساراً، إنه بين نارين، أخذ يصرخ ويستنجد فقال: إلهي إني أغرق، أدعوك أن تنقذني، أستغيث بك، أرسلها لك من الأرض إلى السماء ….. إلى السماء، أبعد عني هواجس ذلك الشيطان اللعين.
هيه، هيه ….. إنك تغفو، إنك تحلم، إنك تغرق أيها الشيخ، أنت تدعو للآخرين بالتوبة والغفران، فيستجيب الله لك، ويتوب على يدك الكثير من الخطاة ويسجلهم الله في سجل التائبين، أما أن تدعو لنفسك فأنت مقيد عاجز،إذاً عليك البحث عمن يدعو لك، ابحث عن شخصٍ ذي دعوة مستجابة، وربما قوت القلوب، فأنت في وضع لا يؤهلك أن تكون ذا دعوة مستجابة، إنك تجري خوفاً، إنك هزمت. عليك أن تصرخ، يا الله !! كم مرة دمدمها تائب؟ كم مرة قالها مستغفر؟ كم مرة لمعت في عيون مخطئين بعد لحظات من الخطيئة؟
لقد كان هو الداعي لها حيثما يقابل خاطئ، استغفر ربك يا ولدي!! استغفري ربك يا ابنتي !!
والآن هو يحتاجها بقوة، يحتاج لغيره أن يتلوها على مسامعه.
قوت القلوب تعيش أيامها باكية، حالمةً، تندب حظها العاثر الذي وصلت إليه، فهي تعيش بين نارين، نار الخوف والقسر والظلم، حيث ولت هاربةً تنشد الأمان، ونار الحلم، بأن تنتصر وينتصر الخير وتنول المراد، بأن يتحرك الحبيب ويخطبها رسمياً ويتحرك دعاة الخير لإزالة الموانع النفسية بين العائلتين، ويوافق الأهل على زواجهما. هي الآن في بيت الشيخ، مُنحت الأمان، ولكنه الأمان المؤقت، الأمان الذي يحمل في رحمه جنين خطر، وكلما طالت المدة، فإن الجنين سيكبر ويطل برأسه، وجنين في هذا الظرف هو جنين مشوه، في كل شيء، يخلق تآكل داخلي، جسدي ونفسي، يبعد الأمان عن كل شيء. لقد أصبح الشيخ شيحان هو مصدر القلق بالنسبة لها، عيونه تأكلها، تطاردها، تدعوها لشيء ما، تدعوها لعمل شيء هو يرغبه، تقول عيونه أنه يطلبها. ليست تدري لماذا؟ على الأقل لإزاحة التكلفة بينه وبينها، فهي في بيته ويجب وضع أساس للتعامل معه، كأب، كأخ، إن عيونه تطلب أكثر من ذلك، صار يكثر طلباته، يزيد من عناصر الاحتكاك، يفرد بساطاً من الأُلفة من نوع جديد، لم تتعود عليه خارج أسرتها. فوجئت يوماً بالشيخ شيحان يحضر لها ملابس حتى يتسنى لها تغيير ملابسها، إنه يرغبها بشكل جديد، بألبسة هو يرغبها. لم تستطع أن ترفض، فوجودها في المنزل، طال، ليس هناك رؤى للحل والمغادرة، إذاً عليها القبول، واستخدام الملابس التي تدفعها لها الأسرة التي تعيش معها وبين ظهرانيها، ولا تستطيع رفض ما أحضره الشيخ. كانت الملابس التي أحضرها الشيخ من نوع بيتي تتيح حرية الحركة أثناء العمل البيتي، تزيح الحرج، تسقط الستائر، ولا مفر، فهي أسيرة، وعليها الطاعة. مرت أيامٌ عصيبة عليها، أحست خلالها أن الدائرة أخذت في الضيق حولها، المرأة كثيرة الخروج من البيت، الأولاد في المدارس، شيحان ازدادت نظراته تركيزاً واشتهاء. فهو ينظر إليها نظرات جائع، لم يذق الطعام منذ مدة، يتلمظ، يمني نفسه باللحظة التي يتذوق فيها الطعام الشهي، ويشرب الكأس حتى الثمالة. الشيخ شيحان يسألها عن الملابس التي أحضرها لها، ولماذا لم تكرر ارتداءها؟
قالت: إنه يصيبها بعض الحرج من ارتدائها.
فقال: لقد أحضرتها لا لكي تعلق على الشماعة في الدولاب وتبقى فارغة، أحضرتها لكي تُلبس وتبقى ملأى، ملأى وغمز بعينه، معبراً بذلك عن رغبته في أن يراها وهي ترتدي تلك الملابس.
وبقوله ملأى، ملأى، كأنه يقلد ما سمعه من نوادر المشايخ حينما يلتفون حول وليمة، فيقول أحدهم رداً على السؤال: هل يحتاج للمزيد من الشراب إذا فرغ كأسه؟
فكان يرد: ماذا ضر لو عاد ملآنا؟
وإذا مر شيخان بجانب معروضات لملابس نسائية، فتسمع أحدهم يقول: انظر يا شيخ !!! كم هي ملابس فاضحة للجسد!!!
فيلوي صاحبه عيونه مصطنعاً النظرة البريئة، ثم يعدل من التواء رقبته ويقول:
ليس المهم هذا، بل المهم حينما تكون ممتلئة، وكل شيء بثوابه، ويبتسم.
وهكذا استطاع شيحان أن يحول النكتة إلى واقع، وأبدى رغبته أن يرى الملابس ملأى، لا فارغة، فالفراغ لا يعني شيئاً، ولا يثير في نفسه شيئاً ذا بال، بمقابل الامتلاء، امتلاء الملابس بالجسد البض، الملفوف، المكسم، الذي يبرز الإمكانيات التي تجعل العيون لا تمل النظر، وتجعل النفس لا تمل التمني.
ازدادت الجرأة لهذا الحد، أن يحضر ملابس، ملابس من نوع خاص، أكثر جاذبية، فهي في البيت، منه، وليست منه، فوجودها مؤقت، الملابس البيتية تجعلها أكثر رسواً، أكثر هدوءاً، وجدت مشكلتها حلاً أم لم تجد، أصبحت عنصراً هاماً،تجلس، تلبس، تتحرك، تتكلم، تبدي رغبتها، تسهر، تنام، تكون في الحديقة، في الشرفة، في المطبخ، كل هذه مكاسب تهدأ النفس، وتدخل الطمأنينة بأن كل شيء على ما يرام، وعليها أن تكون صديقة كل فرد في الأسرة، ماذا يحب، ماذا يكره، أصبحت كاتمة أسرار، تعرف المزيد، وبفراستها تستنتج المزيد، والكل يريد لوجودها أن يطول، تعودوا عليها، إلا زوجة الشيخ التي ترغب مفارقتها حتى لو كانت شبه خادمة، فالمرأة لا تأنس لامرأة أخرى أن تطول جلستها في البيت، الأولاد والزوج فقط، وغير ذلك لا، حتى لو كانت أخت الزوج، فهي قرينة سيئة.
فكيف إذا كانت شابة، وطريدة، وهاربة، لاجئة، تستثير العطف والتعاطف، والمراعاة الخاصة، إذاً على الزوجة أن تقبل هذا الوجود المؤقت، رغماً عنها.
الشيخ شيحان يدرك هذا الجانب في المرأة، وزوجته ككل الزوجات، وقد لاحظ دهشتها الأنثوية حين رأت قوت القلوب تدخل معه البيت، يدرك هذا، يعرف أن أية حركة ولو عن غير قصد ستدخل الشك، الشك يولد الارتباك، هو لا يريد ذلك، يريد أن يكون كل شيء عادياً وفي العادي ينصب شباكه، كأن ليس وراء الأكمة ما وراءها.
كل يوم كان يمر، كان يحمل الجديد، ليس في ساعاته بل في دقائقه ما دام الشيخ في البيت، صار الشيخ شيحان يكثر من طلباته، وخاصة حينما يلحظ قوت القلوب، احضري لي كوباً من الماء، و ….. و ….. احضري لي التفسير لأراجع بعض الآيات، وفي كل مرة كان يحاول تلمس الأصابع، فصارت تعرف أنه إذا ما سمعت صوته يطلب شيئاًُ أنه لوحده، وأن شيئاً في نفس يعقوب.
فوجئت به يوماً يطلب منها أن تحضر له معزقة صغيرة كانت موجودة خارج المنزل، موجودة في الحديقة بمحاذاة السور البعيد للحديقة، ولما ذهبت، فوجئت به يتبعها، حينما تقابلا على بعد من المنزل، بادرها بالسؤال: هل كانت على صلة قوية بذلك الشاب، الذي ترغب الاقتران به؟ هل كانا يلتقيان سراً؟ هل وصلت العلاقة بينها وبين عشيقها إلى أكثر من ذلك؟
كانت هذه الأسئلة عميقة، وأي إجابة تحمل أكثر من معنى، وأن هناك أشياء وأشياء من وراء هذه الأسئلة، وأشياء أكثر من وراء الإجابات عليها، فما كان منها إلا أن أطرقت برأسها يكسوها بعض من الخجل.
آه، لقد أصبح الشيخ مثل أرض مليئة بالألغام، وأصبحت الفتاة تتوقع الخطر في كل وقت، ووراء كل طلب، وخلف كل سؤال.
ما العمل؟ الحلقات حولها أخذت في الضيق أكثر، فأكثر، لا يبدو أن هناك انفراجاً قد يلوح في الأفق، هي الأسيرة، الهاربة إلى الله تستضرعه النجاة، لا يبدو أن هناك اتجاه غير ما يشتهي الشيخ، الذي أحكم القفص، أحكم المغلاق، وألقى المفتاح في البحر، فما عليه إلا أن يمد يده من إحدى الفُرج لتكون في قبضته التي لا تستطيع الفكاك منها، وقوت القلوب أصبحت في حالة من القلق الذي لم تعرف مثله من قبل. أن تعيش حالة قلق، انتظار حبيب، فهو قلق محبب وطبيعي، أما أن تعيش حالة قلق تسببها أسئلة وعيون الشيخ شيحان، فهو القلق المركب، القلق الشديد الوطأة، غير مأمون العواقب، ذو العواقب القاتلة، فهي الهاربة، من الدلف إلى تحت المزراب، ولا مفر، فهي تستطيع التمنع، عدم المجاراة، لكن لا تستطيع الصراخ، لا تستطيع الشكوى، كأن فمها مملوء بالماء، لا تستطيع الهروب، وهي في القفصٍ المحكم الإغلاق.
أحست بكل هذا، فأخذت تغلق باب غرفتها عليها، وتناجي القدر أن يلطف بحالها، قائلةً: لقد هربت من قدري إلى قدري، فلمن الهروب إلا إليك، وإذا هربت من بيت شيحان فإلى أين؟ إلى شيحان جديد ….. من عائلة باغية، إلى سلطة الدولة،القانون، إلى شيحان، إلى قدر أحمق الخطى ….. إلى ….. لست أدري ….. إلى الله، فليس من ملجأ إلا إليه.
رباه ….. رباه ….. رباه، أنا في حالة حرب، الحرب سجال، النصر للأقوى، أنا الطرف الأضعف، وأنت خلقتني الأضعف، لا أملك من نفسي شيئاً، ولا من قوتي شيئاً إلا بك، فهل ستعاقبني لو زلت قدمي؟ لا تقل لي -عفوك- “إياكِ أن تبتلي بالماء”، فأنا موثقة القدمين، ومربوطة اليدين، فكيف لا أبتل بالماء !
وهل هذا قدر منك أم قدر يدي؟ ولما كنت لا أعلم ماذا هو حادث لي بعد الهروب، فهو ليس قدر يدي، وأنت العالم العارف، المقدر، المقسط، ماذا يحدث بعد الهروب؟ إذاً ما يحدث لي فهو قدرك، وتقديرك الذي أنا أسيرته، لا أستطيع الهروب منه، سيظل يدفعني بالاتجاه المرسوم لي سلفاً، إلى قدري السلفي، الحاضر حدثاً.
أين أنا رباه؟ لست أدري أين أنا الآن من قَدَرك، وما هو حادث لي غداً؟ رباه ألطف بي بقضائك ! ألطف بي بقدرك ! الذي يسقط علي دون سابق إنذار، هل هروبي من ظلم الأهل هو ابتلاء؟ حتى يكون قدري، جزائي الشيخ شيحان … رباه … رباه … رباه.
ظلت قوت القلوب سادرةً في غيبوبتها هذه التي تكاد تخنقها، ترسل بها سريعاً إلى حافة الهاوية، السقوط، الهروب، اليأس، الاستسلام، وربما الجنون أو الانتحار.أصبحت لا تحس بجريان الزمن، وأمست في حالة من فقدان الاتجاه، لا تعرف أين تسير، ولا أين المصير، إلى أن جاء يوم مرضت فيه زوجة الشيخ شيحان، فوجد لزاماً عليه أن يصطحبها للطبيب، ولما خرجا نظر الشيخ إلى قوت القلوب وهي تودعهم إلى الباب، فقال لها: أين المفتاح؟ ما دمت لوحدك والأولاد في الخارج سأغلق الباب عليك، حتى لا يمسك أحد في غيابنا بسوء.
وصل الشيخ إلى العيادة برفقة زوجته، العيادة مزدحمة، لا بد من الانتظار، جلس، يرقب، يتفحص، من يدخل يطول دخوله، الازدحام قبله وبعده، ولا بد من الانتظار، الشيخ تململ، إنها فرصته وربما لن تكرر، استأذن زوجته، للخروج، لا يستــطـيع احتمال هذا، سأخرج، وسأعود. بسرعة قفز السلالم قفزاً، فإلى المنعطف، تراءى له باب المنزل عن بعد، ركز نظره على الباب، ودَ لو يستطيع سحبه إليه بأسرع مما هو مسرع إليه، ود لو يختصر المسافة من المنعطف إلى منزله، الآن يحتاج إلى جناحين ليطير بهما إلى البيت، لقد طال الانتظار، زاد الشوق، واشتعلت النار في كل شيء في داخل الشيخ.
نسي كل شيء إلا هي، أبرقت الخطة، لمعت، وهو مقدم على التنفيذ، لا شيء يثنيه، لا شيء يدفعه إلى التراجع، الثمرة في متناول اليد، شهية، دافئة، نضرة، حلوة، كل شيء، وآن القطاف ….. آن القطاف..
وصل الباب، دفع المفتاح على عجل، أغلقه من الداخل، والتفتت عيونه تسبقه اليها، أينك؟ في أي مكان أنت؟ في أي زاوية تجلسين؟ انهضي إني قادم وإياك أن تتمنعي، ولو تمنعت، فالتمنع هو الرغبة المبطنة حتى تزيدي الاندفاع، الاشتهاء، الشوق.
لم يرها، يتلفت، يبحث، ألقى العمامة على أول مقعد صادفه، الأزرة فُكت تباعاً، العيون مشدودة إلى الداخل، اندفع، لم تشعر بدخوله.
كانت واقفة في الشرفة الخلفية ترقب الأفق البعيد، تبحث عن حظ بين طبقات السحب المنتشرة عن بعد، في الأعالي، جاءتها صورة حبيبها، تصورته خلف السحب كأنه ينظرها من خلف سحابة، يبتسم لها، ماداً يده إليها مع ضمة أنامله، صبراً، صبراً، فإني قادم ….. قادم.
إنشدت عيونها إلى الشبح البعيد خلف السحابة دون إحساس منها بما يدور حولها، وإذ بيد الشيخ على كتفها، فانتفضت دهشةً، إنها لوحدها، ليس معها أحد إلا حبيبها البعيد، الخيال، الشبح، خلف السحب، واستدارت الدورة الكاملة، الشيخ شيحان أمامها، هو، هو، يقصدها، يشدها، تصرخ، ليس أنت ….. لا ….. لا.هل اللا ستثني الشيخ؟ ستجعله يتراجع عما هو مقدم عليه، فقد ألقى العمامة بعيدا،ً الآن هو جسد، وأصابع تلمس حرارة، تلمظ وهو يرقبها تلمظ الجائع، انتظر الكثير، فرغ صبره ما قيمة اللا؟ فاللا لا تفيد، ولا العمامة، إلى أين ستهربين؟ أنا وأنت في القفص، والباب مغلق من الداخل، اطمئني، لا أحد، تتمنع، تتهرب، يطرحها أرضاً يُمنيها بالوعود بالهدايا، بالزواج.
طرحها أرضاً، أطبق عليها، الغزالة بين ذراعيه، عنقها بين فكيه، قدماها بين قدميه، وما هي إلا دقائق، لحظات من غيبوبة حالمة لطالما تصوراها عن بعد وهي عن قرب أفظع مما تصورا، ولم يفيقا منها حتى كان كل شيء قد انتهى.
كان الموقف شديداً، انتابهما إحساس غريب، كأن الأوصال قد قطعت، والأعضاء تناثرت، وتحتاج إلى تجميع، فلم يكونا يتصورا أن هذا سيحدث في برهة زمنية قصيرة، ورغم قصرها إلا أنها كانت مشحونة بالأفعال والآهات أكثر منها بالكلمات.
وفجأة انتابت الشيخ صحوة أدرك فيها أنه يجب أن يسرع الخطى عائداً إلى العيادة حيث زوجته في انتظاره، فربما تعود قبل خروجه من البيت.
فقال لها: اعذريني، شغفت بك كثيراً، لدرجة أنني نسيت نفسي، نسيت كل شيء، كل شيء ….. اتبعيني إلى الحمام.
أسرع إلى الحمام وأغتسل، ارتدى ملابسه على عجل، خرج مسرعاً إلى العيادة حيث عاد مع زوجته إلى البيت وكأن لم يحدث شيئاً.
بعد مرور قمران من الزمن، انكشف المستور، قوت القلوب حامل.
لم يستطع الشيخ شيحان أن يصمد أمام تبعات الحدث فسافر إلى الخارج إلى أن تهدأ العاصفة، وعاد مستغفراً من ذنب شيطاني أغواه وأنساه ما أنساه.