نصوص مختارة

مقتطفات من رسائل فان جوخ إلى أخيه (2)

مقتطفات من رسائل فان جوخ إلى أخيه (2)

استكمالا لما بدأناه في سلسلة من المقالات التي سوف نورد خلالها أهم المقتطفات من رسائل فيسنسنت فان جوخ إلى أخيه، سنعرض من خلال هذه المقالة الجزء الثاني من الرسائل .. يمكنك الاطلاع على المقالة الأولى تشمل الجزء الاول مجموعة الرسائل و نبذة عن حياته بالضغط على العنوان التالي :

مقتطفات من رسائل فان جوخ إلى أخيه (1)

ترك فان جوخ ما يصل الى 700 رسالة الى أخيه والذي كانت علاقتهما علاقة وطيدة وقوية الى أبعد حد وتتضمن تلك الرسائل وصف مشاعره وحالاته وأوضاعه، كما ترك الكثير والكثير من اللوحات التي احدثت نقلة في عالم الرسم.  سنسرد هنا على مواقع المكتبة العامة بعض المقتطفات من رسائل فان جوخ مقسمة على عدة مقالات للاطلاع على جانب من هذه الشخصية الغامضة والمثيرة والأكثر شهرة في عالم الفن.

 

 

من الرسالة التاسعة

عودة حميدة وتمنياتي الخالصة لك في هذا اليوم راجياً أن تزداد أواصر حبنا المتبادل قوة على مر السنين. إنني سعيد جدا لأن هناك الكثير مما يجمعنا، ليست ذكريات الطفولة فقط بل لأنك تعمل في نفس المجال الذي أعمل فيه حتى الان وتعرف الكثير من الناس والاماكن التي اعرفها وتحمل الكثير من الولع والحب للطبيعة والفن.

والآن سوف أخبرك عن النزهة التي قمنا بها بالأمس سيرا على الأقدام وكانت الى مدخل البحر. وكان الطريق الى هناك يمر عبر حقول الذرة الصغيرة وشجيرات الزعرور البري  وغيرها الممتدة على طول الطريق. وعندما وصلنا الى هناك رأينا على الجانب الأيسر تلة عالية من الرمال والحصى شديدة الأنحدار تصل الى علو منزل ذي طابقين وفوقها دغل قديم وكثيف من أشجار الزعرور البري والتي كانت كافة فروعها وأغصانها السوداء والرمادية منحنية الى جانب واحد بفعل الريح، كما شاهدنا عدداً من الأدغال الأكثر قدما في هذه المنطقة.

كانت الأرض التي كنا نمشي عليها مغطاة بالكامل بحصيات رمادية كبيرة والطباشير والأصداف. وفي الجانب الأيسر كان البحر هادئاً مثل بركة ماء ليعكس ضوء السماء الرمادية الشفافة التي كانت تحتضن الشمس. كان الموج ساكناً والماء منخفضة جداً.

شكراً على رسالة الأمس التي أرسلتها إلي. إنني سعيد جداً بأن ويليم فالكس هو أحد موظفي الدار فلا تنس أن تبلغه خالص تحياتي.

كنت أتمنى لو تمشيت معك مرة أخرى عبر غاباتي الى شيفينيجين. أتمنى لك أوقاتاً طيبة يوما بعد يوم وبلغ محبتي الى كل من قد يسأل عني، وصدقني.

من الرسالة العاشرة

هل أخبرتك عن العاصفة التي شاهدتها مؤخراً ؟ كان البحر مصفرا وخاصة قرب الساحل وفي الأفق تبدى شعاع من الضوء الذي تراكمت فوقه كميات من الغيوم الرمادية الكثيفة المائلة للسواد والتي تفجر منها المطر بغزارة شديدة. وطفقت الريح تدفع الغباء من الممر الأبيض الصغير على الصخور في اتجاه البحر وبدأت غابات الزعرور البري وأزهار الحائط اليانعة التي نبتت على الصخور تتمايل يتنحني، وعلى اليمين كانت حقول الذرة الصغيرة الخضراء وفي البعيد كانت المدينة التي تراءت كالمدن التي كان يسرمها البرخت درور. المدينة بأبراجها الصغيرة وطواحينها وأسقفها الأردوازية والبيوت الني بنيت على الأسلوب الجرماني، وفي الأسفل كان الميناء الذي يقع بين سدين ممتداً الى البحر الى مسافة بعيدة. كما أنني رأيت البحر مساء الأحد الماضي.. كان كل شيء أسودا ورمادياً ولكن في الأفق كان الفجر يستعد للطلوع.

كان الوقت مازال مبكراً جدا ولكن القبرة كانت قد بدأت بالغناء وفي الحدائق المجاورة للبحر كانت البلابل تصدح بأناشيدها الجميلة، ومن بعيد لاح الضوء في المنارات البحرية وسفن خفر السواحل وغيرها. في نفس الليلة حدقت بناظري من نافذة غرفتي الى أسقف البيوت التي يمكن رؤيتها من هناك وإلى أعالي أشجار الدردار حيث الظلمة تعانق سماء الليل. وعلى تلك الأسقف شاهدت نجمة وحيدة ولكن كبيرة وجميلة ولطيفة أيضاً وحينها شردت بفكري إليكم جميعاً وغصت في سنوات عمري الماضية وفي وطننا وتولدت في نفسي الكلمات والمشاعر “لا تجعلني ابناً يجب العار وامنحني بركاتك ليس لمجرد أنني أستحقها ولكن من أجل أمي. أنت أنت يا عشق الفن لبي كل حاجات. وبدون بركاتك المستمرة فإن النجاح لن يكون حليفنا في أي شيء”.

من الرسالة الحادية عشر

إنه السبت يعود مرة أخرى وأنا أكتب لك ثانية. كم أنا مشتاق لرؤيتك مرة أخرى.. آه إن شوقي عارم جدا. اكتب لي بسرعة بعض الكلمات التي تحكي فيها عن أحوالك.

بينما كنت أكتب إليك تم استدعائي لمقابلة السيد جونز الذي طلب مني أن أذهب الى لندن لتحصيل بعض النقود وعندما عدت الى البيت في المساء، وياللروعة، كانت هناك رسالة بانتظاري من الوالد مع بعض الاخبار عنك. كم كنت أتمنى أن أكون مع كليكما ولكن هناك بعض التطور على الرغم من أنك مازلت ضعيفاً وسوف تستمر مشتاقا لرؤية الوالدة. والان بعد أن سمعت بأنك ستذهب الى الوطن بصحبتها فقد قفزت الى ذهني كلمات كونساينس:
“كنت مريضا، عقلي متعباً، وروحي تحررت من الوهم، وكان جسمي كله آلام. انا الذي وهبني الله على الاقل طاقة معنوية وغريزة عاطفية قوية، سقطتُ في هاوية من الاحباط الموجع وشعرت برعب وتساءلت كيف نفذ السم القاتل الى قلبي المخنوق. وقضيت ثلاثة أشهر في المستنقعات، أنت تعرف تلك المنطقة الجميلة حيث ترتاح الروح في أحضان نفسها وتستمتع بالراحة اللذيذة حيث كل شيء يتنفس بهدوء وسلام حيث تكون الروح في حضرة مخلوقات الله الطاهرة لترمي بعيدا بعبودية الأعراف وتنسى المجتمع وتتحرر من أواصره بقوة الشباب المتجدد وحيث كل فكرة تتخذ شكل الصلاة وحيث كل شيء لا يتناغم مع الطبيعة الحرة الصافية يندفع خارج القلب. آه هناك تجد الأرواح المتعبة راحتها. هناك يستعيد الرجل المنهك نضارة شبابه وفي المساء يمكن للمرء أن يجلس أمام النار واضعاً رجليه على الرماد وعينيه مثبتتين على نجمة ترسل ضوئها من خلال فتحة مدخنة وكأنها تنادينه أو يترك نفسه مستغرقا في احلام غامضة وينظر الى النار ويرى اللهب وهو يتصاعد ويضطرب ويحل مكان اللهب المنطفيء لهب اخر وهكذا، وكانه يرغب في أن يلعق ابريق الشاي بألسنته النارية وأن يفكر بأن ذلك يمثل حياة الانسان : يولد .. يعمل .. يحب .. يكبر..ثم يختفي”

من الرسالة الثانية عشر

عزيزي ثيو، شكراً على رسالتك، كن قوياً، اليوم استلمت رسالة طويلة من الوطن طلب مني أبي فيها اذا كان بامكاننا أن نرتب للذهاب معاً الى امستردام في يوم الأحد القادم لزيارة العم كور. فاذا وافقت على ذلك فسوف أصل الى لاهاي في يوم السبت في الساعة الحادية عشرة، ويمكننا أن نواصل طريقنا الى امستردام في أول قطار في صباح اليوم التالي.

آه، أتمنى أن أجد الطريقة التي تجعلني أكرس حياتي بشكل أكبر لخدمة الله والخلاص. إنني أصلي دائما من أجل ذلك وأعتقد بأن دعائي سوف يصل وأقولها بكل تواضع. وأنني أتحدث بكل تواضع وأقول بأن المرء قد يظن بأن ذلك لا يحدث ولكنني اذا فكرت في ذلك بشكل جدي ونفذت تحت سطح ذلك المستحيل بالنسبة للانسان، فإن روحي تتصل مع الله لأنه قادر على كل شيء، وهو يقول كن فيكون، فهو الذي يأمر لترى ما أراده منصباً أمامك.

آه ثيو لو أنني أنجح في ذلك ولو أن ذلك الاكتئاب الثقيل لأن كل ما فعلته كان حليفه الفشل.. ذلك السيل من اللوم والتأنيب الذي سمعته وشعرت به، لو أنني تخلصت منه.. لو أنني مُنحت الفرصة والقوة معاً  لتحقيق التطور الكامل لكي أثابر في تلك المسيرة..

 

من الرسالة الثالثة عشر

شكرا على رسالتك التي وصلتني اليوم.انني مشغول جداً واكتب على عجل، لقد أعطيت رسالتك للعم جان ويبلغك تحياته وشكره.

لقد استوقفتني جملة في رسالتك تقول “تمنيت لو كنت بعيداً عن كل شيء، انني السبب في كل شيء ولا أجبل الا الحزن للجميع.. أنا وحدي الذي جلب كل هذه التعاسة لنفسي وللآخرين” هذه الكلمات استوقفتني لأن نفس الشعور، نفس الشعور بالظبط، ليس أقل ولا أكثر، يخالج ضميري.

عندما أفكر في الماضي.. عندما أفكر في المستقبل، في جميع المشاكل التي لا تقهر تقريبا.. في العمل الكثير والصعب الذي لا أحبه والذي أرغب أنا، أو ربما نفسي الشريرة في التهرب من أعبائه… عندما أفكر في العيون الكثيرة المتمركزة عليّ والتي تعرف أين يكمن الخطأ إذا لم أنجح ليجعلوا مني هدفاً للوم والتوبيخ المبتذل، ولكن لأنهم متمرسون في المحاولات ومدربون على ما هو صحيح وفضيل فسوف يقولون كما سيبدو من تعابير وجوههم: لقد ساعدناك وكنا نوراً في داخلك..لقد فعلنا من أجلك كل ما في وسعنا ولكن هل حاولت بصدق واخلاص؟ ما هي المكافأة والثمرة التي نحصل عليها من عملنا؟ انظر! عندما أفكر في كل هذه الأشياء وفي أشياء عديدة أخرى مشابهة لذلك فإنها من الكثرة بحيث يصعب تسميتها جميعاً.. وفي كل تلك المصاعب والهموم التي لا تقل كلما تقدمنا في الحياة..في الحزن..في خيبة الأمل..في الخوف من الفشل والعار..فحينها أجد نفسي أحمل نفس التوق أيضا وأتمنى لو كنت بعيداً عن كل شيء!

ومازلت مستمراً ولكن بحذر.. آملاً أن أجد القوة  لأقاوم تلك الأشياء لكي أعرف ماذا أجيب على ذلك السيل من اللوم والتوبيخ الذي يهددني، ومؤمناً بأنه على الرغم من تلك الأشياء التي تبدو بأنها ضدي، فإنني سوف أصل الى هدفي الذي أسعى اليه بكل جهدي.

أشعر في بعض الاحيان بأن رأسي ثقيلة وغالبا ما أشعر بحرقان فيها وأفكاري مشوشة ولا أدري كيف سوف أتمكن من ادخال تلك الدروس الصعبة والكثيرة في رأسي لكي أتعود وأثابر في الدراسة المنتظمة بعد كل تلك السنوات المليئة بالعواطف.. انه ليس بالشيء السهل. ولكنني مازلت مستمراً فاذا كنا متعبين، أليس ذلك بسبب أننا سرنا مسافات طويلة؟ واذا كان صحيحاً أن المرء أمامه معركته التي يجب عليه أن يخوضها على الأرض، أليس  الشعور بالانهاك والاحتراك في الرأس دلائل على أننا مازلنا نقاوم؟ عندما نعمل في عمل صعب ونسعى جاهدين لتحقيق الشيء الأمثل فإننا  بذلك نقاوم في معركة مبررة أخلاقيا، والتي تكون ثمرتها المباشرة أننا نأينا بأنفسنا عن كثير من الشرور. إن الله يرى المشاكل والأحزان ويستطيع أن يساعد الجميع.. إن الايمان بالله قوي في داخلي.. ليس خيالا..ليس ايمانا باطلا.. ولكنه حقيقة.. فالله موجود وأنا متأكد أنه يخطط حياتنا وبأننا لا نملك قرارات أنفسنا تقريباً. لو أنني ركزت كل طاقتي له من قبل لكنت الآن في وضع أفضل ولكن حتى في هذا الوقت سوف يكون دعماً قوياً لي وفي يديه أن يجعل حياتنا قابلة للتحمل ويبعدنا عن الشر.. أن يجعل جميع الأشياء تصب في جانب الخير ويجعل نهايتنا آمنة.

هناك الكيثر من الشر في العالم وفي داخل أنفسنا.. أشياء فظيعة.. ويحتاج المرء لكي يكون متقدماً في الحياة الى ايمان ثابت وقوي وأن يعرف أن بدون الايمان بالله لا يمكن للمرء أن يحيا أو يتحمل الحياة، ولكن مع الايمان يمكن للمرء أن يستمر لفترة طويلة.

عندما كنت واقفاً أمام جثمان أريسون خيم علينا نحن الأحياة هدوء وعزة ومهابة سكون الموت الى الحد الذي جعلنا جميعا نشعر بالحقيقة التي نطقت بها ابنته بصراحة واضحة ” لقد تم تحريره من أعباء الحياة التي يتوجب علينا أن نستمر في تحملها” ولكن مع ذلك فاننا منجذبون الى الحياة القديمة الى درجة كبيرة لأنه بعد امزجتنا المكتئبة سوف تكون لنا لحظاتنا السعيدة، حيث القلب والروح تبتهجان ابتهاجاً عظيماً مثل القبرة التي لا تستطيع أن تتوقف عن الغناء في الصباح على الرغم من أن الروح تغوص أحيناً في جوانحنا ممتلئة بالخوف وذكريات أولئك الذين أحببناهم تعود الينا في الليل.

إنهم ليسوا بموتى، بل أنهم نائمون ومن المفيد أن نأخذ العبرة منهم.

يتبع…

للتواصل مع كاتب المقالة على فيسبوك : Eslam M Essmat

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى