أمّة الملائكة: ماذا فعلت بنا الأنظمة الجمهورية ؟
أمّة الملائكة: ماذا فعلت بنا الأنظمة الجمهورية ؟
نافذ سمّان
يميل بعض الأخوة العرب ، إن كان في مصر أو العراق ، إلى التشنيع على الحركات الجمهورية التي أطاحت بالحكم الملكي ، و الذي وفّر حسب قولهم ، شيئاً كبيراً من الاستقرار الذي فتح الأسواق و أغرقها بمنتوجات من الصناعة الوطنية ، الأمر الذي رفع سعر العملة المحلية ، و يستشهدون بصور ملوكهم و هم يتقلدون الأوسمة و يتم استقبالهم في العالم الغربي المنهك حينها من نتائج الحرب العالمية الثانية المُدمّرة بكل المقاييس ، و يتابعون بأمل ، أن تلك الثورات لو أمهلت الملكيات تلك بعض الوقت لكانت مجتمعاتنا الآن أفضل ، متناسين و بشكل غير منطقي ، أن أجدادنا كانوا رقيق أرض عند إقطاع الأرض ، و أن تلك الفئة الحاكمة غريبة عن الأرض و الشعب ، و أنها أتت للحكم دون مشورة من الشعب و دون إرادة .
الشعب حينها كان ضيفاً في أرضه ، و أن لا سيادة لتلك الأنظمة و لا إرادة .
إذن ماذا فعلت بنا الأنظمة الجمهورية ؟
لا شيء ، لم تفعل تلك الحركات الثورية الجمهورية شيئاً إلا استبدال المستفيدين السابقين بمستفيدين لاحقين . أما حالنا الحضاري الرث ، فالأنظمة الجمهورية بريئة منه ، فحالنا هذا لم يكن وليد ثورة ما أو إنقلاب أو أي تحول سياسي ، فالمواطن المصري لم يكن يوماً يملك من أمره شيء على زمن الملكية ، و لم يكن كذلك على عصر محمد علي و لا حتى أيام السلطنة العثمانية ، نحن ، و أقصد بنحن الآن ، نتاج عصور من القهر المنظم الذي مارسه ضدنا ، كمجتمع ، كل من حكمنا و كل من ولي أمرنا و كل من ساعده من مشايخ ديننا و كل المتسلقين و المستفيدين و محترفي اللعب على التناقضات .
في اعتقادي أن نكبتنا بدأت عندما حورب المعتزلة كرواد عقل ، و أصدر المتوكل فرمانه بتحديد الشريعة المُعتَرف بها ، كتحدّ صارخ لأبسط قواعد الحرية و الدين ، و بدء الحرب على كل المخالفين بإسم الدين و بإسم الله ، و الله بريء من كل ذلك . هم لم يكونوا يدافعون عن الله و الله نفسه لم يطلب من أحد أن يدافع عنه ، هي ببساطة سليقة المستبد و التي ترشده دائما لطرق القهر و الاستعباد ، و لا استعباد أمضى من سيف القهر .
نحن مقهورون منذ عصور ، حين رسخ المُستبد فينا ثقافة الكراهية ، و بتنا أجيالا كارهة لبعضها ، لتاريخها و لأبطالها بل و حتى لمستقبلها التي لا تجرؤ حتى على التفكير به و تطالب بتوقف الزمن ، لأن المستقبل لا شك سيحمل مستبداً أمضى من الذي سبقه . هكذا و بكل بساطة سيطر علينا الكبت و بدأت البارانويا تعشعش في فكرنا و بتنا نخاف الخلاف و الاختلاف ، و حملنا السيف الوحيد الذي سمح لنا المستبد بحمله ، و بتنا نقتل كل جميل فينا بإسم الله ، و بدأنا بالموسيقى و انتهينا بحرية إعمال العقل ، و لن نتوقف عند حد حتى نرى أنفسنا خارج إطار الزمن ، كأمة أضاعت بوصلتها و باتت تعيش خارج التاريخ و الزمن .
نحن هنا لن نجافي الواقع و لا نريد خرق المنطق لعاطفة ما ، فنحن ندرك جداً أن لكل أمة كبوة و لكل حضارة مرحلة من الكمون، فهذا من طبيعة الأشياء، أما ما كان غير منطقي في حالتنا العربية ، فهو هذا الحنين الغريب للماضي و تقديسه ، بل و العمل على العودة له . لا يمكنك محاربة المنطق و لا القوانين الرياضية، لذلك علينا الاعتراف بأن الماضي ماض، ذهب و لن يعود، علينا اسقاط سيف الكراهية من أيادينا و النهوض لنتصالح مع بعضنا و مع ماضينا بكل حسناته و سيئاته و اغلاق هذا الكتاب و كفى.
لقد حَكَمَنا على مرّ التاريخ سفلة و فسقة و قتلة ، أولئك تمكنوا بالسيف و الحيلة و بغفلة من الزمن ، و كما كل مدّع ، تطلّب أن يخترع أولئك شرعية ما ، و سرعان ما هرع شيوخ السلطان لإيجادها ، فقدّسوا الحاكم ، و عندما أطيح بالحاكم بدأوا بتحصين انفسهم ، فقدّسوا رجال الدين ، و أخترعوا لذلك قصص ما أنزل الله بها من سلطان ، من هنا ، ابتلينا بداء التقديس ، و بتنا نقدّس التاريخ ، بل و حتى الجغرافيا ، فرجالات تاريخنا مقدسون و جغرافية أرضنا مقدسة ، انسابنا مقدسة و كتبنا مقدسة و تصرفاتنا مقدسة ، و فجأة ، أصبحنا خارج إطار البشرية ، و اقتنعنا أننا مجتمع من الملائكة لا يأتيه الباطل أبدا.
في ظل هذه الغيبوبة الزماكانية ، لن نجد لأنفسنا مكاناً على الخارطة الحضارية أبداً ، فهذه الخارطة هي لبني البشر ، علينا أن نعترف أولاً أننا من البشر و نخضع لقوانين الإنسانية ، حينها ، سندخل سباق السباق الحضاري ، و لن نبقى كما نحن الآن ، مجرد متفرجين مستهلكين .