أسئلة سخيفة بإجابات علمية: لماذا يصعب صب القهوة من القدح دون إراقتها؟
سليرب! سليرب!
تسألني ما هو “سليرب!”؟ هذا صوت ارتشاف القهوة بالطبع! وتذكر أنه “ارتشاف” وليس “شُرب”، فهناك فارق جوهري بين الحالتين. على أية حال، هذا أنا أحاول كتابة مقال جديد لموقع عالم الإبداع بينما “أرتشف” القهوة وأتأمل الكون متظاهرًا بالحكمة. إن الوصول لحالة النيرفانا لأمر عسير
“هلا منحتني بعض القهوة؟!”
سحبني السؤال من مركز المجرة، لأتطلع إلى ابنتي. أي معجزة تجعل طفلة في السادسة من العمر تحب طعم القهوة الترابي؟ على أيامنا كانت القهوة مرادفًا للهيروين، لكن لا بأس. لا ضرر من إضافة القليل من قدحي إلى كوب اللبن الساخن الذي تحمله في انتظار.
هكذا، استعرت منها كوب اللبن ووازنته بيدي أمام قدح القهوة الذي أمسك به باليد الأخرى. لابد أن يتم الأمر سريعًا، وبخفة يد أثق أني أتمتع بها. ابنتي تنظر لي وكأنما تشاهد عرضًا سحريًا … هذا يمثل ضغطًا إضافيًا، لكني سأفعلها بنجاح!
في ثقة وبابتسامة مشجعة فعلتها، لتسيل القهوة إلى كل شيء من حولي إلا كوب اللبن نفسه! ماذا كان لون السجادة تحت قدمي قبل أن “أدلق” القهوة عليها؟! بالمناسبة، فعل “دلق” من العربية الفصحى وليس من العامية كما تعتقد؛ وهو اختيار مناسب للفظ هنا كي نصرف الانتباه عن الكارثة التي فعلتها منذ ثواني. السؤال المهم هنا هو لماذا تتصرف السوائل دومًا على هذا النحو الشرير؟ لماذا ترفض القهوة مغادرة الأكواب في سلام دون أن تسيل وتغرق بنطالك وتبقّع سجادتك المفضلة؟!
الإجابة بسيطة: للسبب نفسه الذي يجعل الطائرة ترتفع في الهواء!
على الأرجح، لم يسبق لك أن سمعت عن هنري كواندا Henri Marie Coandă؛ وهو أمر مؤسف صدقني. كواندا هو أول من صنع طائرة بمحرك نفاث في العالم، في عام 1910، ومع أنه ابتكاره المدهش حينها لم يعمل كما ينبغي حيث تحطمت الطائرة عند هبوطها، إلا أن أبحاثه واسهاماته في السنوات التالية كان لها أكبر الأثر في فهمنا لآلية عمل أجنحة الطائرات وقوة الرفع.
ففي عام 1934، قام كواندا بتسجيل براءة اختراع لجهاز يعمل وفق ما يعرف حاليًا بتأثير كواندا Coanda effect، والذي يقضي بأنه على سطح مقوس، سيخلق أي سائل يتدفق فوقه ضغطًا داخليًا يحافظ على تدفقه على طول هذا السطح متبعًا انحنائاته. يمكنك تجربة الأمر بأن تفتح صنبور الماء لديك في المطبخ وتضع ظهر الملعقة المقوس أسفل سيل الماء المنهمر. هنا ستجد الماء قد اتخذ اتخذ مسارًا منحنيًا مع تحدب المعلقة بدلًا من مواصلة التدفق في خط مستقيم. ولأن الهواء يعتبر مائعًا كما الماء، فإن جناحا الطائرة يستغل هذا التأثير لتوليد قوة الرفع اللازمة للتحليق بالطائرة. لكن كيف؟ سيتطلب هذا الانتقال إلى مبدأ فيزيائي آخر يدعى مبدأ برينولي Bernoulli’s principle.
قام عالم الرياضيات السويسري دانيال بيرنولي بوضع هذا القانون في القرن الثامن عشر الميلادي. ووفقًا لعلم ميكانيكا الموائع، فهذا المبدأ ما هو إلا تعبير عن بقاء الطاقة في علم حركة السوائل، حيث ينص مبدأ برينولي Bernoulli’s principle على أن ضغط المائع يقل عندما تزيد السرعة، ويرتفع ضغط السائل كلما انخفضت سرعته.
ستخدم قاعدة بيرنولي عند تصميم أجنحة الطائرات، حيث يصمم الجناح ليكون منحني عند سطحه العلوي بينما يبقى سطحه السفلي مستقيمًا مما يجعل الهواء ينساب على السطح العلوي بسرعة أكبر من انسيابه على السطح السفلي للجناح، وبالتالي يكون ضغط الهواء أقل عند السطح العلوي بينما يزيد ضغط الهواء أسفل الجناح، ويؤدي ذلك إلى رفع الطائرة لأعلى!
حيث أن القوة = المساحة × الضغط
إذًا : ق (الرفع) = مساحة الجناحين × فرق الضغط
وبالعودة لتأثير كواندا، فلأن طبيعة الهواء الأصلية هو الانسياب في خط مستقيم، فإن جزيئات تيار الهواء الأقرب للجزء العلوي المحني من جناح الطائرة المنطلقة على الممر تلتصق به وتتبع انحناءته، بينما تهرب الجزيئات الأبعد فوق الجناح وتتحرك بشكل مستقيم، وهو ما يحدث أيضًا أسفل الجناح لأن هذا الجزء منه مستقيم هو الآخر دون انحناءات مما يجعل جزيئات الهواء مترابطة معًا وتنطلق بشكل مستقيم.
والنتيجة هو أننا سنحصل على نفس العدد من جزيئات الهواء أعلى وأسفل جناح الطائرة؛ لكن أعلى الجناح تتمدد تلك الجزيئات لتغطي مساحة كبيرة مما يخلق ضغطًا منخفضًا، على عكس ما يدور أسفل الجناح. هكذا يندفع الهواء مرتفع الضغط أسفل الطائرة إلى الأعلى و … مرحى! ها هي الطائرة تقلع!
لا تبك على القهوة المسكوبة!
ما دخل كل هذا بالقهوة؟ لابد وأنك خمنت الآن ما يحدث بالضبط! فالقهوة، والشاي واللبن وأي مائع آخر بدرجة لزوجة كافية يخضع نفسه لتأثير كواندا. هل تذكر كيف التصقت جزيئات الهواء بالجزء العلوي المنحني من جناح الطائرة؟ هذا ما يحدث تمامًا مع القهوة عندما تتدفق عبر السطح المحدب السميك لقدح القهوة أو “المج”، حيث تلتصق جزيئات سائل القهوة بسطح الحافة السميكة للقدح وتفضل التدفق مع انحناءته بدلًا من التدفق بخط مستقيم إلى كوب آخر!
كيف تتغلب على تأثير كواندا؟ بأن تشرب القهوة في أكواب زجاجية بحافة رفيعة بالطبع! هكذا لن تجد جزيئات المائع سطحًا منحنيًا وسميكًا بما يكفي للالتصاق به فتتدفق مباشرة دون “تسييل”؛ ولهذا تصنع فوهات زجاجات المياه الغازية والكحوليات وحتى أباريق الشاي والقهوة بحافة مشطوفة مستقيمة غير منحنية.
ليتني قرأت هذا المقال قبل صب القهوة من قدحي إلى كوب اللبن منذ دقائق، لاستطعت حينها توفير الكثير من التوبيخ اللاحق من زوجتي! لكن مهلًا … كيف لي أن أقرأه قبل الحادثة والحادثة نفسها هي سبب كتابة المقال من الأساس؟!
هذا ينقلنا مباشرة إلى مفارقة الجد The Grandfather Paradox الشهيرة المتعلقة بالسفر عبر الزمن، لكن هذا مقال آخر بقصة أخر.
المصدر: عالم الإبداع