معلومات ربما لا تعرفها عن الخوارج .. وهل الدواعش هم خوارج هذا العصر ؟
يُقال إن الأفكار لا تموت، وكل كيان ديني أو سياسي أو اجتماعي، هو بالأساس ترجمة واقعية لفكر معين، ورغم أن تلك التنظيمات أو الكيانات من الممكن أن تُضرب في مقتل فيبدو الأمر وكأنها اختفت من الوجود، إلا أن التاريخ يؤكد على أن ذلك غير حقيقي، وأنها ربما تختفي بانتفاء أسباب وجودها، ولكن مع ظهور هذه الأسباب من جديد تنتعش الأفكار وما ينشأ عنها من كيانات، ولذا سوف يستعرض هذا المقال لفرقة من أخطر الفرق في التاريخ الإسلامي، ومن خلال عرض تاريخ هذه الفرقة، سوف نعرف ربما دون مزيد من الجهد إلى مدى الترابط بينها وبين التنظيم الداعشي الذي صار يهدد الأخضر واليابس في العالم العربي، بل والعالم أجمع.
بعد موقعة صفّين التي لم تكن حاسمة وقبول التحكيم بين الطرفين، عاد عليّ مع أشياعه إلى العراق وقد وقع الانقسام بينهم، قسم قَبِل بما جرى، وقسم رفض قبول التحكيم، ورفض هذا القسم دخول الكوفة مع عليّ بل مضوا إلى قرية خارج الكوفة تسمى «حروراء » ونزلوا بها معتزلين علياً وأصحابه، وكان عددهم اثنا عشر ألفاً، وسمي هؤلاء بـ «الخوارج» لأنهم خرجوا على عليّ من بين جنوده، وسمّوا أيضاً بـ «الحرورية» نسبة إلى «حروراء» القرية التي نزلوا بها، كما يسمون أنفسهم بـ«الشراة» إذ كانوا يعتقدون أنهم باعوا أنفسهم لله للقتال في سبيله، مستندين للآية الكريمة (111) من سورة التوبة التي جاء فيها: )إن الله اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهُم وأموالَهُم بأن لهم الجنّة يقاتلونَ في سبيلِ الله فَيِقْتُلون ويُقْتَلُون وعداً عليه حقاً في التوراةِ والإنجيل والقرآنِ، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، ذلك هو الفوز العظيم(.
ويبدو أن أول من استعمل كلمة الشراء والبيع هذه، الثلاثة الذين اجتمعوا وتدارسوا أمر المسلمين وعابوا أعمال ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهروان من الذين خرجوا على عليّ فقاتلهم وقتلهم فترحّموا عليهم، وقالوا ما نصنع بالبقاء بعد إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال (يقصدون علياً ومعاوية وعمرو بن العاص) فالتمسنا قتلهم، فأرحنا منهم البلاد وثأرنا لإخواننا.
فقال عبد الرحمن بن ملجم وكان أحدهم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب، وتكفّل ثانيهم بمعاوية والثالث بعمرو بن العاص.
ويروى أن ابن ملجم دخل المسجد في الكوفة في بزوغ الفجر الأول، فدخل في الصلاة تطوعاً، وراح يقرأ في صلاته الآية الكريمة التي تقول: )ومن الناس منْ يشري نفسَه ابتغاءَ مرضاة الله( (البقرة 207) ويكررها منتظراً دخول علي ليقتله بسيفه المسموم وقد كان من أمر ذلك ما هو معروف.
والخوارج الذين خرجوا من صفوف جيش عليّ بعد عودته من موقعة صفّين هم نواة الخوارج الذين كان لهم شأن كبير في التاريخ الإسلامي، وبظهورهم أصبح في الدولة العربية الإسلامية ثلاثة أحزاب بعد أن كان فيها حزبان فقط.
ولكن أمر هذا الحزب الجديد يدعو إلى العجب، فهم بنوا خروجهم على عليّ لقبوله التحكيم، وهم كانوا قد ألحّوا عليه بقبوله، ثم إنهم خدعوا بما ظهر لهم أنّه الصواب، فراحوا يردّدون قولتهم المشهورة «لا حكم إلا لله» وقد ردّ عليهم عليّ قائلاً «كلمة حق يراد بها باطل».
وقد انطلقت هذه المجموعة الأولى من الخوارج من مكان اجتماعها في «حروراء» إلى موضع آخر هو «النهروان» واستخلفوا عليهم رجلاً منهم وأخذوا يقتلون كل من لم يشاطرهم رأيهم ويعترف بخليفتهم ويتبرأ من عثمان وعليّ.
وقد حاورهم عليّ رغبة منه في حقن الدماء وجمع الصفوف، فانسحب قسم منهم ولم يحاربه، ورفض قسم الانصياع لذلك فاضطر إلى محاربتهم وهزمهم هزيمة منكرة، وعاد ينظم صفوفه لمحاربة معاوية، ولكن ابن ملجم لم يمهله، وكانت ضربة سيفه المسموم سبباً لوفاته، ليتبع ذلك تطورات عديدة، أدت في النهاية إلى تولية معاوية بن أبي سفيان الخلافة، دون أن تخمد جذوة حزب علي أو شيعته، وجذوة حزب الشراة أو الخوارج، وكان هؤلاء أشد خطراً على الدولة الأموية الوليدة، فقد كان معاوية أبغض إليهم من عليّ، إذ كانوا يأخذون عليه أنّه يعبث بأموال المسلمين، ويتخذ القصور والحراس والحجّاب وما إلى ذلك من مظاهر الملك التي اقتبسها من البلاط البيزنطي، كما أنّه لم ينل الخلافة عن إجماع المسلمين ورضاً منهم.
وقد خاض الخوارج الذين كانت صفوفهم تُرفد بأعداد متلاحقة من المؤيدين لهم ومن الناقمين على الحكم الأموي، خاضوا حروباً كثيرة مع جند معاوية وتفاقم خطرهم كثيراً بعد تحقيقهم انتصارات مهمة، ولكن زياد ابن أبيه الذي ولاه معاوية العراق، لم يتهاون في حربهم، حتى أضعفهم كثيراً دون أن يستطيع القضاء عليهم تماماً، وكانوا يتحركون كلما وجدوا فرصة سانحة أو لمسوا عندهم قوة، وقد تحركوا في طول مشرق الدولة العربية الإسلامية بين فارس والعراق، ووصلوا إلى مكة بزعامة نافع بن الأزرق، الذي أراد مساندة عبد الله بن الزبير الثائر فيها ضد الأمويين ولكنهم حين وجدوا أن ابن الزبير ليس على رأيهم تركوه، وعادوا إلى البصرة واحتلوها وعاثوا فيها خراباً (65هـ) وقد اضطرتهم الحروب الشديدة التي شنّها عليهم عبد الملك بن مروان إلى الابتعاد شرقاً فوصلوا إلى كرمان وأصفهان (إيران الحالية)، حيث جمعوا صفوفهم ونظموا قواهم من جديد، وراحوا يفرضون آراءهم على من حولهم وقتل كل مخالف لهم، كما راحوا يجبون الخراج وكأنهم هم الدولة، ولكن الدولة الأموية لم تهادنهم ولاسيما حين جاء الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق واليا عليها لعبد الملك، إذ جرّد عليهم حملات كثيرة أضعفت قواهم كثيرا، بل واستطاعت قتل زعيم الأزارقة الذائع الصيت شجاعة وبسالة (قطري بن الفجاءة) .
كان من نتيجة الضربات التي كالها الأمويون للخوارج وخاصة أيام الحجاج أن التمس هؤلاء نشر مذاهبهم في أطراف الدولة، يذكر ابن خلدون أن خوارج من البصرة قاموا بنشر مذهبهم في المغرب وكانت الثورة التي اندلعت في المغرب سنة 122هـ ثورة خارجية.
همدت حركة الخوارج في المشرق أواخر أيام الدولة الأموية، وإلى مروان بن محمد يرجع الفضل في القضاء على حركاتهم الكثيرة، إذ لم يشغله تفكك دولته عن الضرب على أيديهم، بعد أن شنّوا الكثير من الحروب وأراقوا الكثير من الدماء.
وإذا أردنا أن نلقي نظرة متأنية على نشأتهم وطبيعة دعوتهم بعد استعراض تاريخهم، نجد أن بدايتهم كانت بداية سياسية، فهم قد خالفوا غيرهم في مسألة الخلافة وما يتصل بها، وكان الخوارج الأُول يقولون بصحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان في سنيه الأولى وعليّ إلى أن قبل التحكيم، وهم يمثّلون بمفهوم اليوم الديمقراطية المتطرّفة، ويمكن تلخيص نظريتهم في الخلافة في أنها حق لكل عربي، وأنه إذا اختير الخليفة فلا يصح له أن ينزل عنها، وإذا جار استحلّوا عزله أو قتله إذا اقتضت الضرورة.
وقد أدخل الخوارج بعض التعديل على الشرط الأول، فشرطوا الإسلام والعدل بدل العروبة والحرية، ولاسيما حين انضم إلى صفوفهم كثير من المسلمين من غير العرب، لذلك جعلوا حق الخلافة شائعاً بين جميع المسلمين، مخالفين بهذا الرأي نظرية الشيعة التي تقول بانحصار الخلافة في آل البيت، والأمويين الذين يحصرونها في قريش.
ويرى بعض الباحثين أن الدافع الأصلي لخروجهم كان دافعاً دينياً رغم ما كان يشوبه من المظهر السياسي، بينما يذهب بعضهم الآخر إلى ما ذكرناه من أن صبغتهم منذ نشأتهم كانت صبغة سياسية خالصة، وظلت كذلك حتى خلافة عبد الملك بن مروان، إذ مزجوا آراءهم السياسية بالأبحاث الدينية، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أفكارهم الدينية لا تقل شدّة عن أفكارهم السياسية، كما كان لتعصّبهم السياسي أثر كبير في وجهة نظرهم الدينية، فكانوا أشدّاء في الدين، لا تعرف المرونة واليسر إلى نفوسهم سبيلاً، وقد غالوا في أفكارهم كثيراً، وكان أكثر الخوارج يرون أن غيرهم من المسلمين كفّار، وأن دماءهم وأموالهم حلال عليهم، وقد اشتدّوا في معاملة المخالفين لهم، حتى كان الكثير منهم لا يرحم المرأة ولا الطفل الرضيع ولا الشيخ الفاني، وكانوا لا يتورّعون عن ارتكاب أشد الأعمال قسوة، رغم ما كان من ظهورهم بمظهر العبّاد الزهّاد، وتورّعهم عن تافه الأشياء، وتحرّجهم من صغائر الأمور أشدّ التحرّج، والإتيان بالآيات البيّنات من كتاب الله وأحاديث الرسول، يستدلّون بها على تبرير عملهم، على الرغم من أن فريقاً منهم قد شذّ عنها، أو فسّرها على هواه.
وقد تفرّق الشراة (الخوارج) في مسيرتهم الطويلة فرقاً شتّى بلغت عشرين فرقة كل منها تخالف غيرها في تعاليمها كلها أو بعضها، وكانت بعض فرقهم كبيرة جداً، بينما بعضها الآخر كان محصوراً بعدد قليل من الأتباع، وقد تتابعت هذا الفرق في الخروج على الدولة الأموية، في فترتين، الأولى بدأت في أواخر أيام عليّ، ثم بداية الدولة الأموية وحتى أواخر عهد عبد الملك بن مروان، ثم هدأت حركتهم قليلاً أيام الوليد وسليمان ابني عبد الملك، وكذلك في أيام عمر بن عبد العزيز، ثم بدأت الثانية بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، وكانت كل فرقة من فرقهم تختلف عن سابقتها، أو عن غيرها ممن عاصرها أو ممن تلاها ببعض التفاسير للآيات القرآنية، أوببعض الأحكام الفقهية، والتي كان يطلقها الفقيه مؤسس الحركة أو الفرقة، إذ أن كل مؤسسي هذه الفرق كانوا فقهاء، وأهم هذه الفرق كانت:
1ـ الأزارقة[ر]: وهم أصحاب أو أتباع نافع بن الأزرق وكان من أكبر فقهائهم، وكانت هذه الفرقة أكبر فرقهم وأشدّها قوّة، واستمرّت إلى أواخر أيام عبد الملك بن مروان 65ـ86هـ.
2ـ النجدية: أيام عبد الملك بن مروان (65ـ86هـ) وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي.
3ـ البيهسية: وهم أتباع أبي بهنس بن جابر.
4ـ الإباضية[ر]: وهم أتباع عبد الله بن إباض التميمي.
وقد استمرّ الخوارج في العصر العبّاسي، ولكن نشاطهم كان ضئيلاً جداً قياساً لما قاموا به في العهد الأموي، ومع ذلك فقد شدّد عليهم خلفاء العهد العبّاسي الأول، ولاحقوهم مع من لاحقوا من الزنادقة، لذا فقد ضعفوا كثيراً بعد ذلك، وتفرّقت بقاياهم في أرجاء الدولة العربية الإسلامية الواسعة، ومن بقي منهم تحوّل إلى فرق سياسية، ولا تزال لهم بقايا في بعض مناطق العالم الإسلامي والبلاد العربية ولاسيما في سواحل خليج عمان وغيرها.
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر عن رأي فريق المكتبة العامة.