ماري گريگ تتأمّل كيف تؤثّر لغتنا علينا كي نفكّر في المعرفة.
أريد أن ألفت انتباهكم إلى الطريقة التي تشكِّل اللغة تفاعلنا مع المعرفة، ولأنّ هدفي ليس أن أُظْهِر ما هي المعرفة لكن كيف يُنْظَر لها، “المعرفة” ستؤخذ ببساطة على أنّها تعني معرفة الأفكار والحقائق بالإضافة للناس والأشياء. سأركّز على أبعاد ’الامتلاك ضدّ العلاقة‘ المُوَظَّفة في اللغة ومضامينها، وسأستخدم الإنكليزيّة والفرنسيّة لأوضّح النقطة. أوّلاً سآخذ بالاعتبار الاستعمال لضمائر الملكيّة في كلّ لغة؛ لأنّ كلّ واحدة تحدّد نوعاً ما لعلاقة مع فكرة أو لفكرة، ثمّ سأناقش دور أنواع المعرفة؛ لأنّ كلّ نوع يتطلّب تعاملاً خاصّاً، ومن ثمّ فهم المعرفة. بهذه الطريقة، أرجو أن أوضّح كيف تشكّل اللغة مفاهيمنا للمعرفة. أخيراً، سأناقش بشكل موجز بعض المضامين الفلسفيّة.
المعرفة والامتلاك
في عبارات عامّة، فكرة الامتلاك تشير إلى حيازة شيء ما، سواء كانت فكرة أو شخصاً أو جماداً. حاليّاً أنا أصف فكرة الامتلاك من خلال مصفّي اللغة الإنكليزيّة، هذه اللغة تحمل وجهة نظرتها عن الامتلاك، لاحظ الطريقة التي صيغت بها الجملة الأخيرة: اللغة تمتلك وجهة النظر – موحية أنّ النظرة هي ملكيّة للمالِك، اللغة الإنكليزيّة.[i] لكن خذ الاختلاف بين الصياغتين her computer (الإنكليزيّة) son ordinateur (الفرنسيّة)، حيث أنّ الإنكليزيّة تعيّن تعديل الضمير لجنس المالِك (her computer)، والفرنسيّة تعيّن تعديل الضمير لجنس الشيء المملوك (son ordinateur). في الإنكليزيّة، ليس هناك فارق جنسيّ بين الأسماء، في الفرنسيّة، الأسماء مُعَيَّنة بجنس، وordinateur مذكّر. لذا فحتّى المالكات الإناث للحواسب يجب أن يعدِّلْن ضمائرهنّ الملكيّة إلى son المذكّر، لكن هذه الاستعمالات المميّزة للضمائر الملكيّة تقترح نتائجاً معيّنة، خذ مضامين الجملة: ’she broke her arm‘[ii] هذه الجملة الإنكليزيّة يبدو أنّها تشير إلى أنّ هناك كائن مختلف عن الجسم ينظر لنفسه على أنّه الـshe المالك لليد التي كُسِرَت. الفرنسيّة تفصل الشخص عن جسمه المكسور أيضاً: ’’Elle s’est cassée le bras.‘‘ وأبعد من هذا، الصيغة تعطي اليد ملكيتها الخاصّة: هي اليد التي كَسَرَتْها, وليست يدها.[iii] هذا العنصر من اللغة يملي كيف نتفاعل مع المعرفة، مملياً ما إذا تؤخذ الفكرة على أنّها حقيقة لتُكْتَسَب (mine/mon) أو على أنّها فكرة كي يتمّ التحدّث معها (the/le)، بواسطة التحديد ما إذا كان يقام بتعديل لضمير الشيء المعلوم من أجل الفكرة أو من أجل العارف بالفكرة.
المعرفة والتفاعل
دور الشخص كمالك أو رفيق متواطئ بمعرفة مُحَدَّد باللغة الأمّ للشخص، على سبيل المثال لنفترض أنّ تِم يعرف بأنّ اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، وأنّه يعرف بوبي أيضاً.[iv] يبدو أنّ في الإنكليزيّة فارق في طبيعة المعرفة بناءً على ما إذا كان “يعرف” مبنيّ على شيء (رياضيّات) أو شخص (بوبي)، هذا الفارق مُتَضَمَّن في كلّ تطبيق لكن ليس مفاداً عنه مباشرة. لكن العلم بأنّ اثنين زائد اثنين يساوي أربعة يشير إلى معرفة بحقائق عن الرياضيّات، لكن العلم بشخص ما يمكن أن يحتمل إمّا معرفة سطحيّة (أنا أعرف أنّ اسم هذا الرجل هو بوبي) أو معرفة أعمق بطبع الشخص (أنا أعرف أنّ بوبي صديق وفيّ).[v] إنّ تِم مُعْطى خيارين فيما يتعلّق واصله بالمعرفة هنا: يمكنه اختيار أن يعرف كياناً بواسطة شكل من السلطة، بتذكّر مجموعة معيّنة من المعلومات حولها، أو يمكنه أن يعرف بالدخول في حديث معها، شريطة فكر نقديّ فاعل وتحليل – معرفة تشترط الإدراك لا الحفظ والتلقين. تعتمد الإنكليزيّة على الأدلّة السياقيّة المحيطة باستخدامات الـ”يعرف”[vi] لتحديد نوع المعرفة المعنيّة.
لكن حيث أنّ الإنكليزيّة توحي بالاختلاف بين أنواع المعرفة فقط، الفرنسيّة تصنع فارقاً نصّيّاً حقيقيّاً بين الاثنين، في الأفعال savoirوالفعل connaître. كلا الفعلين يعني “ليعرف”[vii] لكن كلّاً له تطبيق مختلف جدّاً. Savoir يشير إلى معرفة حقيقة (Je sais que deux et deux sont quatre)، بينما يشير connaître إلى إدراك شخص أو فكرة أو شيء (Je connais Bobby). هنا الاختلاف بين المعرفة المميّزة لشيء ما ضدّ إدراك أغمض لشيء ما يُجعَل واضحاً بواسطة التمييز بين الطرائق المختلفة للتفاعل مع المعرفة – الحفظ ضدّ الإدراك. بمعنى آخر، اللغة تحدّد ما إذا كانت المعرفة تُرى على أنّها حقيقة لتُكتَسَب (know-how/savoir) أو على أنّها فكرة ليتمّ الحديث معها (familiarization/connaître)، بناءً على ما إذا كانت المعرفة تضمّ حقيقة تجريبيّة/مهارة، أو كيان شخص/ مفهوم/مجرّد.[viii]فحيث الفارق بين الحفظ والإدراك يُضْمَر في الإنكليزيّة فقط، فهو يُعَبّر عنه مباشرة في الفرنسيّة.
اللغة تحدّد أيّ جانب من تفاعلنا مع المعرفة (المعاملة و/أو النوع) سوف نضع الأهمِّيَّة الكبرى عليها، حيث الإنكليزيّة تستخدم زيادة من الأسماء والصفات والظروف كي تصف بشكل مرئي مفهوماً بكلمات وصفيّة معيَّنة، تعتمد الفرنسيّة على أوصاف أعمّ، لكنّها تشدِّد على الحاجة لتوضيح عمّا إذا يجب أخذ جزء من المعرفة على أنّها حقيقة أو إدراك.
ما المكانة الفلسفيّة لهذا؟ يعتمد على ما إذا كان المتكلِّم يركِّز على نوع التفاعل مع المعرفة، أو ما إذا كان يركِّز بدلاً من ذلك على نوع المعرفة المُتفاعَل معها، يقود إلى تصوّرات مختلفة جدّاً للمعرفة. إذا شُدِّد على نوع التفاعل مع المعرفة، هذا الاهتمام قد يمتدّ إلى التعامل مع كلّ الأدوات، الناس، الأماكن، إلخ. خذ على سبيل المثال مبدأ الوسائل-الغاية لعمانوئيل كانط، يقول كانط بأنّنا ينبغي دوماً أن نعامل الناس كغايات بحدّ ذاتهم، لا كوسائل فقط لتحقيق غاياتنا. في هذا المبدأ، يشدِّد كانط لا على صفات الكيان يتمّ استخدامها كوسائل، لكن على السلوك الذي يُعامَل به الكيان – كوسائل لغاية ما – في تفاعل المستخدم معها (انظر H.J. Paton, The Categorical Imperative: A Study in Kant’s Moral Philosophy, 1947). كذلك، ريني ديكارت يركِّز على تفاعل العقل مع العالم الخارجي، ولذا ينصحنا ألّا نثق بالحواس في التفاعل مع هذا العالم فوق ما يمكن معرفته بواسطة عمليّة الفكر الواعي. اللغة ترينا كيف نحدّد أوّلويّة الأفكار؛ فعل تولية أفكار معيّنة على أخرى هو نتيجة ما تمليه لغة الشخص.
الاعتراف بهذا الفارق ربّما لن يجرّدنا من تأثير لغتنا الأمّ على تعاملنا مع المعرفة، لكنّه قد يعطينا وعياً موسَّعاً لكيف نحن نتفاعل مع المعرفة، كما لو من خارج حيّز معاييرنا ومسلّماتنا اللسانيّة. الاعتراف بالطرائق المميّزة التي يُنظَر فيها للمعرفة في كلّ لغة قد يساعدنا على فهم العلاقات التي نستعملها في المعرفة (المعنى ضدّ الموضوع)، هذا الوعي قد يوضّح غوامض الاستعمال ويؤطِّر تصوّرنا للمعرفة، حين أنّه ربّما لا يوجد صورة موضوعيّة واحدة للمعرفة، نحن نكتسب تبصّراً سياقيّاً لتجلّياتها المتعدّدة.
ما إذا كانت أو لم تكن اللغة هي الأصل لتصوّراتنا وأفكارنا، كما احتجّ البعض، هي من الواضح مساهم قويّ لتصوّراتنا. إنّها العدسة التي نبني خلالها أفكارنا، اعتقاداتنا وهواجسنا عن العالم. رغم أنّنا لا يمكننا الهرب من العدسة المحدودة للغتنا الأمّ، الاعتراف بالطرائق المميّزة التي تُرى بالمعرفة في اللغات الأخرى قد يساعدنا كي نفهم أساليبنا الفلسفيّة للتعامل مع المعرفة، أيضاً ربّما يساعدنا على ممارسة الفلسفة بحساسيّة أعظم للطرائق التي يتمّ التفاعل فيها مع المعرفة خارج معاييرنا اللسانيّة. هذا ربّما لن يحلّ مشاكلنا الفلسفيّة، لكنّه سيجبرنا لنفكّر خارج صناديقنا اللسانيّة، كي نلاحظ حدودها، ونترفّع فوقها عبر تحليل للتصوّرات المسبقة التي تقوّض إدراكنا.