أبحاث ودراسات

علم النفس الجينيالوجي مع رائدته انسلين شوتزنبارغر – بقلم: يوسف عدنان

علم النفس الجينيالوجي مع رائدته انسلين شوتزنبارغر – بقلم: يوسف عدنان

يعرف علم النَّفس الجينيالوجيّ أو علم نفس الأنساب كما يدلُّ عليه اللَّفظ من الناحية الايتيمولوجية، بكونه ائتلاف حرفي حاصل بين مورفولوجية كلمة نفس “psychè” وكلمة جينيالوجيا  “généalogie”. أمَّا من النَّاحية العلميَّة، فيحيل هذا الدَّمج إلى تكامل نظريّ يؤسّس لتوافق إبستيمولوجيّ ممكن بين التَّخصُّصين. يمارس هذا المنهج من طرف معالجين نفسيين متخصّصين، ويستخدم قواعد البحث الجينيالوجيّ في المجال النَّفسي، بما يفيد في تعيق الكشف عن ما تعبّر عنه الوقائع من معاني، ولما ترمز له عند أسلافنا، وهل من الممكن أن يكون لهذه الأحداث الَّتي مرَّت رباط خفيّ مع مشاكلنا الخاصَّة.

فالسيكوجينيالوجيا علم يحدّد في صلبه كسند، ومعين، ومرشد للذوات الانسانية في صراعها المرير مع التَّاريخ العائليّ والجماعيّ، الَّذي ينزل بكلّ ثقله على معيش الأفراد، ويظلُّ ’مخفيًّا’ إمَّا بفعل التَّجاهل أو تحت وطأة السّر العائليّ. لذا، عادة ما يطرح السّيكوجينيالوجي بعض التَّساؤلات القلقة نجملها على النَّحو التَّالي: وقوع هذا الحدث أو ذاك في حياتنا، أيمكن أن تكون له ارتدادات وعواقب وخيمة على بعض الأجيال اللاَّحقة؟ هل يترك فينا أجدادنا بصمات نفسيَّة موغلة؟ وهل للاَّشعور العائليّ وجود حقًّا في الحياة النَّفسيَّة الباطنيَّة؟

لقد ظهر علم النفس الجينيالوجي  – كبراديغم نفسي-  بشكل مشوَّش نوعا مَّا في بداياته. فمنذ سنين خلت والمحلّلون النَّفسيون إلى جانب المعالجين النَّفسيين وباحثين آخرين، يدرسون تناقل المشاكل النَّفسيَّة عبر الأجيال. ولكن، يبدو أنَّهم كانوا يشتغلون بطريقة منعزلة دون تعارف أو تبادل التَّصورات ووجهات النظر فيما بينهم. من حسن الحظّ، نجدهم قد استقرُّوا نظريًّا عند خلاصات تحليليَّة مكثَّفة، استجمعت وتكاملت فيما بينها بشكل خلاَّق، لتنشر بعدها على صعيد مجموعة من المجلات والمؤلفات الفردية والجماعية، طرقوا  من خلالها أبواب ظواهر نفسيَّة غامضة، كي لا نقول باراسيكولوجية، لإثبات حقيقة وجود لاشعور عائليّ متَّصل مع اللاَّشعور الفرديّ، والَّذي يسمّيه “يونغ” في علم النفس التحليلي ب”اللاَّشعور الجمعي” *.

ليتمّ الانتقال –  بموجب هذه الاهتمامات المرتكزة على تاريخانيَّة الأحداث النَّفسيَّة الموسومة بالتّكرار والتَّناقل وديمومة اضطراب الزَّمن النَّفسيّ-  من بناءات مفهوميَّة متناثرة إلى تشيد أنساق نفسيَّة مفترضة، كأن يجري الحديث فيما بعد عن “بنية نفسيَّة جيليَّة للاَّشعور العائليّ”. فالفرد هو نتاج لسلسة جيليَّة طويلة تقضُّ مضجعه، وتشمل كلّ من تزامن تواريخ الميلاد، الزَّواج، الطَّلاق، هجرة، حادثة أو مرض، وأيضا تكرار الأسماء في الشجرة النسبية او العائلية، جذور اللُّغة، أسطورة الأسلاف، الأحداث التَّاريخيَّة للمجتمع (…) إلخ، كلُّ هذه الوقائع هي محرّكات لمعرفة دواليب الذَّات وأبواب للولوج إلى “اللاَّشعور العائليّ والجماعيّ” (1).

إنطلاقا من هذه التحديدات الموجزة، يتَّضح أنَّ علم النَّفس الجينيالوجي يدرس الوقائع المتكرّرة عند أجيال متعاقبة قصد اكتشاف ما يوجد من ألغاز في حياة أسلافنا. هذه الأحداث يمكن أن تستفيق فينا الشُّعور بالألم والمعاناة، إنَّها أقرب ما تكون “بمخيال جماعيّ” خاصّ بالعائلة. بالموازاة مع ذلك، يهتم هذا المبحث وبشكل خاص “بالنَّقل العابر للأجيال” “Transmission transgénérationnelle” الَّذي يتمُّ أساسا بشكل لاواعٍ ما بين أفراد عائلة معينة.

لم يحظ مبحث السّيكوجينيالوجيا “psycho généalogie” بالاهتمام اللاَّئق به في الأبحاث والدّراسات النَّفسانيَّة والممارسات الطبيَّة العلاجيَّة (…) في مجموعة من البلدان. وقد استغرق كمنهج مدَّة طويلة ليثبت جدارته في ساحة العلوم النَّفسيَّة الغربية. ويعود الفضل الوفير في التَّطوير العلميّ المحكم والمتماسك لهذا العلم، إلى المعالجة النَّفسيَّة “آن انسلين شوتزنبارغر ” Ancelin Schutzenberger Anne”خاصَّة بعد أن نظرت له بشكل منهجي ودقيق- تحديدا في سنوات 1980 – عندما وجهت أبحاثها إلى ما تدعوه “ميكانيزم النَّقل اللاَّمرئي”. وتعني به تلك الصَّدمات المتناقلة بين الأجيال بشكل سري ومضمر، وأيضا من حيث هو مخزون لذلك الإرث العائلي الَّذي لا ينكف عن الاستشباح والاستيطان القسري للحاضر. في هذا الصَّدد، تقول هذه الأيقونة التي تحسن الإنصات إلى صوت الماضي، عبارة قوَّية جدًّا بعد أن أخبرت سنين طويلة في هذا التَّخصص اللاَّمعروف وقتها: « ما لا يعبر عنه بكلمات يكبت ويعبر عنه بآلام « *.

ففي سبيل الكشف عن ماضي الأفراد، قد ابتكرت ‘انسلين شوتزنبارغر’ ما يعرف بالجينوسوسيوغرام “génocosiograme”من أجل تشفير الخيوط اللاَّمرئية على امتداد الشجرة النسبية. وهو عبارة عن عدَّة متغيّرات لشجرة جينيالوجيَّة/نسبيَّة مستعلمة في تكنيكات التَّقصي السيكوجينيالوجيَّة، كأداة بالغة الأهميَّة في تحديد التَّسلسل النّسبيّ، الخريطة العائليَّة، الرَّوابط النَّفسيَّة المؤثرة في أجداد الشَّخصيَّة قيد العلاج الاطلاع على الأحداث السَّابقة والرَّوابط الوجدانيَّة المنسوجة في دائرة جهنميَّة من التّكرارات. كما تقحم في تَّقصي الأحداث العامَّة الَّتي طبعت الحياة العائليَّة والشَّخصيَّة من قبيل: ولادة، وفاة، زواج، طلاق أو هجران، حوادث، ترحال، فقدان الجنين (…) إلخ، وتطبق هذه الوسيلة الحفرية على ثلاثة أو أربعة أجيال متعاقبة (2) ، وهي بالمناسبة طريقة لا غنى عنها لبعض التَّقنيات السيكو علاجيَّة مثل “المقاربة العابرة للأجيال “approche transgénérationnelle”.

اشتغلت هذه الأخيرة فترة طويلة برفقة المرضى الَّذين يعانون من السّرطان، ونقّبت في تاريخهم العائليّ المرتقب الوقوع، عن أي “تكرارٍ” أو تماهٍ مع أشخاص يكنون لهم تقديرا ومودة بالغة. ومع تراكم الحالات على مقرّ اشتغالها قد استطاعت هذه المعالجة النَّفسيَّة أن تستنتج بحدس منقطع النَّظير أنّ داء السَّرطان الَّذي أصابهم، قد بدأ بالضَّبط في سنّ حدث فيه أنّ أمّا، أو أبا، ابن العمّ، أو خال، أو جدّة (…) الخ، قد مات جرَّاء نفس المرض المزمن ما أو بسبب حادث آخر مفجع (3).

إنَّها اللَّعنة تطارد أفراد العائلة وتدعوهم لأن يعيشوا نفس المآسي والفواجع والصَّدمات الَّتي سبق أن وقعت لأسلافهم  أو حدث أن جايلوها. فالعرض لا يفتأ عن التّكرار ما لم يتم الكشف عنه والوعي بوجوده، ونضرب المثل هنا بطفل أو طفلة، قضى طفولته متنقلا بين أبوين مطلقين، غالبا ما ينتهي زواجه هو الآخر بفشل عاطفي يتلوه طلاق، أو يتمّ تأجيل الصَّدمة ليعيشها ابنه كدين غير مسدد لا يزال في عنقه. لذلك تدعونا السيكوجينيالوجيا وكما أكّدت عليه بإلحاح المعالجة النفسية شوتزنبارغر إلى إعادة اكتشاف الماضي العائلي الحيّ دائما، قصد تجنب تكرار الأحداث المؤلمة والمحزنة (4).

 أمَّا الناس الذين في حاجة الى الأخذ باليد فيلجؤون إلى العلاج السيكوجينيالوجي من أجل تنظيف الماضي، إعادة بناء التَّاريخ العائليّ وهيكلة عالمهم الدَّاخليّ المضطرب والهائج بأفكار، مشاعر قديمة، أشباح، هوامات، أحلام، صراعات(…) إلخ، تعكّر عليهم صفو الحياة، وتقودهم في بعض الأحيان إلى نهايات دراماتيكيَّة من الممكن تجنُّبها أو التَّعايش معها على الأقلّ، إذا ما اطَّلع الفرد على شجرته الجينيالوجيَّة، ودخل في حوار مع أرواح الأشباح الَّتي تستعمر مساحة واسعة من عالمه الدَّاخليَّ اللاَّواعي. إن السيكوجينيالوجيا بهذا المعنى تفتح بوابة الزَّمن وتمنحنا فرصة أخرى لنعيد إلى قبور أجدادنا معاناة لا تعود إلينا ولا نتحمل فيها أيَّة مسؤوليَّة البتَّة (5).

تساوقا مع نفس النَّهج التَّحليلي، لقد افترضت فرونسواز دولتو سنة 1970، أنَّ الأطفال يرثون اضطرابات لم تحلّ من  قبل آبائهم، وأيضا ديّنهم اللاَّشعوري تجاه الأجيال السَّابقة. مؤكدة في اكثر من مناسبة إن كل طفل في حاجة الى حقيقة لكي يبنى « Tout enfant a besoin de vérité pour se construire » نعطف في هذا الصدد على تصوّر المحلل النفسي سيرج تيسرون الذي درس من ناحيته كيفية تناقل الصُّور الذّهنيَّة بين الأجيال، وقد طوَّر في هذا الاتجاه َّنظما تحليلية داعمة لقواعد البحث في مجال الجينيالوجيا النفسية. لقد أكَّد تيسرون من جهته، أنَّه ينبغي أخذ الماضي العائلي على محمل الجد بما كان، من أجل تحليل صعوبات الحاضر. فالسيكوجينيالوجيون في نظره، يحفرون على أصول الاضطرابات الحاضرة في ماضي العائلة (6). في نفس المنوال، نحيل أيضا القارئ على أعمال الطبيب النّفسي الهنغاري ’Ivan boszormeny’  وهو يعدُّ من بين آباء العلاج العائليّ، بحيث قد أقحم هو الآخر مفهوما هامًّا يدعى “الولاء العائليُّ اللاَّمرئيُّ” (7) . كلّهم من السيكولوجيين الأوائل، الَّذين طوَّروا نظريات ناجحة ومكمّلة لما يمكن أن ندعوه “بالدّيناميات اللاَّواعية للعائلة”. إذن، وعلى ما يبدو، أنَّ هذا الزَّخم المتعدّد من الرَّوافد هو ما يجعل من علم النفس الجينيالوجي قادرا على دمج نظريات متنوّعة ومقاربات تحليلية مختلفة في صلبه.

رغم ما حقَّقه هذا التَّوجه من نجاح مبهر ونتائج عمليَّة طمأنت الى حدّ ما حماة الموضوعية في مجال العلوم الانسانية، لم يسلم هو الآخر من سهام النَّقد والتشكيك في نتائجه، حيث تبدو السيكوجينيالوجيا متأبطة نزعة جبريَّة سببيَّة، تصوّر لنا الذَّات كذاكرة مسكونة بالأشباح، بالأزمنة، بالتَّواريخ، بالأسماء، بالهويَّات، بالرُّموز، بالأسلاف، بالأزمات، بلاوعي يتحدث بأكثر من علامة (…) إلخ، وهي تقضي العمر بأكمله في صراع وكفاح سيزيفي للتَّخلص من هذا الثّقل التَّاريخيّ الَّذي يمزّق صورة الأنا الرَّازح تحت رحمة القدر

العائليّ، والمتقلّب بين ثنايا نوستالجيا متناثرة الأزمنة. ويضيف النُّقاد على ذلك أنَّ علم النَّفس الجينيالوجي مبحث يلفُّه الغموض والإبهام، بخاصَّة تلك المفاهيم غير القابلة للقياس الَّتي يتمُّ إبداعها لتشخيص الأعراض وتفسير تمظهرات لغة اللاَّشعور. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّه ممارسة سحريَّة، وإنّما هو نشاط بحثيٌّ لا يكلُّ من التَّقصي وربط مسارات الأفراد والأحداث الَّتي تلتحم في نهاية المطاف ببعضها البعض وتعطي دلالة معيَّنة. إذ يعمل السيكوجينيالوجيّ على سبيل التَّشبيه، بحدس المحقّق الانجليزيّ المشهور ‘شارلوك هومز’ الَّذي يلاحق خيوط الأدلَّة اين ما ذهبت به، لحلّ الغاز القضايا الَّتي يتحرَّى عنها، دون استثناء اي احد من لائحة المشتبه بهم.

تجدر الإشارة في متمّ هذا المقال الذي زاوجنا فيه ما أمكن بين التعريف والوصف الملحوق بالفهم و التفسير، أنَّ المنهج النَّفسيَّ الجينيالوجيَّ لا يقتصر فقط على الحالات العلاجيَّة العياديَّة، بقدر ما يتوغَّل في مناحي عديدة من التجربة الحياتية، فضلا عن كون اكتشافاته توظف بشكل خلاَّق في كل من الرواية، المسرح، السير الذَّاتيَّة، السينما، علم الإجرام (…) إلخ. فالسيكوجينيالوجيا سفر لا بدَّ منه في تخوم المناطق المهجورة من النَّفس، نوع من الحفريات في ذاكرة الجسد وفي الموروث الجيليّ واللاَّشعور العائليّ، حيث تنطلق الذَّات في رحلة البحث عن تاريخها المشترك في لاشعور الآخر، خارج قيود الزَّمان والمكان .

* أستاذ الفلسفة

باحث في التحليل النفسي والفلسفة

لائحة المراجع:

* يمثّل مفهوم اللاَّشعور الجمعيّ عند كارل غوستاف يونغ طبقة عميقة من العقل الباطن أعمق جذورًا، وأكثر كمون في النَّفس من  اللاَّشعور الشَّخصيّ.

  1. Paola Del Castillo ; Le grand livre de psychogénéalogie au cœur des mots des mots de A à Z ; éditions Quintessence Holoconcept, 2OO5 , p 5.

* « Ce qui ne s’exprime pas en mots s’imprime et s’exprime alors en maux ».

  1. 2. Anne Ancelin Schützenberger, Le Genosociogramme. Introduction à la psychologie transgénérationnelle in”le Genogramme, n° spécial des “Cahiers Critiques de Thérapie familiale et pratique de réseaux” , Bruxelles, 2000, no 25, p. 61–83.

  2. 3. Ces enfants malades de leurs parents ; Anne Ancelin Schützenberger et Ghislain Devroede , Editions Payot, 2005.

  3. 4. Anne Ancelin Schützenberger, Aïe, mes aïeux ! Liens transgénérationnels, secrets de famille, syndrome d’anniversaire, transmission des traumatismes et pratique du génosociogramme Paris, Desclée de Brouwer, 1988.

  4. 5. Savoir se libérer des maux de ses ancêtres ; article ; Le Monde , 17.09.2012 Par Christine Angiolini.

  5. 6. Serge tisseron ; maria torok les fantômes de l’inconscient ; le coq-héron. 2006 )° n186 / p 29 – 30.

  6. 7. Point références ; la psychanalyse après Freud ; le poids du secret de la famille, septembre-octobre 2013 ; p 60.

المصدر

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى