معضلة كينا: الطريقة الصحيحة -وغير الصحيحة- لمعرفة ما يريده الناس
مالكوم جلادويل – الفصل الخامس من كتاب ومضة (Blink)*
ترجمة: أحمد صابر
نشأ مغني الروك كينا في مدينة فيرجينيا بيتش، في ولاية فيرجينيا في عائلة أثيوبية مهاجرة إلى الولايات المتحدة. حصّل والده تعليمه من جامع كامبريدج، وكان يدرّس مادة الاقتصاد في الجامعة. كانت العائلة تستمع إلى أخبار السي أن أن والمذيع بيتر جيننغز، أما الموسيقى فقد كانت العائلة تستمع لكيني روجرز ”لأن أغنيته ذا غامبلر (المقامر) تحمل معاني كثيرة، تخبرك الأغنية عن الحِكم والمال وكيف يسير هذا العالم، لقد أراد والدي أن تكون حياتي أفضل من حياتهم“ يقول كينا. كان لكينا عمٌّ يزور العائلة من وقت للآخر، ويشرح لكينا عن أغاني الديسكو أو الرقص وأغاني مايكل جاكسون، يقول كينا: ”كنت أقول له أنني لا أفهم أياً من ذلك“ لقد كان مهتماً بركوب لوح الزلاجة (سكيت بوردنج)، وقد بنى منحدر خلف المنزل، وكان ابن الجيران يشاركه اللعب ويتزلج معه. وفي يوم ذهب مع صديقه ليريه غرفة نومه التي كانت تغطي حائطها ملصقات وصور لفرق موسيقية لم يسمع عنها كينا في حياته. أهدى ابن الجيران لكينيا البوم (ذا جاشوا تري) لفرقة يو 2 ، يقول كينا: “لقد تلف الشريط من كثرة استماعي إليه، لم أكن أعرف أن الموسيقى بهذا الجمال، لقد كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشر من العمر في ذلك الوقت، وهناك كانت البداية، فقد فتحت الموسيقى لي أبوابها“.
إن كينا طويل جداً ووسامته تسلب اللبّ، حليق الرأس، وله سكسوكة على الذقن، وشكله مثل نجوم موسيقى الروك، إلا أنه ليس متكبراً ولا متعجرفاً، وتحس عندما تحاوره أنه راقٍ وخلوق ومتواضعٍ إلى أبعد الحدود. أما صوته فهادئ ويتحدث بجدية طالب الدراسات العليا. عندما حقق كينا أول ظهورٍ كبيرٍ له في حفلة لفرقة الروك المشهورة “نو داوت”، احتار الجمهور لأن كينا لم يخبرهم عن اسمه، فإما أنه نسي ذلك (هذه نظرية مدير أعماله) أو أنه قرر ألا يعرّف عن نفسه (هذه نظريته)، وعند نهاية فقرته صاح به الجمهور قائلاً (من أنت؟؟). كينا أحد أولئك الأشخاص الذين لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم، هذه صفة تجعله شخصاً مميزاً، لكنها أودت به في نفس الوقت في متاهات في حياته المهنية. علّم كينا نفسه العزف على البيانو عندما كان في منتصف سن المراهقة، وأراد أن يتعلم الغناء، فبدأ بالاستماع إلى ستفي ووندر ومارفن غاي. اشترك كينا ببرنامج للمواهب الغنائية، وسمحوا له بالعزف على البيانو في مرحلة تجربة الأداء لا مرحلة العرض، فغنا أغنية لبراين ماكنايت بأسلوب أكابيلا*[1]. بدأ كينا بكتابة الموسيقى وجمع كل ما يستطيع من مال ليستأجر استوديو، وبدأ بتسجيل أغانٍ تجريبية، أفضل ما يمكن وصفها بأنها مختلفة عن السائد، لكن ليست غريبة. لقد كان من الصعب أن تصنف أغانيه، أحياناً أراد البعض أن يصنفه ضمن الرذم والبلوز وقد كان يغضب لذلك لأنه يرى أن الناس تضعه من هذا التصنيف فقط لأنه أسود. إذا نظرت إلى مواقع الانترنت الخاصة بالأغاني، فقد تجد أغانيه ضمن صنف الأغاني التيرناتف[2] وأحياناً في الكترونيكا[3]، وأحياناً أخرى في قسم (غير المصنف). وقد حاول أحد الناقدين لأغاني الروك أن يحل المشكل بوصف أغانيه كتقاطع بين موجة الأغاني البريطانية الجديدة في الثمانينات والهيب هوب. حتى وإن كان تصنيف أغاني كينا عملٌ صعب، لم يعر كينا في البداية الكثير من الاهتمام للموضوع. استطاع كينا من خلال أحد أصدقائه في الثانوية أن يتوصل إلى بعض المعارف في عالم الموسيقى، “يبدو أن القدر قد رتّب أحداث حياتي كما أشاء“، يقول كينا. وصل القرص الذي يحتوي على تسجيلاتي إلى أيدي الرجل الذي يدعى (جامع المواهب) في أحد شركات بيع أقراص الموسيقى، ومن خلاله إلى كريغ كالمان، الرئيس الشريك لشركة أتلاتنتيك ريكورد. لقد كانت هذه ضربة حظ. كريج يصف نفسه بأنه مدمن على الموسيقى، ويمتلك ما مجموعه مئتي ألف اسطوانة وقرص مدمج من الموسيقى. يجمع كريج أسبوعياً ما يصل إلى 100-200 أغنية للمغنيين الجدد، ويجلس في عطلة نهاية الأسبوع ليستمع إليها واحدة تلو الأخرى، وخلال خمسة إلى عشرة ثواني يقرر إذا كانت الأغنية تصلح أو لا تصلح، ويخرج القرص من المشغل على الفور، ويبقي القليل من تلك الأغاني التي ترتقي لذائقته، ومن النادر أن يستمع إلى أغنية تجعله يقفز من مكانه. لقد فعل كينا ذلك، يقول كالمان: ”لقد صُعقت عند سماعي لأغنيته، وفكرت أنه علي أن أراه على الفور، فاستدعيته مباشرة إلى نيويورك، “وغنى كينا أمامي هنا“ مشيراً إلى مساحة أمامه لا تتجاوز القدمين.”لقد غنى لي وجهاً لوجه”. وحدث أن كان كينا مرة بصحبة صديقه المنتج في استوديو تسجيل، وصدف أن جاء رجل يدعى داني وايمر، وكان يعمل مع فريد دورست قائد الفرقة الموسيقية التي تدعى ليمبيزتك، والتي كانت حينها من أكثر الفرق الموسيقية شهرة في البلاد. وعندما سمع داني غناء كينا، أعجب به بشدة واتصل على الفور بفريد دورست وأسمعه على الهاتف أغنية (فري تايم) لكينا، وكان جواب دورست سريعاً:”تعاقد معه على الفور“. بعد ذلك سمع بول ماغينيس، الذين كان حينها مدير فرقة يو 2 أكبر فرقة روك في العالم، أغاني كينا ودعاه على الفور إلى إيرلندا. سجل كينا فيديو لأحد أغانيه، ولم يكلفه ذلك إلا مبلغ قليل، وأرسل الفيديو إلى قناتي أم تي في 2 وأم تي في حتى يستطيع الوصول إلى عشاق الأغاني. تنفق شركات الأغاني مئات الألوف حتى تستطيع أن تعرض أغانيها على قناة أم تي في، وإذا استطاعوا عرضها مئة أو مئتين مرة فإن ذلك يعد نجاحاً كبيراً. أما كينا فقد سلم هذا الفيديو لأم تي في بيده وتم عرضه475 مرة في الشهور التالية. سجل كينا بعد ذلك ألبوماً كاملاً وأرسله لكالمان، وأعطى كالمان بدوره الألبوم إلى جميع المدراء التنفيذيين في أتلانتيك ريكورد ”لقد كان الألبوم يفوق الخيال، الجميع أراد نسخة منه“. وبعد نجاح ألبوم كينا (نو داوبت) تلقى مدير أعماله اتصالاً من نادٍ ليلي يدعى روكسي في مدينة لوس أنجيليس، وهو أحد النوادي الليلية المشهور في عالم الروك.”هل يرغب كينا في أن يقدم أداءً على مسرحنا ليلة الغد؟ “ وافق كينا على ذلك وأعلن على موقعه أنه سيقدم العرض في الليلة التالية على مسرح روكسي. لقد ”وضعت الإعلان عصر اليوم الذي تلقيت فيه الاتصال“ يقول كينا، وفي عصر اليوم التالي تلقى كينا اتصالاً من نادي روكسي ليخبروه أنه لا يمكنهم استقبال المزيد من الناس لأنه لم يعد هناك مكان. يقول كينا: ”اعتقدت أن الحضور لن يتجاوز 100 شخص، لكن المكان كاد أن ينفجر من كثرة الحضور، كانت الناس تقف في الصف الأول وتغني معي كل كلمة، لقد صعقت عندما رأيت ذلك“. هذا يدل على أن الناس العاشقة للموسيقى، أي الذين يمتلكون شركات بيع الاسطوانات والذين يذهبون إلى النوادي ويعرفون الساحة الموسيقية جيداً، يحبون أغاني كينا، وسينبهرون بها عند سماعها! ولنكون أكثر دقة، عندما يستمعون إلى أغاني كينا، فإن إحساسهم يخبرهم بأن كينا هو ذلك المغني الذي سيحبه الناس، ونعني بالناس أولئك الأغلبية التي تشتري الأقراص الموسيقية. عندما بدأت أغاني كينا تُتَداول في نيويورك، وينظر إليها المدراء التنفيذيين في الشركات الموسيقية بجدية، قدمت ألبوماته ثلاثة مرات إلى شركات متخصصة بدراسة السوق. هذا شيء معروف في سوق الموسيقى، إذا أراد المغني أن يكون ناجحاً، يجب أن تذاع أغانيه على الراديو. والراديو لا يذيع إلا تلك الأغاني التي وصفتها شركات دراسة السوق على أنها ستعجب الجمهور بشكل يفوق الخيال. لذلك، وقبل أن يوقعوا عقداً وينفقوا الملايين على عقود المغنيين، تنفق الشركات بضعة آلاف من الدولارات لتجرب أغاني الفنان بنفس الأسلوب الذي تتبعه محطات الراديو. بعض الشركات على سبيل المثال تضع الأغاني الجديدة على الانترنت وتحلل تقييم الجمهور الذي يزور الموقع ويستمع إلى الأغاني، وبعض الشركات تشغل الأغاني للمقيّمين من خلال الهاتف أو ترسل لهم أقراص مدمجة بالأغاني المراد تقيمها. هناك المئات من الذين يقيّمون هذه الأغاني، وبعد عدة سنوات أصبحت نظم التقيّيم معقدة ومتطورة. بيك ذا هيتس على سبيل المثال هي خدمة تقييم تقع بالقرب من العاصمة واشنطن دي سي وتمتلك أكثر من ٢٠٠ ألف مقيّم يستمعون ويقيمون الأغاني من وقت لآخر. فإذا كانت الأغنية على راديو توب فورتي التي يتراوح أعمار المستمعين لها بين ١٨ـ٢٤ وحققت الأغنية متوسط 3.0 فأكثر، على اعتبار أن تقييم الأغنية بنقطة واحدة يعني(لا تعجني)، فذلك يعني أن نسبة نجاح الأغنية سيكون أكثر من 85%.
هذه هي الشركات التي تم الاستعانة بخدماتها لتقييم أغاني كينا، والنتيجة كانت سيئة. فعلى سبيل المثال، أرسلت شركة ميوسك ريسيرش في كاليفورنيا قرص مدمج يحتوي على أغاني كينا إلى 1200 شخص من مختلف الأعمار والأجناس والفئات العمرية، وتم استدعاؤهم بعد ثلاثة أيام لمعرفة آرائهم في الأغاني على مقياس من 0-4. و كانت النتيجة، وفقاً للتقرير الذي استخدم التحسين اللفظي، (ضئيلة).
حققت إحدى أفضل أغانيه “فري تايم“ نسبة تقييم 1.3 بين المستمعين على محطات أغاني الروك، و0.8 للمستمعين لقناة أر أند بي. وقد قيّم موقع بيك ذا هيتس كل أغاني الألبوم، حيث حصلت أغنيتين على تقييم (عادي) وباقي الأغاني حققت (دون العادي). هذه المرة كانت النتيجة أكثر حدة ” يفتقد كينا كفنان الجمهور الأساسي، وهناك أمل ضئيل في أن يحقق شهرة على الراديو“. التقى كينا مرة ببول ماكغينيس، مدير فرقة يو 2 خلف المسرح في إحدى الحفلات، فأشار إليه وقال ”هذا الرجل سيغير العالم “. هذا ما أحس به بول ، هذا كان حدسه، ومن نافلة القول أن مدير فرقة يو 2 يعرف ما هي الموسيقى الحقيقية. لكن الناس الذين كان من المفترض أن يغير كينا حياتهم لم يوافقوا على ما قاله بول، فبعد أن ظهرت نتائج التقييم، تحول مستقبل كينا الواعد في عالم الموسيقى إلى هدف صعب بعيد المنال. حتى يتمكن من إذاعة أغانيه على الراديو كان لابد من أن يثبت أن الناس تحبه وهو ما لم يستطيع إثباته.
1. نظرة أخرى على الانطباع الأول
يذكر ديك موريس في مذكرته بعنوان (خلف المكتب المستدير) “بهايند ذا أوفال أوفيس” في سنوات عمله بمهنة مستطلع رأي سياسي، أنه ذهب إلى أركانساس عام ١٩٧٧ ليلتقي بالمدعي العام البالغ من العمر ٣١ عاماً، وهو شابٌ طموحٌ يدعى بيل كلنتون:
شرحت له أنني أخذت هذه الفكرة من صديقي مستطلع الرأي ديك دريسنر الذي طبقها في عالم الأفلام. قبل أن يعرض فلم لجيمز بوند أو تظهر سلسلة جديدة لفلم مثل ”جوز“، كانت الشركات تتعاقد مع درسنر حتى يلخص الفلم ويقرأ على المقيّميين بعض التشويقات المستخدمة لأغراض الدعاية عن الفيلم ليرى أيها أكثر تأثيراً. وفي بعض الأحيان، كان يقرأ عليهم نهايات مختلفة، ويغير أسماء الأماكن التي صور فيها مشهداً ما ليرى أيها يفضلون.
فسأله كلينتون: وهل تستخدم هذه التقنيات كما هي في السياسة؟
فشرحت له كيف يمكننا أن نطبقها.” لماذا لا نطبق نفس الأسلوب مع الدعايات السياسية؟ أو الخطابات؟ أو الآراء حول مسألة ما؟ وبعد كل كلمة نسألهم لمن سيعطون أصواتهم؟ ثم نرى بعد ذلك أي من الشعارات تؤثر في أكبر عدد من الناخبين. ”تحدثت مع المدعي العام لمدة أربع ساعات، تناولنا الغداء على مكتبه، ثم شاركته عينات من استطلاعات الرأي التي أجريتها. لقد أعجب كثيراً بالطريقة التي يطبق فيها الاستطلاع، لقد كانت طريقة تحوّل أسرار السياسة الخفية إلى علم يمكن اختباره وتقييمه. أصبح موريس بعد ذلك أحد المستشارين المهمين لبيل كلنتون بعد أن أصبح رئيساً، وكان ينظر الكثير إلى طريقته في الاستطلاع على أنها غير شريفة، وأنها احتيال على مبدأ الأمانة الذي يفرض على السياسيين المنتخبين التصرف وفق المبادئ النبيلة. في الحقيقة، إن الحكم على طريقته بأنها فاسدة فيه مبالغة، كل ما فعله موريس هو تحويل قواعد السياسة إلى القواعد التي تحكم عالم الأعمال. فالجميع يريد أن يعرف الآثار الخفية والمؤثرة لتصرفاتنا على محيطنا، فصانعي الأفلام والمنظفات والسيارات والموسيقى يريدون أن يعرفوا آراءنا في منتجاتهم. لذلك لم يستطع أصحاب شركات الموسيقى الذين أحبوا كينا أن يتصرفوا تبعاً لحدسهم، فعندما يتعلق الموضوع بالناس، لا يمكن الاعتماد على الحدس فقط. لقد أرسلت أغاني كينا إلى شركات الأبحاث لأن السائد هو أن أفضل طريقة لمعرفة ما يريده الناس هو أن تسألهم مباشرة عما يريدون، لكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟ إذا سألنا الطلاب في تجربة جون بارغ لماذا استطاعوا أن يقفوا بصبر بعد أن تم شحن عقولهم بما يدعوا إلى التصرف بأدب، فإن إجابتهم لن تكون صحيحة. وإذا سألنا المقامرين في أيوا لماذا فضلوا الكروت الزرقاء على الحمراء فإنهم لن يستطيعوا الإجابة، على الأقل ليس قبل أن ينتهوا من سحب الثمانين ورقة بأكملها. وجد ساو غوزلنغ وجون غوتمان أنه يمكننا أن نعرف عن الناس من لغة الجسد وتعابير الوجه أو النظر إلى رف كتبهم أو الصور التي يعلقونها أكثر مما يمكننا أن نعرف عنهم لو سألناهم عن شيء مباشرة. وقد اكتشف فيك برادن أن الناس مستعدة لمشاركة أراءها وإعطاء المعلومات عن سبب قيامهم بعمل معين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقرارات العفوية التي تنتج عن اللاوعي، لكن هذه المعلومات غير صحيحة بالضرورة، وقد تكون هذه المعلومات خيالية تماماً. فعندما يطلب المسوّق من شخص ما أن يشرح سبب إعجابه بأغنية معينة أو الفيلم أو عن السياسي الذي ألقى خطاباً للتو، إلى أي حد يجب أن نثق بإجاباتهم؟ قد يبدو أن معرفة إذا ما كان الناس يحبون أغنية روك معينة أمراً سهلاً، لكن الحقيقة أن الأمر صعب، ولم تعر اللجان المتخصصة واستطلاعات الرأي هذه الحقيقة الكثير من الاهتمام. ولنعرف أكثر عن كينا وعن حقيقة مواهبه فإن علينا أن نبحث أكثر في دقائق الأحكام السريعة (سناب ججمنت)
2. تحدي البيبسي
في بداية الثمانينيات، كانت شركة كوكاكولا قلقة على مستقبلها. لقد كانت كوكاكولا الشراب المفضل لفترة طويلة من الزمن، إلا أن بيبسي بدأت تقتطع شيئاً فشيئاً من حصة كوكاكولا في السوق. وفي العام 1972 قال ١٨٪ من مستهلكي المشروبات الغازية أن كوكاكولا هي خيارهم المفضل، بينما حصلت بيبسى على نسبة ٤٪ فقط. وبحلول الثمانينيات، انخفضت نسبة زبائن كوكاكولا إلى 12٪ وارتفعت نسبة مستهلكي البيبسي إلى 12٪. حدث ذلك رغم أن الكوكاكولا كان متوفراً بشكل أكبر من البيبسي، وكانت شركة كوكاكولا تنفق على الإعلانات أكثر من 100مليون دولار سنوياً.
وفي خضم هذه المنافسة، بدأت بيبسي بنشر إعلانات على التلفاز تتحدى فيها كوكاكولا فيما سموه تحدي البيبسي. حيث يقدم التحدي إلى زبائن شركة كوكاكولا كأسين ليأخذوا رشفة من كل واحد منهما، الأول يحمل الحرف كيو والأخر أم. ماذا فضل المشاركين؟ جميعهم فضلوا التي تحمل حرف أم، أي الكأس التي تحتوي على البيبسي. كانت ردة فعل كوكاكولا على تحدي البيبسي هو أنها رفضت نتائج هذا التحدي. لكن عندما جربوا التحدي بشكل سري في الشركة حصلوا على نفس النتائج، حيث فضّل 57% من المشاركين البيبسي على كوكاكولا. الفرق بين 57% و%43 يعد فرقاً كبيراً، خصوصاً في عالمٍ يساوي فيه العُشْر بالمئة ملايين الدولارات، وليس من الصعب أن تتخيل الهلع الذي أصاب إدارة شركة كوكاكولا. لقد كان سر نجاح كوكاكولا يعتمد دائما على خلطتهم السرية، حيث لم تتغير هذه الخلطة منذ الأيام الأولى للشركة. لكن الظروف كانت تشير إلى حقيقة واحدة، وهي أن شركة كوكاكولا تأخرت في مواكبة السوق. أجرت كوكاكولا بعد ذلك أبحاث مكثفة في السوق، لكن النتائج كانت دائماً سلبية. وقال براين دايسون رئيس العمليات التشغيلية في أمريكا:” ربما تكون العوامل التي تميز الكوكاكولا هي السبب؛ مثل اللسعة التي تشعر بها عندما تتذوق المشروب، والتي يصفها الناس الآن بأنها شديدة. لكن عندما تصف المشروب بأنه متكامل أو سلس فإن الناس تتذكر البيبسي! ربما تكون الطريقة التي نروي فيها عطشنا هي التي تغيرت“.
وفي تلك الأيام، كان مدير قسم أبحاث المستهلك يدعى روي ستاوت، وكان روي من أكثر المهتمين بتحدي البيبسي. كانت الإدارة العليا لكوكاكولا تطرح الأسئلة التالية:” إذا كنا نمتلك ضعف ما لدى شركة بيبسي من آلات البيع، ومساحة أكبر على رفوف المحلات، وكنا ننفق على الإعلانات أكثر، وأسعارنا منافسة، فلماذا نخسر حصتنا في السوق؟ ” إذا فكرت بتحدي البيبسي فستشك أن الطعم هو السبب“ يقول ستاوت، وكانت هذه النواة التي تشكل حولها المنتج الجديد (نيو كوك). غيّر العلماء في شركة كوكاكولا محتوى الوصفة السرية قليلاً لتصبح أخف وأحلى قليلاً، تماماً مثل البيبسي. ولاحظ الباحثين بعد ذلك تحسناً مباشراً، وأجروا بعد ذلك تجارب مقارنة واستطاعت كوكاكولا أن تجابه بيبسي، ثم أجروا تحسينات إضافية أخرى. وفي سبتمبر ١٩٨٤، أعدت شركة بيبسي تجارباً للنسخة الأخيرة من المنتج الذي أطلق عليه نيو كوك. وأجرت كوكاكولا تجارباً مع مئات الآلاف من الناس في أمريكيا الشمالية، واستطاعت أن تتفوق على بيبسي بما يقارب ٦-٨٪، وأخذ المنتج الجديد الضوء الأخضر للتوزيع. وقال الرئيس التنفيذي للشركة روبيرتو سي. غويزيتا في المؤتمر الصحفي أن هذه أوثق خطوة تتخذها شركة كوكاكولا. ولم يكن هناك من داعي للشك في المنتج الجديد، فقد جرب المستهلكين الشراب الجديد وقالوا أنهم يحبونه أكثر من القديم، فكيف يمكن لنيو كوك أن يفشل؟ لكن هذا ما حدث، غضب زبائن كوكاكولا التقليديين كثيراً، وكانت هناك مظاهرات في أنحاء البلاد. وبعد هذه الأزمة اضطرت كوكاكولا أن تعيد استخدام التركيبة القديمة، وأطلق على المشروب كلاسيك كوك. وبعد ذلك توقفت مبيعات نيو كوك تماماً. لم يتحقق النجاح الذي كان متوقعاً لنيو كوك، لكن كانت هناك مفاجئة أكبر، فالصعود القوي الذي توقعته أبحاث السوق لمشروب البيبسي لم يتحقق أيضاً. بقيت شركة كوكاكولا على مر العشرين عاماً على نفس المستوى في المنافسة مع بيبسي في السوق. وبيد أن نتائج التجارب التي أجريت على الطعم أظهرت أن الناس مازالت تفضل بيبسي على كوكاكولا، مازالت كوكاكولا هي المشروب الغازي رقم واحد في العالم.
3. الأعمى يقود الأعمى
تبدأ صعوبة تحليل نتائج تحدي البيبسي بسبب اعتمادها على ما يسميه السوق باختبار الرشفة أو سي أل تي (تجربة المكان المركزي)، حيث لا يشرب المجرّب العلبة كاملة، بل يأخذ رشفة من كل كأس ويقرر بناءً على ذلك. لكن تخيل التجربة بطريقة مختلفة، كأن أطلب منك أن تأخذ صندوقاً كاملاً إلى المنزل وتخبرني برأيك بعد بضعة أسابيع، هل تعتقد أنك ستغير رأيك؟ الإجابة هي نعم، رأيك سوف يتغير. يقول كارول دولارد الذي عمل في شركة بيبسي لعدة أعوام على تطوير المنتجات الجديدة:” لقد رأيت في كثيرٍ من الحالات أن تجربة الرشفة تعطيك نتيجة وتجربة المكان المركزي تعطيك نتيجة معاكسة تماماً“. فعلى سبيل المثال، في تجربة المكان المركزي يجرّب الزبائن رشفة أو رشفتين من ٣ أو ٤ منتجات مختلفة، لكن الرشفة ليست كأن تجلس وتشرب المنتج كله بمفردك. أحياناً تكون الرشفة لذيذة لكن عندما تنتهي من شرب المنتج كاملاً فإنك تغير رأيك، وقد لا يعجبك. لذلك فإن تجارب الاستخدام المنزلي تعطيك أفضل النتائج، حيث أن المستخدم ليس في بيئة مؤقتة أو مصطنعة، بل يجلس في منزله أمام التلفاز، وفي هذه الوضعية يكون رأي المستخدم في المنتج هو رأيه ذاته عندما يتم إطلاق المنتج في السوق. “ ويقول دولارد أيضاً:” إن حلاوة الطعم تعد إحدى نقاط الضعف في تجربة الرشفة:” إذا جرب الزبون رشفة واحدة فسيعجبه المنتج الأكثر حلاوة، بينما إذا شرب المنتج كاملاً فسيشعر بالحلاوة الزائدة للمنتج“. البيبسي أحلى من الكوكاكولا، لذلك كانت تفوز بتحدي الرشفة، كما أن للبيبسي نكهة الحمضيات التي تنتشر في الفم، على عكس نكهة الفانيلا والزبيب في الكوكاكولا. لكن انتشار هذه النكهة في البيبسي سيختفي إذا شربت العلبة كاملة مما صعب من فرصة نجاح الكوكاكولا في التحدي. باختصار، البيبسي صنع حتى ينجح في اختبار الرشفة. هل هذا يعني أن تحدي البيبسي كان خدعة، بالطبع لا، لكن ذلك يعني أن هناك ردتيّ فعل عندما نشرب المشروبات الغازية، أحدها عندما نأخذ رشفة، والأخرى عندما نشرب العلبة كاملة. وحتى نفهم ردة فعل الناس على هذا الاختبار، علينا أن نقرر أي من ردّات الفعل هذه تهمنا.
هناك مسألة ما يسمى بالنقل الحسي (سينسيشن ترانسفيرنس)، وهو مصطلح اخترعه لويس تشيسكن، أحد أعظم الشخصيات في قطاع التسويق في القرن العشرين. ولد لويس في أوكرانيا مع نهاية القرن، وهاجر مع والديه إلى أمريكا عندما كان طفلاً. وكانت لدى لويس قناعة أن الناس عندما تشتري شيء من السوبرماركت فإنهم بدون وعي ينقلون تقييمهم لغلاف المنتج إلى المنتج نفسه، وبمعنى أخر يؤمن شيسكن أننا بدون وعي نفقد التمييز بين المنتج وغلافه. فالمنتج هو الغلاف والمحتوى معاً. أحد المشاريع التي عمل عليها شيسكن هي السمن النباتي. في سنوات الأربعينات لم يكن السمن النباتي مشهوراً، ولم يكن الزبائن مهتمين بشرائه أو حتى تناوله. وهذا ما حير شيسكن، لماذا لا يحب الناس السمن النباتي؟ هل هناك مشكلة في مادة السمن؟ أم هناك مشكلة بما يعتقده الناس عن السمن النباتي؟ قرر شيسكن أن يبحث في الموضوع. في ذلك الوقت كان السمن النباتي أبيض اللون، فغير شسكين لون السمن إلى أصفر حتى يبدو كالزبدة، ورتب بعد ذلك لفعالية لتجربة المنتج مع رباة المنازل دون أن يخبرهن أن هذه الفعالية هدفها اختبار المنتج. ووجه لهن الدعوة لحضور فعالية دون تفاصيل، ويقول ديفيس ماست أحد كبار الموظفين في شركة الاستشارات التي أسسها شيسكن: ”أعتقد أن السيدات لبسن أفضل ما لديهن من ملابس في ذلك اليوم“. أحضر شيسكن متحدثين إلى الحفل، وقدم الطعام للسيدات الحاضرات مع قطعة من الزبدة لمجموعة وقطعة من السمن النباتي للمجموعة الأخرى، كلا المنتجين كان لونه أصفر ولم يتم إطلاع الحضور على الفرق. وطلب بعد ذلك من الحضور أن يقيّموا المتحدثين والطعام، وأظهر التقييم أن ”الزبدة“ كانت جيدة. وجدت الأبحاث أنه ليس هناك مستقبل للسمن النباتي في السوق، فقال لويس: ”علينا أن نحل هذه المسألة بشكل غير مباشر“. أصبحت مسألة زيادة مبيعات السمن النباتي واضحة، حيث طلب تشيسكن من عميله أن يسمي المنتج ”إمبيريال مارغرين“ حتى يتمكنوا من وضع تاج جميل على العلبة، كما تبين له من حفل الغداء أن اللون مهم، فأخبرهم أن لون السمن النباتي يجب أن يكون أصفراً، كما طلب منهم أن يلفوا المنتج بالقصدير، حيث كان الانطباع أن القصدير يدل على الجودة العالية في ذلك الوقت. وبالطبع كانت النتيجة أنه إذا قدمت قطعتين متشابهتين من الخبز وعلى إحداهما سمن نباتي أبيض وعلى الأخر سمن نباتي أصفر من علبة الإمبيريال مارغرين الملفوفة بورق القصدير، فإن المجرب سيقول أن الأخيرة أطعم من الأولى. يقول ماستن: ”عليك أن لا تسأل المجرب إذا كان يريد المنتج الملفوف بالقصدير أم لا، لأن الإجابة ستكون لا أعرف، أو ما الفرق بين هذه وتلك؟ كل ما عليك هو أن تسأل أيهما أفضل وستعرف الدافع الحقيقي. “
أثبتت شركة تشيسكن نظرية الانتقال الحسي من خلال مثالٍ دقيق قبل عدة أعوام عندما أجرت دراسة على نوعين رخيصين متنافسين من المشروبات الروحية غير الثمينة ”كريستشان بروذورز “و ”وإي أند جي “ حتى يتم تحديد فئة السوق الذي تنتمي إليها كل من العلامتين، وكانت الأخيرة تعرف باسم (إيسي جيسوس) بين الزبائن. وأراد العميل كريستشان بروذرز أن يعرف لماذا بعد أن سيطر على السوق لسنوات، بدأ يخسر لصالح إي أند جي. لم يكن منتج الأولى أغلى سعراً، وكان متوفراً في الأسواق، ولم تكن الشركة الأخيرة تنفق على الإعلانات أكثر منهم حيث أن مستوى هذه العلامات التجارية لا ينتمي إلى المنتجات التي تنفق مبالغ كبيرة على الإعلانات. فالسؤال إذاً: لماذا تخسر لصالح النوع الآخر. جهز تشيسكن 200 تجربة للمقارنة بين آراء المتقدمين، ووجد أن النتائج متساوية بين العلامتين. يقول داريل ريا أحد الموظفين الكبار أيضاً في شركة تشسكن: ”أعدنا التجربة مع 200 شخص آخرين، لكن هذه المرة أخبرنا المجرب أي الكأسين يحتوي على كريسشان بروذرز وأيهم على إي اند جي، الآن أصبح لدينا نقل حسي لما يحمله عقل المجرب من انطباع عن الاسم، وهذه المرة أحرزت العلامة الأولى تقدماً على الأخرى. هذا يدل أن الناس تفضل العلامة الأولى على الأخرى، وذلك ما زاد من اللغز تعقيداً. لماذا تخسر العلامة إذا كان الناس يفضلونها؟ ”لذلك جمعنا 200 مجرب آخرين لنعيد التجربة لكن هذه المرة وضعنا الزجاجات في الخلف حتى يراها المجرب، ولم نسأل المجرب عن رأيه في الزجاجة، لكن بإمكانه أن يراها. ماذا حصل الآن؟ حصلنا على فرق واضح في الاختيار لصالح إي أند جي! بذلك استطعنا أن نحدد أن المشكلة لم تكن في المنتج أو في طريقة التسويق، بل في زجاجة المنتج. أخرج ريا صورة للمنتجين بشكلهما الحالي، حيث تظهر كريسشان بروذرز كزجاجة نبيذ طويلة ورفيعة وعليها ملصق بسيط لونه أبيض ضارب إلى الصفرة بينما تظهر العلامة الأخرى بزجاجة مزخرفة تصبح عريضة عند القاعدة وتشبه الدورق بزجاج مظلل وملفوفة بقصدير وعليها ملصق يحمل رسوم كثيرة.
وحتى يثبتوا هذه النقطة أكثر، أجرى ريا وزملاؤه تجربة أخرى، حيث قدموا لمئتين شخص مشروب كريسشن بروذرز معبئة في زجاجات إيه أد جيه، ومشروب إيه أند جي في زجاجات كريستشان بروذرز. أيهما تفوق؟ كريشن بروذرز بدون شك وبفرق كبير. عندها قامت الشركة بإعادة تصميم الزجاجة لتشبه تلك الخاصة بإيه اند جي، وحلت بذلك مشاكلهم.
تقع مكاتب شركة تشيسكن على أطراف سان فرانسسكو، فبعد أن تحدثنا اصحباني ماستن وريا إلى سوبرماركت “نوب هل فارمز” الذي يقع بالقرب من الشركة عند نهاية الشارع. يعد هذا السوبرماركت صورة أخرى لتلك المتاجر الكبيرة والأنيقة التي تعج بها الضواحي الأمريكية. قال ماستن: ”لقد عملنا على منتجات من كل قسم تقريباً“. في هذا الوقت كنا في قسم المشروبات، فالتقط ماستن علبة سيفين أب وأضاف:”لقد أجرينا تجارب على عدة تصاميم من السيفن أب، وتوصلنا إلى أنه إذا أضفنا 15٪ من اللون الأصفر للتصميم الخارجي الأخضر ـ استبدل هذه المساحة الخضراء باللون الأصفر – فسيخبرك المتذوق أن الطعم اختلف الآن وأن هناك زيادة في نكهة الليمون أو حامض الليمون (الليمون الأخضر)، مما سبب الغضب لمحبي مشروب السفن أب، فاتهمونا بتغيير نكهة شرابهم المفضل، وسمعنا تعليقات مثل، لا نريد كوكاكولا جديدة! النكهة والشراب لم يتغيرا أبداً، كل ما في الأمر أن نقلاً حسياً حدث من العلبة الجديدة، لذلك استنتجنا أن تغيير علبة المشروب لا يؤدي إلى نتائج إيجابية بالضرورة “. بعد ذلك انتقلنا إلى قسم المأكولات المعلبة، والتقطت ماستن هذه المرة علبة مكرونة “بوياردي” وأشار إلى صورة الشيف على ملصق العلبة وقال: ”هذا الشيف اسمه هكتور، ونعرف الكثير عن أشخاصٍ مثله، من ضمنهم أوريل ريدنباتشر أو بيتي كروكر أو المرأة التي ترى صورتها على غلاف زبيب “سن-ميد”. وحتى تستطيع أن تغير فكرة المشتري عن الطعام، عليك أن تبعده قدر الإمكان عن المحتوى المادي للمنتج، أي الطعام، وعليك أن تحفز بالمقابل الرابط بين المنتج والتجارب الشخصية للمشتري. وعندما نطبق ذلك على هيكتور، فهذا يعني أنه صورته يجب أن تكون أقرب ما يكون إلى الواقع. ووجدنا أن صورة الوجه أفضل من صورة الجسد بالكامل. وأجرينا تجارب على صور مختلفة لهكتور، والسؤال إذا: هل تستطيع أن تغير نكهة الرافيولي فقط من خلال تغيير صورة هيكتور؟ الجواب هو أنك يمكن أن تدمر المنتج فقط بتغيير الصورة الحقيقية لهيكتور إلى صورته الكرتونية. فقد جربنا صورة هيكتور بعدة نسخ، انتقالاً بالتدريج من الصورة الحقيقية إلى الكرتونية، ووجدنا أن الصور الكرتونية تجعل لصورته دلالة مجردة وبالتالي تقلل من قدرة المشتري على أن يحس بقيمة وجودة مكارونا الرافيولي.”بعد ذلك التقط ماستن علبة لحم معلب من علامة هورميل:” لقد أجرينا تجارب على شعار هذا المنتج أيضاً، انظر إلى فتيلة البقدونس بين حرف الراء والميم، تضفي هذه الإضافة إحساساً بأن الطعام المعلب طازجاً “
التقط ريا علبة صلصة طماطم من علامة كلاسيكو، وشرح لي عن المعنى التي تحمله أشكال العلب المختلفة:”عندما غيرت العلامة ديل مونتي علبة فاكهة الخوخ من علبة الصفيح إلى الجرة الزجاجية الشفافة، قالت الناس:”هذه الجرة تذكرني بالخوخ الذي كانت جدتي تحضره “ فسيصبح للخوخ إذا طعمٌ أفضل عندم يوضع في جرة! إنه تماماً كالمثلجات التي توضع في علبة اسطوانية بالمقارنة مع العلبة المستطيلة. يعتقد الناس أن الطعم سيكون أفضل، ولا مشكلة لديهم في دفع ٥ سنتات إضافية على السعر الأصلي إذا وضعت المثلجات في علبة اسطوانية، فقط مقابل تغيير العلبة الخارجية “.
ما يفعله ماستن وريا هو مساعدة الشركات على تغيير انطباع الزبائن الأول عن المنتج، ومن الصعب أن لا ينتابك شعورٌ غريبٌ بعدم الراحة حيال ما يفعلونه. إذا ضاعفت حجم قطع الشوكولا في بوظة الشوكولا وكتبت على العلبة ”قطع شوكولا جديدة بحجم أكبر“ ثم رفعت السعر ٥-١٠ سنتات، فإن ذلك يبدو مبرراً. لكن عندما تضع نفس المحتوى وتغير العلبة الخارجية ثم تضيف ٥ سنتات إضافية إلى السعر فيبدو الأمر كأنك تضع ستاراً على أعين الناس. لكن إذا فكرت في الموضوع أكثر، فلن تجد فرقاً فعلياً بين الأمرين. فنحن على استعداد أن ندفع أكثر مقابل طعمٍ أفضل، وإذا وضعت المثلجات في علبة اسطوانية، فإن ذلك يقنعنا أن المثلجات أصبح طعمها أفضل، تماماً مثل التأثير الذي يحدث عندما نضيف قطع الشوكولا الكبيرة في بوظة الشوكولا. طبعاً مع الاخذ بالاعتبار أننا على علم بالتغيير الذي حدث عندما أضفنا الشوكولا الكبيرة، لكن ليس الأمر كذلك في حالة تغيير العلبة. لكن ما الفرق بين معرفتنا بهذا وعدم معرفتنا بذاك؟ لماذا نحصر قدرة الشركة على الربح من التحسينات الظاهرة وليس تلك الخفية؟ ربما تقول أنهم يحاولون خداعك! لكن من الذي يخدعك في الحقيقة؟ الشركة أم وعيك؟ يرى ماستن وريا أن الغلاف الذكي للمنتج لا يغني عن طعم المنتج ولا يسمح للشركة بأن تضع منتجاً سيئاً، فالطعم مهمٌ جداً. لكن الفكرة التي يريدان توضيحها هي أنه في تلك اللحظة التي نتذوق فيها شيئاً ونقرر في طرفة عين إذا كان مذاقه جيداً أو سيئاً فإن هذا الاستنتاج لم يأتي بسبب الإحساس الناتج عن ملامسة براعم التذوق والغدد اللعابية فقط، بل أيضاً من خلال أعيننا وذكرياتنا ومخيلاتنا، ومن الحمق أن تغطي الشركة أحد الجوانب وتترك الآخر.
في هذا السياق إذا، فإن الخطأ الذي ارتكبته كوكاكولا أصبح مضاعفاً. فقد أعارت شركة كوكاكولا الكثير من الاهتمام لاختبار الرشفة، لكن فكرة الاختبار الأعمى ومن ضمنه اختبار الرشفة أمرٌ غير منطقي على الإطلاق. كان حري بشركة كوكاكولا أن لا تهتم كثيراً بخسارة الكوكاكولا القديمة في هذا الاختبار، كما أننا لا يجب أن نتفاجأ بأن صدارة بيبسي في هذا الاختبار لم تحقق نجاحاً ملموساً في المبيعات على أرض الواقع. وقد تسأل لماذا؟ بكل بساطة الإجابة أن الناس لا تشرب الكوكاكولا في حياتهم اليومية وهم مغمضيّ العينين. فنحن ننقل حسياً إلى مذاق الكوكاكولا كل الارتباطات المخزنة في اللاوعي عن علامة الكوكاكولا التجارية مثل الشكل والعلبة وحتى اللون الأحمر الموجود في الشعار.
ويقول ريا:” كان الخطأ الذي ارتكبته كوكاكولا أنها عزت الخسارة في حصة السوق أمام بيبسي للمنتج نفسه، لكن الجانب البالغ الأهمية في المشروبات الغازية هي الصورة التي يحملها الزبون عن المشروب، وكوكاكولا لم تنتبه لذلك على الإطلاق. ففي الوقت الذي قررت كوكاكولا أن تغير المنتج نفسه، كانت بيبسي تركز فيه على الشباب، واستخدمت مايكل جاكسون متحدثاً باسم العلامة إلى جانب النشاطات الكثيرة التي حسنت صورة المنتج. والحقيقة أن الناس تفضل المشروب الأحلى في اختبار الرشفة، لكن الناس لا تتخذ قرار شراء المنتج بناءً على رشفة. كانت مشكلة كوكاكولا أن خبراء المعمل تدخلوا في الأمر.
هل كان لخبراء المعمل نفس الأثر في حالة المغني كينا؟ اعتقد خبراء التجربة في السوق أن بإمكانهم تشغيل أغنية أو جزء من أغنية لشخص أو مجموعة أشخاص على الهاتف، وسيكون تقييم ذلك الشخص أو الجماعة دليلاً معتمداً للحكم على انطباع الزبائن الذين سيشترون الأشرطة والاسطوانات الموسيقية الخاصة بأغاني كينا في المستقبل. يعتقدون أن الزبون يستطيع أن يصنف (ثن سلاسينج) ويعطي انطباعاً عن الأغنية في ثواني، وليس هناك مشكلة في هذه الفكرة بشكل عام، لكن التصنيف والانطباع يجب أن يكون ضمن سياق معين. فمن الممكن أن نحكم على مدى صحة العلاقة في زواجٍ ما، لكن ليس من خلال النظر إلى الزوجين وهما يلعبان كرة الطاولة، عليك أن تحلل العلاقة وهما يتناقشان في أمر متعلقٍ بعلاقتهم. ومن الممكن أن تتنبأ باحتمال تعرض الجراح للشكاوى القانونية بسبب الإهمال المهني بمجرد الاطلاع على ثوان معدودة من محادثته، لكن يجب أن تكون محادثة مع مريضه. فكل الناس التي أطْرَت على كينا، فعلت ذلك ضمن سياق محدد. فالناس الذين حضروا حفلة روكسي و”نو داوت” لكينا رأوه مباشرة وهو يغني، تماماً مثل ما غنى كينا أمام كريج كالمان في مكتبه. وعندما استمع فريد دورست لكينا فعل ذلك بعد أن أحس بحماسة زميله الذي يثق به. والمشاهدين الذين طلبوا أغنية كينا مراراً شاهدوا الفيديو. فعملية الحكم على أغاني كينا بدون هذه المعلومات الإضافية إذا هو كأن تطلب من الناس أن تختار بين الكوكاكولا والبيبسي في اختبارٍ أعمى.
4. كرسي الموت
قبل عدة أعوام، استخدمت شركة هيرمن ميلر انكوربوريشن مصمماً صناعياً يدعى بيل ستمف ليصمم كرسي جديد للمكتب. وهذه ليس المرة الأولى التي يعمل ستمف مع هذه الشركة، فقد صمم قبل ذلك نوعين من الكراسي أحدهما سمي إرغون والآخر إيكوا. لكن ستمف لم يمكن راضياً تماماً عن التصميمين السابقين، رغم أن كلاهما حققا مبيعات جيدة. فقد أحس ستمف أن تصميم أرغون غير أنيق، ويفتقد إلى لمسة الخبير. أما إيكوا فقد كان تصميماً جيداً لكن تم تقليده حتى فقد جاذبتيه لدى ستمف. ويقول ستمف:” كل الكراسي التي صممتها متشابهة، أريد أن أصمم شيئاً مختلفاً.“ وقرر ستمف أن يسمي هذا المشروع إيرون، وستبين لنا قصة إيرون مشكلة أكبر وأعمق عندما نحاول أن نتعرف على رأي الناس في منتج ما؛ فيصعب علينا تفسير مشاعرنا تجاه الأشياء التي لم نعتد على رؤيتها.
كان ستمف يحاول أن يضع أفضل تصميمٍ مريحٍ ممكن، وقد حاول ذلك في تصميم إيكوا، لكن أراد أن يفعل أكثر في تصميم إيرون.
فعلى سبيل المثال، أثناء وضع تصميم إيرون، قضى بيل وقتاً كبيراً على كيفية ربط ظهر الكرسي وما يسميه المصمون بمجلس الكرسي. في الكراسي العادية، يربط مفصل بسيط بين الجزئين ويمكن أن تميل إلى الوراء. لكن الطريقة التي يميل بها المفصل تختلف عن الطريقة التي يميل بها الوركين، فعندما نميل يخرج القميص من البنطال وتضع حركة الميلان ضغطاً غير ضروري على الظهر. ففي تصميم إيرون، فصل ظهر الكرسي عن المجلس بحيث يتحرك كل منهما لوحده بطريقة معقدة. وأراد فريق التصميم تمكين المستخدم من تعديل اليدين بشكل كامل، وتصبح هذه الخاصية أسهل إذا كانت اليدين مرتبطتين بظهر الكرسي بدلاً من الجزء السفلي كما هو معتاد. كما طلبوا أن يدعم التصميم الأكتاف بحيث يكون الجزء العلوي أعرض من السفلي، على عكس الكراسي المعتادة التي تكون قاعدتها أعرض. وطلب فريق التصميم أيضاً أن يوفر الكرسي أقصى درجات الراحة للموظفين الذي يجبسون لفترات طويلة على الكرسي. يقول بيل:”فبدأت بالنظر إلى طواقي القش والأثاث المُمَلَّد، فلطالما كرهت الكراسي المحشية بالفلين والمغطى بالقماش، لأنها حارة وتُسبب التعرق. ووجدت أن فكرة الكرسي المكشوف كطاقية القش فكرة جيدة.“وفي النهاية اختار بيل تصميماً استثنائياً يستخدم فيه شبكة مطاطية رفيعة يتم شدها وربطها بالأطراف البلاستيكية للكرسي بحيث يمكنك رؤية القطع البلاسيكية وطرق اتصال أطراف الكرسي ببعضه من خلال شبكة الكرسي.
وجد فريق هيرمان ميلر بعد السنوات التي قضاها في هذا القطاع أن الناس تفضل الكرسي الذي له ظهر مستقيم وطويل وفيه طبقة اسفنج سميكة. كيف كان شكل إيرون؟ كانت بعكس هذه المواصفات تماماً. كان له ظهر مقوس وشبك يشبه القشرة الخارجية لحشرة من عصور ما قبل التاريخ. يقول بيل:”إن معيار الراحة في أمريكا هو ما تحدده كراسي ليزي بوي، يقول الألمان على سبيل المزاح أن الأمريكان يريدون أن تكون كراسي السيارة سميكة لفرط اهتمامهم بالراحة، فنحن نهتم بالنعومة كثيراً. ودائماً أفكر بذلك القفاز الذي تضعه ديزني فوق يد ميكي ماوس. فإذا رأينا مخالبه فلن يحبه أحد، وما كنت أحاول أن أفعله هو أن أمشي بعكس مفهوم الراحة.”
وفي العام 1992 بدأت هيرمان ميلر ما تسميه تجارب الاستخدام. استخدموا عدداً من النماذج الأولية لإيرون في الشركات المحلية في المنطقة الغربية من ولاية ميشيغان، وطلبوا من الناس أن يجلسوا عليها لمدة نصف يوم على الأقل. في البداية كانت آراؤهم عن الكرسي سلبية. وطلبت هيرمان ميلر من المستخدمين أن يقيّموا راحة الكرسي من 1- 10 بحيث يمثل الرقم 10 ممتاز جداً. وحتى تستطيع الشركة أن توزع الكرسي في الأسواق يجب أن يحصل على 7.5 على الأقل. حصلت نماذج إيرون في البداية على تقييم 4.75. فقام أحد موظفين هيرمان ميلر على سبيل الدعابة بوضع صورة نموذج الكرسي على غلاف إحدى المجلات الصفراء وكتب عليها (كرسي الموت: احذر من الجلوس عليه وإلا ستموت) ثم وضع الغلاف على تقرير أحد الأبحاث الخاصة بإيرون. كانت الناس تنظر إلى الكرسي الرفيع الأطراف ويتساءلوا إذا كان الكرسي قادراً على أن يتحمل وزنهم، أو إذا ما كان هذا الشبك الغريب مريحاً للجلوس! ويقول روب هارفي الذي كان يعمل في هيرمن ميلر بمنصب نائب رئيس الأبحاث والتصميم في ذلك الوقت: “من الصعب أن تقنع الناس بالجلوس على شيء يبدو غير مألوف، فسيعتقد الناس أن الكرسي رفيع الأطراف والإطار لن يتحمل وزنهم، وسيتلكؤون في الجلوس. إن الجلوس شيء له خصوصية كبيرة، حيث أن الجسد يلاصق الكرسي مباشرة، لذلك فإن هناك العديد من العوامل البصرية التي تساعد الإنسان على إصدار الأحكام” لكن بعد أن عدلت هيرمن ميلر على التصميم، وساعدت الناس على تجاوز هذه المخاوف، بدء التقييم بالتحسن. وفي الوقت الذي كانت تستعد فيه شركة هيرمان ميلر لإرسال الكرسي للأسواق كان تقييم الزبائن لراحة الكرسي قد تعدت 8.
هذه هي الأخبار الجيدة، أما الأخبار السيئة فهي أن الكرسي كان بشعاً. قال بيل دويل الذي كان مسؤول الأبحاث الخاصة بإيرون:”منذ البداية، كان تقييم شكل الكرسي متدني للغاية، فقد جربنا الكرسي آلاف المرات ووجدنا أن هناك رابطاً قوياً بين الراحة وجمال الكرسي. لذلك كان الأمر غريباً جداً. لأن هذا الرابط لم ينطبق على كرسي إيرون. بقي تقييم الراحة فوق الثمانية، وهذا شيئٌ رائع، لكن التقييم الخاص بالجمال بدء بين اثنين وثلاثة، ولم يتعدى 6 في أي من نماذج الكرسي التجريبية. كان الأمر غريباُ ومقلقاً. فقد كان لنا تجربة مع كرسي إيكوا الذي كان محط جدل، لكن الناس كانت تصفه بأنه كرسي جميل “.
وفي أواخر عام 1993 أرادت الشركة أن تشكل مجموعات دراسة في أماكن مختلفة من البلاد لتكوّن فكرة عن الأسعار وأساليب تسويق المنتج، وإن كان هناك استحسان للكرسي. بدأت الشركة بلجان مكونة من معماريّين ومصممين، وكان معظمهم متجاوبين، يقول دويل :”كانوا متفهمين لفكرة الكرسي الغريبة، حتى وإن لم يكن جميلاً، فقد تفهموا سبب تصميمه بهذه الطريقة.” ثم عرض الكرسي على مجموعة من مدراء المرافق وخبراء في الراحة المسؤولين، هذه المرة كانت ردة الفعل باردة جداً، يقول دويل:”لم يفهموا تصميم الكرسي على الإطلاق “. كان فريق هيرمان ميلر يتلقى تعليقات مثل (عليكم أن تغطوا الكرسي بقماش) و(هذا الكرسي لن ينجح أبداً في الشركات). أحد مدراء المرافق ربط بين الكرسي والأثاث القديم أو أغطية كراسي السيارات القديمة.
وأحدهم قال بأن الكرسي يبدو وكأنه خرج من مسلسل ربوبكوب والآخر قال أن الكرسي يبدو وكأنه مصنوع من المواد المدورة.
ويقول دويل:”أتذكر أن بروفيسور في جامعة ستانفورد أعجب بمبدأ التصميم وطريقة عمله، وقال أنه يريد أن يلقي نظرة عليه بعد أن تنتهي النسخة (المعدّلة جمالياً)، وكنا خلف الزجاج نقول: لن يكون هناك أي نسخة معدلة”.
تخيل نفسك في مكان فريق شركة هيرمن ميلر، بعد أن كرّست وقت الفريق ليعمل على منتج جديد وأنفقت عليه مبلغاً هائلاً من المال واستبدلت معدات المصنع لتتناسب مع خط التصنيع الجديد ومازلت تفحص شبك الكرسي لتتأكد أنه لا يسبب الوخز لمن يجلس عليه، لكن بعد كل هذ العناء وجدت أن الناس لا تحب هذا الشبك، وفي الحقيقة هم يعتقدون أن الكرسي كله بشع، وأنت تعرف من خبرتك الطويلة في السوق القاعدة الرئيسية؛ الناس لا تشتري الأشياء البشعة! فالخيارات المتاحة هي أن تلغي الكرسي بأكمله أو أن تغطيه بطبقة من الإسفنج المعروف للناس أو أن تثق بحدسك وتصنع الكرسي. هيرمان ميلر لم تتوقف واختارت الخيار الثالث. ماذا حدث؟ في البداية لم يكن هناك إقبالاً كبيراً، فالكرسي البشع لم يتغير. لكن لم تمر فترة طويلة حتى بدأت شريحة من المصممين العصريين بالاهتمام بالكرسي، وربح الكرسي جائزة تصميم العَقْد من المجتمع الأمريكي للمصممين الصناعيين. أصبح الكرسي صرعة نيويورك وكاليفورنيا وعالم الإعلانات وسيليكون فالي، كما أن شكله الغريب أصبح أيقونة ثقافية تعكس الجانب الجمالي للاقتصاد الجديد.
ظهر الكرسي في الأفلام ودعايات التلفاز وأصبح مشهوراً جداً. مع نهاية التسعينات، بدأت مبيعات الكرسي تزداد بنسبة 50-70% سنوياً. وأيقن فريق هيرمن ميلر أن هذا الكرسي هو أفضل منتج في تاريخ الشركة. وبعد فترة قصيرة، أصبحت أيرون أكثر كرسي مكتب يتم تقليده في الأسواق، وأصبح الجميع يرغب بامتلاك كرسي يشبه قشرة حشرة من العصور القديمة. ما هو التقييم الذي حصل عليه إيرون في الجزء المخصص لجمال الكرسي؟ أصبح تقييم الكرسي الذي كان يوصف بأنه بشع أصبح يفوق تقييم الثمانية.
في قصة تجربة الرشفة، الانطباع الأول لم يكن صحيحاً لأن الكوكاكولا لا تُشرب في اختبارٍ أعمى، فالاختبار الأعمى هو السياق الخطأ للحكم على الكوكاكولا. لكن في قصة إيرون كان الوضع مختلفاً قليلاً: فالناس لم تفسر انطباعها الأول بالشكل الصحيح، فقد قالوا أنهم كرهوا الكرسي، لكن ما عنوه فعلاً هو أن الكرسي جديد وغريب ولم يكونوا معتادين عليه. لكن أن يكون الشيء غريباً وغير اعتيادي لا يعني أنه بشع. فسيارة إيدسيل التي صنعتها شركة فورد في الخمسينات لم تنجح لأن الناس وصفتها بأنها مضحكة. لكن بعد مرور عامين أو ثلاثة، لم نرى مصنعي السيارات يقلدون شكل الإيدسل كما حدث في قصة إيرون. فالإيدسل بدأت بشعة ومازالت بشعة.. وبمثال آخر، هناك أفلام يكرهها الناس عندما يشاهدونها لأول مرة، ولا تتغير نظرتهم للفيلم حتى بعد عامين أو ثلاثة، فالفيلم السيء يبقى فيلماً سيئاً. ويدخل في ركام الأشياء التي نكرهها مجموعة من الأشياء التي نعتقد أننا نكرها لأنها غريبة ويقلقنا مظهرها، ويأخذنا بعض الوقت لنفهمها ونحبها.
يقول دويل:” عندما تكون أنت المصنّع فإنك تنغمس في عالم التصنيع وما فيه من منتجات، ومن الصعب أن تتذكر عندما تحاول بيع المنتج أن الفترة الزمنية التي قضاها الزبون مع المنتج تكاد لا تذكر. فهم يعرفون ما تخبرهم أعينهم به فقط، لكنهم لم يجربوا المنتج. ومن الصعب أن يتخيلوا كيف سيستخدمونه في المستقبل، خصوصاً إذا كان المنتج غريباً. هذا ما حدث مع كرسي إيرون. فالناس لديها فكرة معينة في مخيلتها عن شكل كرسي المكتب، حيث يجب أن يكون مستقيماً وفيه وسادة. وكرسي إيرون كان مختلفاً، لم يكن الكرسي يشبه أي شيء آخر، وربما كانت كلمة (بشع) بديلاً عن (مختلف).
[1] . أكابيلا كلمة إيطالية تعني (على نمط الكنيسة أو المعبد) وتشير إلى الغناء الجماعي أو المنفرد دون الاستعانة بأية أدوات موسيقية
[2] . نوع من موسيقى الروك نشأ على أيدي مغنيين وفرق موسيقية مستقلة كانت تحيي حفلاتها تحت الأرض في الثمانينيات
[3] . مصطلح يطلق على الموسيقى التي تعتمد على الأدوات الالكترونية، ولها استخدامات متعددة أهمها الرقص
* ”بلينك“ أو ومضة هو كتاب قصصي مبني على أبحاث من علم النفس بشكل خاص، والعلوم الاجتماعية بشكل عام. ويستهل مالكولم جلادويل كتابه بلينك بقصة التمثال الذي حير متحف الجيتي في كاليفورنيا، والذي تبين أنه مزيف بعد أن خضع للفحص من الخبراء.فقد استطاع هذا التمثال المزيف أن يخدع خبراء متخصصين في الجيولوجيا، وفي نفس الوقت، استطاع خبراء مثل مؤرخ الفن الإيطالي فريدريكو زيري وإفيلين هاريسون الخبيرة الأمريكية المتخصصة بالآثار اليونانية أن يعرفوا أن التمثال مزيف مباشرة. جميع من نظروا إلى التمثال خبراء، فكيف إذا استطاع بعضهم بعد أن درس التمثال دراسة دقيقة أن لا يعرف أنه مزيف؟ وكيف استطاع الخبيرين الآخرين أن يميزا أنه مزيف؟ ما الأولى أن نثق بالدراسة العلمية أم بحواسنا؟ يجادل مالكولم جلادويل من خلال الأمثلة الكثيرة التي يطرحها أن حاسة الخبير قد تكون على نفس قدر دقة الدراسة العلمية.
إذا كتاب بلينك، وفقاً للمؤلف، يهتم بمنابع الانطباعات والنتائج التي نتوصل إليها عندما نقابل شخصاً ما أو نواجه مشكلة صعبة عندما نتخذ قرارات تحت وطأة الضغط.
ووفقاً للكاتب أيضاً، يسعى الكتاب إلى هدفين أساسين:
1- التأكيد على أن القرارات اللحظية يمكن أن تكون على نفس القدر من الحكمة والرجاحة لتلك التي نأخذها بتروٍ.
2- أن نتعّلم كيف نثق بحواسنا وأفكارنا، فعندما تخطى الحواس فإن ذلك يحدث لأسباب يمكننا التعرف عليها وفهمها والتحكم بها أيضاً.
بعض المحاور التي حاك حولها جلادويل كتابه
١- الشحذ الذهني (priming)
هذه الفكرة ببساطة هي عبارة عن محفزات تسهم في إطلاق ردات فعل إيجابية أو سلبية في عقل المتلقي دون”علمه بها“. وذكر أمثلة متعددة على ذلك منها، تجربة امتحان القبول الذي أجري على الأمريكان من أصل أفريقي في إحدى الجامعات العريقة، حيث تم التلاعب بعقولهم والتأثير على أدائهم في امتحان القبول للدراسات العليا وذلك بمجرد السؤال عن عرقهم في الورقة قبل البدء في الامتحان. حيث أثبتت التجربة أن هؤلاء الذي سئلوا عن عرقهم انخفض أداؤهم إلى النصف في امتحان القبول. طبعاً الأساس الذي قامت عليه التجربة هو أن هناك فكرة سائدة بأن التحصيل العلمي للأمريكان الأفارقة أضعف من نظرائهم البيض. فمجرد السؤال عن العرق، يفعّل هذه الأفكار السلبية للمتقدم ويؤثر على أدائه. ويتساءل جلادويل إن كان بامكننا استغلال هذه النتائج في فهم وتعديل أنماط امتحانات القبول في الجامعات واستخدامها بطريقة إيجابية لتحفيز الناس على الالتزام بسلوك أفضل والحث على العمل.
٢- نظرية قراءة الأفكار عبر ملامح الوجه
يتحدث جلادويل في الفصل السادس، والذي يرتكز على أبحاث وتجارب علمية مثيرة وممتعة عن أسباب الفشل في قراءة ملامح الآخرين. ويبني الفصل على أحداث قضية فشل فيها رجال الشرطة في قراءة ملامح وجه المشتبه به مما أدى لمقتله. ويسلط الضوء على نظام تحليل تعابير الوجه أو FACS وهو دليل مفصل ودقيق وضعه الباحثان الأمريكيان بول أيكمن ووالاس فريزن يمكننا من خلاله أن نتتبع حركات عضلات الوجه ونعطيها رموز وفقاً للدليل، وبعد ذلك إعطاء التفسير العاطفي للتعابير الوجهية. يعتقد مالكولم جلادويل، مستشهداً بمقابلات مع خبراء في مرض التوحد وضباط شرطة سابقين، أن الشخص يصاب بنوع من التوحد المؤقت عندما يكون في لحظات تحت الضغط، خصوصاً عندما تتعدى نبضات قلبه حداً معيناً، بحيث يصبح (أعمى عقليا) وتتعطل قدرته على قراءة الأفكار. وذلك بالضبط ما يعاني منه المصابين بالتوحد، حيث أنهم لا يستطيعون أن يقرأوا الأفكار ضمن السياق، وإنما وفقاً لما يرونه وللتعليمات الحرفية التي يسمعونها. ويمكن أن نرى انعكاس هذا”العمى العقلي” المؤقت ضمن سياقات مختلفة ، أهما المواجهات بين الشرطة والمشتبه بهم.
ولا يجب أن تأخذ هذه الأمثلة على وجه التخصيص، فالاستفادة من هذه الأبحاث يمكن أن يكون في مجالات الطب والتسويق والقانون، وسيساعدنا كأفراد على التعرف على الأسباب التي تدفعنا للتصرف بطريقة أو بأخرى.
شخصياً هذا الكتاب، أثر عليّ بطرق مختلفة؛ فعندما أتسوق الآن بدأت ألاحظ أسباب اختياري لعلامات تجارية دون غيرها (ما يشير إليه في الكتاب بالنقل الحسي).
أو عندما أعجب بآراء شخصٍ ما أبدأ بالتساؤل عما إذا كنت فعلاً أعجبت برأيه/ برأيها لأنه/ها ذكي/ة أم لأن عوامل مثل العِرق والمظهر أثرت على حكمي
أو حتى عندما أنجح أو أفشل في أداء مهمة، أتساءل عن العوامل التي أثرت على أدائي مثل (الشحذ الذهني) أو ما يسمي priming
يعيب منتقدي كتاب جلادويل عليه استطراده وسرده لقصص مختلفة تحمل نفس المغزى، وهو انتقاد يتفق عليه القراء الذين يودون استخلاص الفكرة سريعا، فالفكرة بسيطة، هي أن الإنسان يصبح أذكى في اتخاذ قراراته بالدربة. أعتقد أن جلادويل كان يريد أن يثبت أن بعض الاستنتاجات يمكن الاستفادة منها في أكثر من مجال، لذلك كان يذكر أكثر من قصة من مجالات مختلفة ليصل إلى نفس الاستنتاج مما يجعل هذا الانتقاد نقطة إيجابية عوضاً عن السلبية. يقول جلادويل مجيباً عن سؤالٍ عن الفئة التي ينتمي إليها الكتاب والهدف منه ببساطة: ”أن يكون كتاباً ممتعاً“. يعترف جلادويل أن كثيراً من النتائج التي يذكرها في الكتاب مصدرها الأبحاث العلمية وهو انتقادٌ آخر وجه إليه كونه لم يتوصل إلى هذه النتائج من خلال إجراء التجارب بنفسه، إلا أنها لا تقلل من قيمة الكتاب.
هناك إحالات كثيرة إلى كتب وأبحاث في علم النفس، وخصوصاً الفرع المختص باللا وعي، الذي انحسرت أدبياته ضمن الأبحاث والكتابات الأكاديمية. أكثر كتاب تمت الإحالة إليه هو ”strangers to ourselves“ والذي يعطي فكرة أكبر عن مفهوم اللاوعي في علم والنفس، وتاريخ هذا الفرع وما توصل إليه البحث العلمي في هذا المجال.