لماذا لم يعد الناس يتأثرون بالموعظة ؟ .. تعرّف على السبب – إيثار جمال
لا تتعجب ولا تحزن حين ينحرف بهم المسار وتكشفهم المواقف ولا يصدمك التناقض بين ما يفعلون وما يقولون .. فهؤلاء الدعاة الذين راق لك يوما كلامهم كانوا من البداية .. وعاظ سلاطين.
هكذا سماهم الدكتور علي الوردي في كتابه ” وعاظ السلاطين” الذي أثار جدلًا واسعًا وقت صدوره قبل نصف قرن تقريبًا، ولأنَّ العالم العربي يشهد هذه الحالة المتكررة هذه الفترة جاءت القراءة في هذا الكتاب. والوردي يعتبر رائد علم الاجتماع في العراق وكان أحد القلائل الذين كتبوا عن المجتمع العراقي وطبيعة الشخصية العراقية، وكان هذا الكتاب أحد الكتب الجريئة التي هاجم بها الوردي رجال الدين، واتهمهم فيها بالتخاذل عن واجبهم الديني الحقيقي، والوقوف إلى جانب الحكام.
“الواقع أن الحكم الظالم لا يستتب بقوة السيف وحدها، إنه يحتاج إلى القصائد والفتاوى والمواعظ كذلك”
قدَّم الوردي طرحه هذا في اثني عشر فصلا، تناول في فصوله الأولى “الوعظ والصراع النفسي”، و” الوعظ وازدواج الشخصية” و” الوعظ وإصلاح المجتمع”، ثم غاص في التاريخ ليحكي في الفصول التالية عن تاريخ العصر الإسلامي وكيف أسهم في ظهور مثل هؤلاء الوعاظ، وفي عرضه لسير الصحابة وتحليله لمواقفهم يربط الكاتب ذلك بالطبيعة البشرية التي يرى أنها تظل مشتركة بين جميع البشر مهما بلغت درجة إيمانهم.
في صحبة هذا الكتاب وإلى جانب ما يتناوله عن وعاظ السلاطين ستتعرف على تاريخ العرب ورأي الكاتب فيه إذ يفند آراء بعض المؤرخين والعلماء بأسلوب شيق وجريء وساخر في بعض الأحيان. يوضح الوردي في البداية أن وعاظ السلاطين كما يقصدهم هم أولئك الذين اعتادوا على دعوة الناس إلى مُثل عليا وتخويفهم من غضب الله لانحرافهم عن تلك المثل، دون أن يقفوا قليلا ليتبينوا مقدار ما يتناسب منها مع الطبيعة البشرية.
” دأبوا على هذا مئات السنين، والناس منهمكون في أعمالهم التي اعتادوا عليها لا يتأثرون بالموعظة إلا حين تُلقى عليهم فنراهم يتباكون في مجلس الوعظ ثم يخرجون منه كما دخلوا فيه”
ويضيف أنهم في مواعظهم دائما ما يعزون ما نعاني منه في مجتمعاتنا إلى سوء أخلاقنا وبالتالي يرون أن الحل هو إصلاح أخلاقنا ومعه ستحل كل مشكلاتنا وهو ما لا يحدث، فالطبيعة البشرية لا يمكن تغييرها بالوعظ المجرد وحده، كما أن في النفس البشرية ما لا يمكن تغييره أصلا.
الويل للبسطاء ورحمة الله للخليفة.
وكما يشير الكاتب فإن هؤلاء الوعاظ يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يحلو لهم وينصبّ اهتمامهم على الفقراء فقط يبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم عيشهم وينذرونهم بالويل في الدنيا والآخرة، ويرجع الكاتب سبب هذا التحيز إلى أن الوُعَّظ أنفسهم يعيشون على ما يفيض به عليهم الأغنياء والطغاة، ومعايشهم متوقفة على إرضائهم، لذا يغضون الطرف عما يقوم به هؤلاء من نهب وما يعيشون فيه من ترف وفوق ذلك يدعون لهم بطول العمر، وهكذا ينشغل الناس بوعظ بعضهم بعضًا ناسين ما حلّ بهم على أيدي الطغاة، ويصبح الواعظون أعوانًا للطغاة، ويستريح الطغاة بعد أن أزاحوا عن كواهلهم مسؤولية المظالم التي يرتكبونها ويضعونها على كاهل البائس الفقير الراكض وراء لقمة عيش، والذي يلاحقه الواعظون فوق ذلك بعقاب الله الذي لا مرد له.
” إن مشكلة الوعاظ إذن أنهم يأخذون جانب الحكام ويحاربون المحكوم فنجدهم يعترفون بنقائص الطبيعة البشرية فقط حين يستعرضون أعمال الحكام، فإذا ظلم الحاكم رعيته قالوا إنه اجتهد فأخطأ وكل إنسان يخطئ والعصمة لله وحده.”
ويصف الكاتب حال البسطاء حين يرى الواحد فيهم نفسه مضطرا للاندفاع وراء أنانيته لكي يعيش بينما يطارده الوعاظ صارخين في وجهه بأن الأنانية ذنب قبيح، فيصبح يائسا من إصلاح نفسه، وتصيبه عقدة التقصير. في الفصل الأول يتناول الكاتب الصراع النفسي الذي يحدث للإنسان بسماعه وعظا يتجاهل الطبيعة البشرية على حقيقتها ويطالبها بأن تكون ملائكية، ويوضح الكاتب بأمثلة من التاريخ كيف نشأت هذه الأزمة مبكرا جدا بين الصحابة بعد وفاة الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم، وكيف أنها كانت تعود للظهور في كل المراحل التاريخية الصعبة.
ويضيف أن هذا الصراع النفسي يزداد حدة حين يكون العرف الاجتماعي مقدرا للمال والجاه، فتزداد حيرة الإنسان بين قيمه الاجتماعية التي تدفعه لجمع المال والحصول على الجاه، بينما يؤكد الوعاظ له أن جمع المال رذيلة وحب الجاه ذنب.
” وشر المجتمعات هو ذلك الذي يحترم طريقا معينا في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق آخر معاكس”
“الدكتور علي الوردي”
في هذا المجتمع ذي الوجهين ينمو الصراع النفسي لدى بعض الأفراد، وقد يلجأ بعضهم لحياة العزلة أو الرهبنة، أما الباقون ممن لا يستطيعون الانعزال فإنهم وللتوفيق بين مبادئ الوعظ وقيم المجتمع يلجؤون إلى حيلة أخرى هي “ازدواج الشخصية”، فيصبح لدى كل منهم شخصيتين، تصغي واحدة لما يقوله الواعظون، وتندفع الأخرى وراء ما يروق لأعين الناس من مال وجاه.
وهكذا يقتصر تأثير الموعظة على العقل الظاهر فيما يظل العقل الباطن مشغولا بأمور أخرى، فالإنسان دائما يريد أن يكون محترما بين الناس ومرموقا، والناس مهما اختلفوا متفقون في حب الشهرة والمكانة الاجتماعية.
ويوضح الكاتب أن كثيرا من العرب بدوي في عقله الباطن يمجد الفخر والقوة والتعالي، ومسلم في عقله الظاهر يعظ بالتقوى، ويظهر هذا بوضوح أكبر في المناطق القريبة من الصحراء فنجد العراقي أكثر بداوة من غيره من أبناء الأمم العربية.
يعود الكاتب إلى التاريخ متتبعا بداية ظهور هذا الازدواج الذي أحدثه النزاع بين قيم الإسلام وقيم البداوة، حيث يرى أن توقف الفتح الإسلامي في عهد الخليفة عثمان أعاد العرب إلى النزاع بين بعضهم بعضا بعد أن استثمرت الفتوحات النزعة القتالية لديهم في قتال العدو، وزاد الأمر أن عثمان كان محبا لأقربائه الذين دخلوا الإسلام بعد الفتح ولم يتغلغل الإيمان في نفوسهم، فحدثت الفجوة بين الحاكم والمحكوم وكان ما كان من الثورة على عثمان. كما يقول الكاتب.
في عصر الدولة الأموية حققت الدولة انتصارات كبيرة في الفتوحات فالتف العرب حول بني أمية واعتبروا أن الإسلام جاء لكي يرفع مكانة العرب وصار الأعاجم محتقرين، وبعد أن كان ظهور الإسلام قد أسهم في نسيان العربي للشعر الذي كان أحد أسباب قوة قريش، إذا بمعاوية يجزل العطاء للشعراء، وبعده يزيد الذي كان شاعرا في الأساس، وكان يميل للبداوة أكثر من أبيه معاوية وعاد الشعر إلى ما كان عليه أيام عكاظ وسيلة للتفاخر. اتبع الأمويون طريق البداوة في الحكم إذن، فأخذ الفقهاء والزهاد يثيرون الناس عليهم ليعيدوهم إلى تعاليم الإسلام الأولى.
ويصف الكاتب كيف اجتاح الصراع النفسي العنيف الناس في العهد الأموي فكانت قلوبهم بدوية، وكانت ألسنتهم إسلامية فكانوا يطالبون الحاكم بالعدل والمساواة بينما هم كانوا في الواقع كغيرهم من أبناء القبائل أولي كبرياء وتفاخر بالأنساب، وكان الفرد يحتج على الحكام بالحجة الدينية ثم يثور عليهم بالسيف البدوي، فهو في أعماله قبلي فخور وفي أقواله تقي زاهد.
ويواصل الكاتب في الفصل الثاني عرضه مؤكدا أن الثغرة التي أحدثها حكام العهد الأموي بين الدين والدولة والوضع المتناقض وقتها أدى إلى صراع نفسي وإلى قلق اجتماعي واضح لم يكن ليدوم دون حل وهو ما حدث في عصر العباسيين فعلا، إذ حاولوا سد هذه الثغرة بين الدين والدولة فلم ينجحوا في ذلك إلا ظاهرا. فما حدث هو أنهم قرّبوا الفقهاء وأهل الحديث وأجزلوا لهم العطاء وتظاهروا بالخشوع ولم يفعلوا أكثر من هذا، أما في حياتهم العملية فقد كانوا يسيرون كغيرهم من الملوك في ضوء ما تمليه عليهم الظروف من مساومة وقسر واستغلال.
كان الخليفة الأموي إذن بدويا صريحا، فيما اتبع الخليفة العباسي طريق الازدواج، إذا جاء وقت الموعظة بكى وإذا جاء وقت السياسة طغى.
” إن الرشيد قد ضرب بهذا مثلا رائعا على ازدواج الشخصية، يكفيه أن يبكي من خشية الله ويغمى عليه، ولا يبالي بعد ذلك أن يفعل ما يشاء”
ويسوق الكاتب الحكايات التي ترددت عن بعض الخلفاء العباسيين كهارون الرشيد الذي كان يبكي حين يسمع للوعاظ يخوفونه من غضب الله، وربما كان هذا الواعظ سيصبح زنديقا إذا ما خوّف الرشيد بغضب الناس، فغضب الله أهون على الرشيد من غضب الناس، فالله على أي حال غفور رحيم.
“اللوحة للخليفة هارون الرشيد”
الخليفة يعبد الله وينهب عباد الله
وهكذا تزايد عدد الواعظين في العصر العباسي وكان كل وزير أو أمير يخصص جزءا كبيرا من الأموال التي “ينهبها” لبناء المساجد، والتكايا للترفيه عَّمن أسماهم الكاتب “المرتزقة الذين يأوون إليها من طلاب الفقه والعبادة” وكان الواعظ يعطى على مقدار ما يتحذلق به من جيد اللفظ وبلاغة الأسلوب.
يصف الكاتب كيف كان الناس في هذا الزمن لا يبالون أن ينهب الخليفة أموالهم ما دام يُغشى عليه من خشية الله ويبني المساجد ويغدق النعم على الواعظين، وقد استراحوا حقا – حين اتخذوا هذه العادة – من الصراع النفسي داخلهم فصار لهم قلبان يسمعون الموعظة بأحدهما ويسمعون رنين النقود بالآخر .. “دون صراع نفسي ولا قلق اجتماعي ولا هم يحزنون”.
وأصبحت مشكلة الدين هينة عند الناس، يجوز للفرد أن يفعل ما يشاء وينهب ما يشاء ولكي يرضى الله عنه يجب أن يعطي جزءا مما ينهب إلى العباد والوعاظ ليتوبوا عنه أمام الله ويستغفرون له.
“ومن الممكن القول إنه كلما كان الظلم الاجتماعي أشد كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر ”
ويحكي الكاتب كيف كان بعض الوعاظ لدى ذكر الخليفة يدعو له ويرجو الله أن يمد ظله على الأرض، وحين يلتفت لرعايا الخليفة يأخذهم بالتهديد والتخويف، وكأن أفراد الرعية هم الظالمون والخليفة هو المظلوم.، ولنا أن نتخيل كيف يمكن أن يتزعزع إيمان أي إنسان حين يرى أمير المؤمنين ينهب أموال الأمة ثم يبددها على ملذاته، ويكون الناهب معذورا والمنهوب معاقبا.
ويكشف الكاتب في الفصل الثالث أنه ضمن أبرز المشكلات التي سببها تحليق الواعظين في السحاب، برجوعهم إلى السلف يزكونهم ويجردونهم من كل عيوبهم لكي يجعلوهم قدوة للناس، أنهم وضعوا أمام الناس غاية لا تنال وتركونا نركض بلا جدوى. فحين يظهر زعيم بيننا نراه غير لائق لأننا نقارنه بتلك القدوة الخيالية التي صنعها لنا الواعظون، وبحكم الطبيعة البشرية فإن الزعيم يحتاج لتقدير اجتماعي عام لكي يستطيع النهوض برسالته، كما يؤكد الكاتب فهو لا ينهض بشخصيته وحدها
يوضح الكاتب أننا لو درسنا نفسية أحد الزعماء المشهورين لوجدناه منهمكا في خدمة الناس انهماكا غريبا، ويظن البعض خطًأ أن هذا الانهماك المخلص هو سجية أصيلة في كيان هذا الزعيم، لكن الحقيقة أن الزعيم لم يكن يختلف في أول الأمر عن سائر الأفراد فهو يبدأ سيرته فردا عاديا يسعى كما كل الأفراد إلى الرزق وإلى المكانة الاجتماعية، وتبدر منه حركة اجتماعية نافعة يشاء الحظ أن تثير هذه الحركة إعجاب أناس فينال التقدير بسببها فيتشجع هو بهذا التقدير ويزداد عزما وحماسا، وكلما زاد التقدير زاد حماسه وإخلاصه. المسألة إذن -كما يشير الكاتب – لا تعدو كونها تفاعلا بين عمل الفرد وتقدير المجتمع، فيما يعرف ب “السببية الدورية “، فالسبب الذي يخلق الزعيم ليس ناشئا عن شخصية الزعيم وحدها ولا عن طبيعة المجتمع وحدها، إنه تراكم بين فعل الزعيم ورد فعل المجتمع. ليصل الأمر في مرحلة ما أن تكون مصلحة الزعيم هي نفسها المصلحة العامة.
“الواقع أن الوعاظ والطغاة من نوع واحد هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم وأولئك يظلمونهم بأقوالهم”
ما يجب على الوعاظ قوله فعلا
بالمثل يرى الكاتب أن المجرم كان حظه أن مصلحته منافية للمصلحة العامة وبالسببية الدورية تهاوى المجرم في نظر المجتمع كما صعد الزعيم بالطريقة نفسها، لهذا يؤكد الكاتب أن الحقيقة التي يجب على الوعاظ قولها ليست أن تغيير أخلاقنا سيغير ظروفنا وإنما ضرورة أن تتغير ظروفنا لتتغير أخلاقنا، وضرورة
رفع عبء الفاقة والمشقة عن كاهل الناس ليشعروا أن مصالحهم مطابقة لمصالح المجتمع لأن الفقر يتحدى كل فضيلة ويورث صاحبه درجة من التذمر والانحطاط تكتسح أمامها كل شيء.
وبعد أن يستعرض الكاتب حوادث التاريخ الإسلامي خلال فصول كتابه، موضحا كيف تنازع فيه فريقان: فريق السلاطين وفريق الثوار، يؤكد في النهاية أن العدالة الاجتماعية لا تحقق فقط بمجرد وعظ الحاكم أو تخويفه من العذاب، فالعدالة ظاهرة اجتماعية لا تتأتى إلا بعد تنازع الحاكم والمحكوم ففي الحاكم أيضا نقائص بحكم طبيعته البشرية وهو لن يمنح رعاياه العدل من تلقاء نفسه.