مقالات تاريخية
ماذا تعرف عن نظام بريتون وودز ؟
ماذا تعرف عن نظام بريتون وودز ؟ – د. رمزي زكي
قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها دعت الولايات المتحدة الأمريكية حلفاءها لاجتماع عقد في مدينة بريتون وودز في صيف عام 1944 للاتفاق على الأسس التي سيدار على أساسها الاقتصاد العالمي في عهد السلام، وللتداول حول الأطر النقدية والمالية والتجارية الملائمة بعد أن دمرت الحرب – وما جاء في خضمها من ممارسات – العلاقات الاقتصادية الدولية.
وقد حضر المؤتمر ممثلو 44 دولة، ضمنت كبريات الدول الرأسمالية الصناعية وبعض الدول النامية (مصر والهند وغيرهما) كماحضر المؤتمر الاتحاد السوفييتي السابق.
وقد سيطرت على المؤتمر أجواء علاقات القوى النسبية التي تمخضت عنها الحرب. فدول القارة الأوربية وإن كانت قد خرجت من الحرب منتصرة على النازية، إلا أنها كانت منهارة من الناحية الاقتصادية بسبب الدمار والخراب الذي سببته العمليات الحربية، حيث دمرت طاقاتها الصناعية والزراعية والخدمية، وسادها الخراب والجوع والبطالة والأمراض بسبب هبوط مستويات الإنتاج والدخول والموارد المتاحة. أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت صورتها على عكس صورة الحالة الأوربية. فقدخرجت من الحرب وهي في قمة ازدهارها الاقتصادي؛ لأن الحرب كانت في الحقيقة عامل انتعاش قويا لاقتصادها. فخلال سني الحرب ظلت طاقاتها الإنتاجية تعمل ليلا ونهارا لكي تفي بحاجات الدول الحليفة المحاربة من المواد الخام والمواد الغذائية والمعدات والذخائر الحربية. ولهذا شهد الاقتصاد الأمريكي خلال فترة الحرب أزهى أيامه، حيث قفزت معدلات نمو الإنتاج الزراعي والصناعي والقوى المحركة، وهبط معدل البطالة إلى أدنى حد منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. كما خرجت الولايات المتحدة من الحرب وهي أكبر دولة دائنة في العالم، وتجمع لديها ما يقرب من ثلثي ذهب العالم.
أما مجموعة المستعمرات وأشباه المستعمرات والبلاد التابعة فلم تكن أقل سوءا من حالة الدول الأوربية. فقد استغلت القوى الاستعمارية هيمنتها على هذه المجموعة لاستغلال مواردها في دعم وتمويل العمليات الحربية لدول الحلفاء إبان سنوات الحرب على الرغم من فقرها وتخلف بنيانها الإنتاجي وانخفاض مستوى معيشة شعوبها. ولهذا لم يكن عجيبا أن تخرج بعض المستعمرات من الحرب، مثل مصر والهند والسودان، وهي دائنة لبريطانيا، وهي الدائنية التي عرفت تحت مصطلح مشكلة الأرصدة الإسترلينية، وهي عبارة عن صكوك كانت تصدرها بريطانيا لصالح هذه الدول مقابل ما تشتريه منها من مواد خام ومعدات ووسائل للنقل.
في ضوء هذا الوضع الذي آلت إليه القوى والأطراف العالمية كان من الطبيعي أن تتولى الولايات المتحدة هندسة معالم بريتون وودز. وكان أهم ما يحرك الولايات المتحدة في رسم هذه المعالم هو حرصها على أن تساعد الترتيبات الجديدة لعالم ما بعد الحرب في الحفاظ على قوة الدفع الكبيرة التي كان عليها الاقتصاد الأمريكي إبان سنوات الحرب.
وهذا لن يتأتى إلا من خلال علاقات اقتصادية دولية حرة تتسم بدرجة عالية من استقرار أسعار الصرف ومن حركات واسعة للاستثمارات الأمريكية الخارجية ومن تجارة عالمية خالية من القيود ويتزايد فيها حجم الصادرات الأمريكية. في ضوء هذا المحرك الأساسي لموقف الولايات المتحدة ونظرا للقوة النسبية التي كان عليها الاقتصاد الأمريكي آنئذ، كان من الطبيعي أن تنتصر وجهة النظر الأمريكية عند صياغة وتحديد بريتون وودز لعالم ما بعد الحرب.
فقد انتصر المشروع الأمريكي الذي قدمه هوايت على المشروع البريطاني الذي صاغه لورد كينز بشأن نظام النقد الدولي، رغم أن كلا منهما كان يسعى لأهداف عليا واحدة، وهي معالجة الاضطراب في الاقتصاد الرأسمالي العالمي والسعي لترسيخ أقدامه وآفاق مسيرته في عالم ما بعد الحرب. وعموما، بينما كانت وجهة نظر كينز تسعى جاهدة لاستعادة موقع بريطانيا في الاقتصاد العالمي، كان هوايت يسعى إلى تعزيز الدور القيادي للولايات المتحدة في النظام الجديد.
أما مجموعة الدول النامية التي حضرت المؤتمر، فقد كانت آنذاك مستعمرات أو شبه مستعمرات وبلادا تابعة. ولهذا لم تكن في وضع يسمح لها بأن تفرض رأيها ومطالبها في النظام الجديد. وكان اشتراكها في المؤتمر كرموز ليس إلا بسبب ضعفها وهيمنة القوى الاستعمارية عليها.
ولهذا لم يعرها المؤتمر أية أهمية فيما يتعلق بمشكلاتها الاقتصادية وتطلعاتها نحو التنمية. أما عن الاتحاد السوفييتي، فقد حضر مداولات مؤتمر بريتون وودز للنهاية، لكنه رفض التوقيع على الميثاق، ولم ينضم لعضوية صندوق النقد الدولي؛ لأنه رأى فيه آنذاك هيمنة واضحة للاقتصاد الأمريكي على النظام المقترح.
مولد صندوق النقد الدولي :
تمخض مؤتمر بريتون وودز في البداية عن ميلاد صندوق النقد الدولي الذي أرسى دعائم نظام النقد الدولي لعالم ما بعدالحرب. وهو النظام الذي استهدف استقرار أسعار الصرف وقابلية العملات للتحويل وعدم فرض القيود على المعاملات الخارجية. ويقوم الصندوق بالرقابة على عمل النظام ويمد الدول الأعضاء بالسيولة التي تحتاج إليها عند حدوث عجز مؤقت في موازين مدفوعاتها.
وقام نظام الإدارة وسياسة الإقراض بالصندوق على أساس قاعدة التصويت المرجح بحجم حصة الدولة العضو. وقد استحوذت الدول الصناعية السبع الكبار على الشطر الأعظم من رأسمال الصندوق وبالتالي على القوة التصويتية الأساسية، وهيمنت من ثم على إدارة الصندوق وتحديد سياساته.
وعموما، كان أساس نظام النقد الدولي الذي أرساه صندوق النقد الدولي، ووفر قوة الدفع الأساسية له خلال الفترة من 1945 إلى 1971، هو اتخاذ الدولار الأمريكي كعملة دولية بسبب قابلية تحويله إلى ذهب على أساس سعر صرف ثابت (35 دولارا للأوقية). كذلك تمخض مؤتمر بريتون وودز عن ميلاد البنك الدولي للتعمير والتنمية، والذي مارس أعماله في 25 يونيو 1946، وضم الدول الأعضاء بصندوق النقد الدولي. وكان الهدف من إنشائه هو المساعدة في عمليات البناء وإعادة التعمير لما دمرته الحرب والمعاونة في تنمية البلاد النامية ومساعدتها لاستخدام مواردها بشكل كفء، وتشجيع حركة الاستثمارات الدولية الخاصة. وفي عام 1956 ظهرت مؤسسة التمويل الدولية (التابعة للبنك) للمشاركة في تمويل مشروعات القطاع الخاص، ثم ظهرت هيئة التنمية الدولية (التابعةللبنك أيضا) لإعطاء القروض الميسرة لمدة تصل إلى 55 سنة وبفترة سماح معقولة وأسعار فائدة منخفضة. وهناك تشابه كبير بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فيما يتعلق بإدارته وبالقوى المهيمنة عليه (الدول السبع الكبار.
أما عن المكون الثالث لنظام بريتون وودز، فقد تمثل في اتفاقية الجات التي تمخضت عن ميثاق هافانا عام 1948. وهو الميثاق الذي استهدف وضع مجموعة من المبادئ والقواعد التي من شأنها أن تساعد على توسيع نطاق التجارة الدولية. وقد تمثلت أهم هذه المبادئ في الفصل الرابع من الميثاق الذي تركز حول ضرورة إلغاء نظم التفضيلات الجمركية الثنائية وحصص الاستيراد والرقابة على العملات الأجنبية والعدول عن القيود الأخرى المفروضة على التجارة الدولية. وقد صيغت معظم هذه المبادئ بناء على المقترحات التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها مصلحة واضحة آنذاك في رفع شعار حرية التجارة لنمو اللامع للرأسمالية.
ومهما يكن من أمر، فقد وضعت بريتون وودز بمكوناتها الثلاثة قيد التطبيق في عالم ما بعد الحرب. وكان لها دور كبير في المساهمة في حالة النمو اللامع الذي شهده الاقتصاد العالمي خلال الفترة من 1945 إلى 1971. فقد كانت آلياتها تمثل إطارا سهل طريقة عمل النظام الرأسمالي على صعيده العالمي. فاستقرار أسعار الصرف وتوفير السيولة الدولية ووضع ضوابط لها، ساعد على ازدهار العلاقات الاقتصادية الدولية بين مختلف الأطراف. ذلك أن استقرار هذه الأسعار وكفاية هذه السيولة يخلقان اطمئنانا لدى المتعاملين في السوق الدولية لعقد صفقات طويلة الأجل للاستيراد والتصدير والدخول في علاقات دائنية ومديونية دون الخوف من حدوث تقلبات مفاجئة في قيمة العملات المتفق على استخدامها أو في كيفية الحصول عليها. كما أن صندوق النقد الدولي لعب دورا أساسيا في ضبط أحوال السيولة الدولية وتسوية علاقات العجز أو الفائض بين الدول حتى عام 1973. ولعبت مجموعة البنك الدولي دورا أساسيا في عمليات إعادة تعمير أوربا بعد الحرب وتشجيع حركة الاستثمارات الدولية الخاصة وإعطاء القروض الميسرة لبعض الدول النامية التي كانت تحظى برضائه. وساهمت جولات المفاوضات متعددة الأطراف التي تمت في إطار الجات في خفض الكثير من التعريفات الجمركية وإزالة الحواجز أمام حركة التجارة الدولية، وهو أمر كان ضروريا لإنعاش الاقتصاد العالمي.
في ضوء ذلك كله يحلو لكثير من الاقتصاديين القول بأن جزءا من الازدهار اللامع الذي شهده الاقتصاد العالمي في عالم ما بعد الحرب كان يعود إلى آليات بريتون وودز. وهو قول لا يخلو من صواب. على أن تقييم تجربة بريتون وودز بعد مضي خمسين عاما عليها، يشير بكل وضوح إلى أن تلك الآليات قد صيغت أساسا لخدمة مصالح الدول الرأسمالية الصناعية، ومن هنا كانت إفادة هذه الدول منها، وعلى الأخص خلال الفترة من 1945 حتى 1971، إفادة عظمى. أما مجموعة الدول النامية فإن إفادتها من مؤسسات بريتون وودز كانت تافهة للغاية، لعدة أسباب.
أولها، أن إمكان التمتع بالموارد التي وفرهاصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي للدول الأعضاء كان محكوما في النهاية بحجم حصة الدولة العضو في رأسمال هذه المؤسسات. ونظرا لفقر الدول النامية، فإن حجم حصصها في هذه المؤسسات كان ضئيلا، ومن ثم كانت إفادتها من الموارد الميسرة محدودة للغاية.
أضف إلى ذلك أنه في ضوء الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية التي قامت عليها هذه المؤسسات، فإن البلاد النامية التي اتخذت خطا وطنيا مستقلا لبناء تنميتها على أساس التخطيط والقطاع العام والدور الكبير للدولة، لم تكن تحظى برضاء هذه المؤسسات. وكان هناك خلط بين الاعتبارات السياسية والاعتبارات الاقتصادية في عمل هذه المؤسسات (خير مثال هنا تجربة تمويل السد العالي بمصر). ولهذا فإن الدول التي حظيت بأكبر قدر من المساعدات والقروض الميسرة من تلك المؤسسات لم تكن هي بالضرورة الأكثر حاجة إلى هذه الموارد.
أما عن اتفاقية الجات فهي لم تميز بين أوضاع البلاد الصناعية المتقدمة وأوضاع البلاد النامية حينما سعت إلى خفض التعريفات الجمركية وغيرها من القيود التي تحد من حرية التجارة.
كما أن مبدأ الدولة الأولى بالرعاية the most favoured nation treatment الذي نصت عليه الاتفاقية انطوى على خطأ فادح، وهوالنظر إلى المعاملات التجارية بين هاتين المجموعتين من الدول على أنها معاملات الند للند، وهذا أمر لم يكن صحيحا.
كما أغفلت الاتفاقية تماما مشكلات الاختلال في موازين مدفوعات البلاد النامية وبالذات في المراحل الأولى من التنمية. كما لم تراع هذه الاتفاقية متطلبات عملية التنمية وحاجة الدول النامية لحماية صناعاتها الناشئة وضرورة تشجيعها على النمو بتوفير الأسواق الواسعة أمامها وحمايتها من الواردات المنافسة.
صحيح أن الجات قد استجابت في دورة طوكيو لمطالب الدول النامية بمنحها تفضيلات خاصة من جانب واحد وعدم تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل. لكنه كان أمرا محدودا في نطاق القوائم السلعية التي اشتمل عليها واتسم بضآلة حجم التخفيضات وعدم شمولها لجميع الدول النامية. ثم جاءت نزعة الحماية في الثمانينيات وعصفت بكل ذلك. وعموما فقد أثبتت التجربة أن مدى النفع الذي عاد على الدول الصناعية الرأسمالية من حركة التخفيضات الجمركية التي قررتها الجات كان يفوق أضعافا مضاعفة مقدار النفع الذي حققته الدول النامية.
العالم يتغير
الآن… وبعد أن تغير العالم كثيرا عن عالم بريتون وودز يتساءل الكثيرون، وبحق، عن مدى ملاءمة آليات بريتون وودز في الوقت الراهن. فمن المعروف أن هناك تغيرات هائلة وجذرية حدثت في منظومة الاقتصاد العالمي، بحيث جعلت تلك الآليات تضيق عن تحملها. خذ مثلا الاضطراب الشديد الذي حدث في نظام النقد الدولي، وهو الاضطراب الذي بدأ منذ وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب في عام 1971، والاتجاه نحو تعويم أسعار الصرف، والتخمة الشديدة غير المنضبطة التي حدثت في السيولة العالمية وتحويل أسواق النقد الدولية إلى ما يشبه نوادي القمار والمضاربة على العملات. خذ الحروب النقدية والتجارية التي اشتعلت بين الدول الرأسمالية الصناعية. خذ أيضا مشكلة البطالة المتزايدة التي تعاني منها مجموعة هذه الدول والتي تستعصي الآن على الحل بعد أن باتت مشكلة هيكلية وليست دورية.
خذ التكتلات الاقتصادية الثلاثة الكبرى التي ظهرت في عالمنا المعاصر:
كتلة أوربا الموحدة، وكتلة اليابان والمجموعة الآسيوية، وكتلة الولايات المتحدة وكندا والمكسيك،والتي تتحول الآن إلى ما يشبه القلاع التجارية المنغلقة.
خذ أيضا أزمة المديونية الخارجية الضخمة التي تئنمنها مجموعة البلاد النامية والحلول القاسية وغير الإنسانية التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على هذه البلاد، والتي عطلت التنمية ورهنت مواردها لدفع هذه الديون.
خذ التقلبات الشديدة التي تحدث في أسعار المواد الأولية التي تصدرها البلاد النامية، وهي المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية فيها. خذ الانهيار شبه الكامل الذي حدث في الدول التي كانت اشتراكية بعد فشل نموذج التنمية الاشتراكي الذي اعتمدت عليه في عالم ما بعد الحرب وما تعانيه حاليا من فوضى واضطرابات وركود بعد أن فشلت وصفات الصندوق والبنك في أن تقدم علاجا لجراحها.
فكل هذه الأمور، وربما غيرها، تشير إلى أننانعيش في عالم مأزوم، وأن آليات بريتون القديمة وما حدث بها من ترقيعات لم تعد تجدي في مواجهة هذا العالم. ولا شك أن حالات الفوضى والركود والبطالة والحروب النقدية والتجاريةالسائدة الآن في الاقتصاد العالمي تنطوي على تكلفة وأخطار محدقة لكل شعوب العالم. وأن تلك المشكلات تؤثر على جميع الدول والأطراف وإن كان بطرق متباينة.
ومن الأكيد أنه توجد الآن مصلحة مشتركة لجميع دول العالم لخلق نظام اقتصادي عالمي جديد. تتوافر فيه آليات جديدة أكثر ملاءمة وعدلا، وتعكس مصالح واحتياجات الشعوب للتنمية والتقدم والعدالة.
بيد أنه نظرا لتباين علاقات القوى الدولية واختلاف المصالح والأهداف، فإن الحاجة باتت ملحة للدعوة لعقد مؤتمر دولي يعقد في إطار هيئة الأمم المتحدة للتداول والتشاور حول الأطر والآليات الجديدة لعالمنا المعاصر، على أن تقوم تلك الأطر والآليات على مبادئ التكافؤ بين الدول واحترام إرادة الشعوب، وحقها في اختيار طريقها الإنمائي وتقدمها الاجتماعي.