أبحاث ودراساتمفاهيم وشخصيات

ماذا تعرف عن “الأنثروبولوجيا النفسيّة” ؟

ماذا تعرف عن “الأنثروبولوجيا النفسيّة” ؟ – مبروك بوطقوقة

تسمّى الأنثروبولوجيا النفسيّة أيضاً (الثقافة والشخصيّة ))Culture and Personality. وذلك بالنظر إلى العلاقة الوثيقة بين الثقافة والشخصيّة الإنسانية. فقد أثبتت بعض الدراسات أنّ التطابق في التقييمات المستقلّة للمعلومات التي جمعت، بقصد دراسة معادل ” الثقافة – الشخصيّة ” بلغ حدّاً كبيراً يدلّ على توقّع حدوث تعاون مثمر، بين الأنثروبولوجيين والتحليل النفسي في أبحاث أخرى.ويدلّ أيضاً، على أنّ من المستحسن أن يتدرّب الباحث على فروع علمية عديدة حتى يتمكّن من إجراء المراحل المختلفة من البحث والتحليل، والتي تتطلّبها طريقة التركيب ” السيكو- ثقافي”. (هرسكوفيتز، 1974، ص 53)
ومن هذا المنطلق، أكّدت معظم التعريفات التي تناولت مفهوم الثقافة، ارتباطها بشكل أساسي بالنتاجات / الإبداعية والفكرية / للإنسان. وهذا يعني أنّ الثقافة ظاهرة ملازمة للإنسان، باعتباره يمتلك اللغة، واللغة وعاء الفكر، والفكر ينتج عن تفاعل العمليات العقلية والنفسية التي يتمتّع بها الإنسان دون غيره من الكائنات الحيّة. فالعناصر الثقافية وجدت معه مذ أحسّ بوجوده الشخصي / الاجتماعي، وأخذ مفهومها يتطوّر ويتّسع، وتتحدّد معالمها مع تطوّر الإنسان، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن .
فموضوع الأنثروبولوجيا النفسية، يتحدّد إذن، في العلاقة بين الثقافة والشخصيّة، هذه العلاقة التي تسير في اتّجاهين متكاملين : اتّجاه يأخذ أثر الثقافة في الشخصيّة، واتّجاه يأخذ أثر الشخصيّة في الثقافة. ومن هنا، فقد ساعد ظهور الأنثروبولوجيا النفسيّة، علماء النفس في الوصول إلى فهم أفضل للمبادىء التي تحكم تشكيل الشخصيّة، وأثار في الوقت ذاته اهتمام علماء الأنثروبولوجيا لدراسة الأنماط الأساسسيبة للشخصيّة في المجتمعات المختلفة، قديمها وحديثها.

أولاً: مفهوم الشخصيّة وطبيعتها
احتلّت الشخصيّة الإنسانية والعوامل المؤثّرة في تكوينها، مكانة هامة في الدراسات النفسيّة والاجتماعية، وذلك بقصد التعرّف إلى مكوّنات هذه الشخصيّة، وكيفيّة تكيّفها وتفاعلها مع البيئة المحيطة، وبما يتيح نمو الشخصيّة وتطوّرها.
وعلى الرغم من الاتفاق على وحدة هذه الشخصيّة وتكاملها كنتاج اجتماعي من جهة، وكمحرّك لتصرّفات الفرد ومواقفه الحياتية من جهة أخرى، فقد تعدّدت تعريفاتها تبعاً للنظر إليها من جوانب متعدّدة.
فانطلاقاً من أنّ الشخصيّة تعبّر عن الجوهر الاجتماعي / الحقيقي للإنسان، فقد عرّفها رالف لينتون، بأنّها : ” المجموعة المتكاملة من صفات الفرد العقلية والنفسية. أي المجموع الإجمالي لقدرات الفرد العقلية وإحساسا ته ومعتقداته وعاداته، واستجاباته العاطفية المشروطة ” (لينتون، 1964، 607)
كما عرّفها /فيكتور بارنوا / بأنّها : ” تنظيم ثابت لدرجة ما، للقوى الداخلية للفرد. وترتبط تلك القوى بكلّ مركّب من الاتجاهات والقيم والنماذج الثابتة بعض الشيء، والخاصة بالإدراك الحسّي، والتي تفسّر – إلى حدّ ما – ثبات السلوك الفردي ” .( Barnouw, 1972, p
واتفاقاً مع التعريفين السابقين، يرى / أفلويد ليورت / أنّ الشخصيّة : هي استجابات الفرد المميّزة للمثيرات الاجتماعية، وكيفيّة توافقه مع المظاهر الاجتماعية المحيطة به. (محمد غنيم، 1997، ص 44)
وهكذا، يعبّر مفهوم الشخصيّة عن الوصف الاجتماعي للإنسان، والذي يشمل الصفات التي تتكوّن عند الكائن البشري من خلال التفاعل مع المؤثّرات البيئية، والتعامل مع أفراد المجتمع بصورة عامة. وهذا ما يعبّر عنه بـ (الجوهر الاجتماعي للإنسان) . أي أنّها مجموعة الخصائص (الصفات) التي تميّز فرداّ / إنساناً بذاته، من غيره في البنية الجسدية العامة، وفي الذكاء والطبع والسلوك العام .
فالعمليات الفيزيولوجية لدى الإنسان، ترتبط بالأفعال السلوكية المصاحبة، وتتعدّل هذه الأفعال عن طريق الخبرة التي يكتسبها من المجتمع. فالطعام كاستجابة للحاجة الفيزيزلوجية الغذائية، يصاحبها سلوك معيّن يتمثّل في طريقة تناول الطعام، بصورها المتعدّدة.. فهي تتضمّن كلّ أفعال الفرد ومناشطه الجسمانية والسيكولوجية، وأيضاً التعلّم والتفكير، وكلّ شيء يدخل في محتوى السلوك، حتى العمليات العقلية فهي تندرج تحت مفهوم هذا المصطلح.
وتتميّز نتائج السلوك بخاصتين أساسيتين : الأولى : العمليات المادية، والثانية : العمليات السيكولوجية. ويندرج تحت العمليات السيكولوجية، ما يعرف بأنساق القيم والمعرفة. ويشير تصنيف نتائج السلوك إلى تفاعل الفرد مع البيئة، فالفرد عندما يواجه نظاماً جديداً، يحدث لديه ردّ فعل، ليس فقط في موضوعيته، ولكن أيضاً في اتجاهاته وقيمه ومعارفه التي اكتسبها من خبراته الماضية.. ولذلك، يؤيّد بعض العلماء الأنثروبولوجيين تأثير العناصر السيكولوجية في محتوى الصيغة الثقافية، في دراستهم للثقافة والشخصيّة، وذلك لاعتقادهم بأنّ الشخصيّة هي نتاج الصيغة الثقافية التي تسود مجتمعاً ما. (الغامري، 1989، ص 42)
إنّ شخصيّة كلّ فرد متميّزة ومتفرّدة بسماتها وخصائصها، ولكنّه في الوقت ذاته يشترك مع الآخرين من أبناء جنسه، في الكثير من المظاهر التي تجعله وإياهم من جنس واحد. ولذلك تتّصف الشخصيّة الإنسانية بنوع من الثبات، يبدو في مواقفها واتّجاهاتها وأساليب تعاملها، وشعورها بهويّتها. وفي المقابل، تخضع هذه الشخصيّة للتغيّر والتطوّر. وهذا ما تحدّده مكونات الشخصيّة من جهة، والبيئة التي تنشأ فيها وتنمو من جهة أخرى.
فكون الإنسان يتميّز بشخصيّته ولا يشبه أحداً، فهذا يعني أنّ لكلّ فرد مكوّناته الجسدية الخاصة، وله طريقته وأسلوبه في الشعور والإدراك والسلوك، بما يطبعه بطابع مميّز لا يتكرّر عند أي شخص آخر بالصورة ذاتها.
أمّا كون الإنسان يشبه الناس الآخرين، فثمّة مظهران لذلك :
الأوّل : أنّه يشبه الناس كلّهم من حيث السمات المشتركة في الإرث البيولوجي، والبيئة التي يعيشون فيها، والمجتمعات والثقافات التي ينتمون إليها. فلكلّ فرد هنا، التكوين العضوي / البيولوجي ذاته، بوصفه كائناً حيّاً اجتماعياً .
الثاني : أنّه يشبه بعض الناس، فهذا ما يلاحظ في تشابه سمات شخصيّة الفرد مع سمات أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها، أو بعض الأفراد الذين ينشأ – أو يتعامل – معهم. (المصري، 1990،
ص 61)
وبناء على ما تقدّم، يمكن القول : إنّ الشخصيّة الإنسانية تتّسم بالخصائص التالية: (ميلاد، 1997، 30)
1- النمو والتكامل : فالشخصيّة تنمو وتتطوّر في وحدة متكاملة، من خلال تآزر سمات هذه الشخصيّة وقدراتها، وعملها بصورة مستمرّة ومتفاعلة مع مواقف الحياة المختلفة، ولا سيّما تفاعل الإنسان مع بيئته وأنماط التنشئة الاجتماعية المتعددة التي يتعرّض لها، وبالتالي استجابة هذه الشخصيّة بعناصرها الكاملة، في أثناء التعامل مع هذه المواقف المتنوّعة.
2- الهويّة الشخصيّة (الذاتية) : وتعني شعور الفرد بأنّه هو ذاته، وإن حدثت لـه تغيّرات جسدية ونفسيّة، عبر مراحله النمائية. فمن طبيعة الإنسان أن يتغيّر ويتبدّل من يوم إلى آخر، بحكم قانون التطوّر، والذي يشمل جوانب الشخصيّة كافة، من بداية الحياة وحتى نهايتها. غير أنّ هويته الأساسيّة تبقى هي ذاتها، على الرغم من التغيّرات الجسدية أو الوجدانية، التي تحدث بفعل عاملي : (العمر والثقافة) .
3- الثبات والتغيّر : أي أنّ خاصية الثبات في الشخصيّة الإنسانية، مستمرّة ما دام الشخص على قيد الحياة، وفي المقابل فهذه الشخصيّة تابعة لخاصية التغيّر والتطوّر، التي تحدث بفعل المؤثّرات المحيطة بالشخص، والتي تتفاوت في شدّة فاعليتها لإحداث التغيّرات التطوّرية.
وهذا الثبات الذي يتجلّى في : (الأعمال وأسلوب التعامل مع الآخرين، وفي البناء الداخلي والخارجي للشخص، بما في ذلك الدوافع والاهتمامات والاتجاهات، والخبرات) هو الذي يسمح – أحياناً – بالتنبّؤ المستقبلي لهذه الشخصيّة.
والخلاصة، أنّ الشخصيّة تنمو وتتطّور من خلال التفاعل المستمرّ مع ما يحيط بها. وكما أنّ الثبات سمة أساسية للشخصيّة، فالتغيّر والتطوّر أيضاً سمتان ملازمتان للشخصيّة. وإذا كان الاهتمام بدراسة الشخصيّة قليلاً في المجتمعات القديمة، نظراً لعدم النظر إلى الفرد كوحدة متكاملة، فإنّ تعقّد المشكلات الاجتماعية / الإنسانية، وتطوّر النظرة إلى دور الإنسان فيها، أدّى إلى زيادة الاهتمام بدراسة طبيعة الشخصيّة الإنسانية، لاكتشافها وإيجاد أفضل الطرائق للتعامل معها وتوظيف قدراتها.

ثانياً: مفهوم الثقافة وخصائصها
تعدّ الثقافة عاملاً هامّاً في تصنيف المجتمعات والأمم، وتمييز بعضها من بعض، وذلك بالنظر لما تحمله مضمونات الثقافة من خصائص ودلالات ذات أبعاد فردية واجتماعية، وإنسانية أيضاً.
ولذلك، تعدّدت تعريفات الثقافة ومفهوماتها، وظهرت عشرات التعريفات ما بين (1871-1963) منها ما أخذ بالجوانب المعنوية / الفكرية، أو بالجوانب الموضوعية / المادية، أو بكليهما معاً، باعتبار الثقافة- في إطارها العام- تمثّل سيرورة المجتمع الإنساني وإبداعاته الفكرية والعلميّة .
وهذا التنوّع في التعريفات، حدا بـ / إدجار موران / أن يقول بعد مرور قرن على أول تعريف أنثروبولوجي للثقافة : ” كلمة الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنّها كلمة ثابتة، حازمة، والحال أنّها كلمة فخّ، خاوية، منوّمة، ملغّمة، خائنة.. الواقع أنّ مفهوم الثقافة ليس أقلّ غموضاً وتشكّكاً وتعدّداً، في علوم الإنسان منه في علوم التعبير اليومي ” .( Morin, 1969, p.5)
1- مفهوم الثقافة :
ولعلّ أقدم تعريف للثقافة، وأكثرها شيوعاً، ذلك التعريف الذي وضعه / ادوارد تايلور / والذي يفيد بأنّ الثقافة : هي ذلك الكلّ المركّب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والأخلاق والقانون، والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع. (مجموعة من الكتّاب، 1997، ص 9)
وعرّفها عالم الاجتماع الحديث / روبرت بيرستيد / بقوله : ” إنّ الثقافة هي ذلك الكلّ المركّب الذي يتألف من كلّ ما نفكّر فيه، أو نقوم بعمله أو نمتلكه، كأعضاء في مجتمع ” .
وضمن هذا المفهوم، يرى / جيمس سبرادلي J. Spradleyy) أنّ ثقافة المجتمع، تتكوّن من كلّ ما يجب على الفرد أن يعرفه أو يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها أعضاء المجتمع .. إنّ الثقافة ليست ظاهرة ماديّة فحسب، أي أنّها لا تتكوّن من الأشياء أو الناس أو السلوك أو الانفعالات، وإنّما هي تنظيم لهذه الأشياء في شخصيّة الإنسان. فهي ما يوجد في عقول الناس من أشكال لهذه الأشياء. Spradley, 1972, p.p. 6-7) )
وهذا يتّفق إلى حدّ بعيد مع التعريف الذي يفيد بأن مصطلح الثقافة Culture في اللغة الإنكليزية، على معنى الحضارة Civilization كما في اللغة الألمانية ،له وجهان:
وجه ذاتي : هو ثقافة العقل .. ووجه موضوعي : هو مجموعة العادات والأوضاع الاجتماعية، والآثار الفكرية والأساليب الفنيّة والأدبية، والطرق العلمية والتقنية، وأنماط التفكير والإحساس، والقيم الذائعة في مجتمع معيّن .فالثقافة هي طريق حياة الناس، وكلّ ما يملكون ويتداولون، اجتماعياً وبيولوجياً. (صليبا، 1971، 378)
وربّما يكون أحدث مفهوم للثقافة، هو ما جاء في التعريف الذي اتّفق عليه في إعلان مكسيكو (6 آب 1982 )، والذي ينصّ على أنّ الثقافة – بمعناها الواسع – يمكن النظر إليها على أنّها : ” جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية، التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل : الفنون والآداب وطرائق الحياة .. كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والمعتقدات والتقاليد ” .
ويعتقد معظم علماء الأنثروبولوجيا أنّ الحضارة ما هي إلاّ مجرّد نوع خاص من الثقافة، أو بالأحرى، شكل معقّد أو ” راقٍ ” من أشكال الثقافة. ولذلك لم يعتمدوا قطّ، التمييز الذي وضعه علماء الاجتماع بين الثقافة والحضارة .. فمن المعروف أنّ بعض علماء الاجتماع يميّزون بين الحضارة بوصفها ” المجموع الإجمالي للوسائل البشرية ” وبين الثقافة بوصفها ” المجموع الإجمالي للغايات البشرية “. (لينتون، 1967، ص 143 )
وتأسيساً على ذلك، اعتمد كثير من الباحثين في دراسة الأنثربولوجيا الثقافية / النفسيّة والاجتماعية / على ثلاثة مفهومات أساسية، هي :
– التحيّزات الثقافية : وتشمل القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس .
– العلاقات الاجتماعية : وتشمل العلاقات الشخصيّة التي تربط الناس بعضهم مع بعض .
– أنماط أساليب الحياة التي تعدّ الناتج الكلّي المركّب من التحيّزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية (مجموعة من الكتّاب، 1977،
ص100)

وهذا يعني أنّ الثقافة تهدي الإنسان إلى القيم، حيث يمارس الاختيار ويعبّر عن نفسه بالطريقة التي يرغبها، وبالتالي يتعرّف إلى ذاته ويعيد النظر في إنجازاته وسلوكاته. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ أية ثقافة لا تؤلّف نظاماً مغلقاً، أو قوالب جامدة يجب أن يتطابق معها سلوك أعضاء المجتمع جميعهم. ويتبيّن من التأكيد على حقيقة الثقافة السيكولوجية، أنّ الثقافة بهذه الصفة، لا تستطيع أن تعمل أي شيء، لأنّها ليست سوى مجموع من سلوكات وأنماط وعادات تفكير، عند الأشخاص الذين يؤلّفون مجتمعاً خاصاً، في وقت محدّد ومكان معيّن. (هرسكوفيتز1974، ص 65)
وهكذا يمكن القول : إنّ الثقافة –في إطارها العام – ليست إلاّ مفهوماً مجرّداً يستخدم في الدراسات الأنثروبولوجية للتعميم الثقافي، وأنّ ضرورة الثقافة لفهم الأحداث في العالم البشري، والتنبّؤ بإمكانية وجودها أو وقوعها، لا تقلّ أهميّة عن ضرورة استخدام مبدأ( الجاذبية) لفهم أحداث العالم الطبيعي وإمكانية التنبّؤ بها .
2- خصائص الثقافة :
تعدّ الحياة الاجتماعية في أي مجتمع، نسيجاً متكاملاً من الأفكار والنظم والسلوكات التي لا يجوز الفصل فيما بينها، باعتبارها تشكّل التركيبة الثقافية في المجتمع، وإلى درجة تحدّد مستوى تطوّره الحضاري.
وإذا كان التأثير البيولوجي للإنسان في الثقافة معدوماً على المستوى الاجتماعي، باستثناء بعض الحالات الفردية الاستثنائية (الشاذة )، فإنّ تأثير العامل الثقافي على الوجود البيولوجي، هو تأثير فاعل ومحسوس، ليس على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى المجتمع بوجه عام. ولذلك، فكما يتمّ اصطفاء النوع، يتمّ اصطفاء الثقافة على أساس تكيّفها مع البيئة. وبمقدار ما تساعد الثقافة أعضاءها في الحصول على ما يحتاجونه، وفي تجنّب ما هو خطر، فإنّها تساعدهم على البقاء. (سكينر، 1980، ص130 )
وهذا يؤكّد أنّ النموذج العام لأيّ ثقافة، يأتي منسجماّ مع الإطار الاجتماعي الذي أنتجها، ويرسم بالتالي السمات والمظاهر الاجتماعية لدى الأفراد الذين يتشرّبون هذه الثقافة، ويعملون ما بوسعهم للحفاظ على هذا النموذج الثقافي واستمراريته وتطويره.

واستناداً إلى هذه المعطيات، فإنّ ثمّة خصائص تتّسم بها الثقافة، بحسب مفهومها وطبيعتها، ومن أبرز خصائص هذه الثقافة أنّها :
2 /11- إنسانية : فالإنسان هو الحيوان الوحيد المزوّد بجهاز عصبي خاص، وبقدرات عقلية فريدة تتيح لـه ابتكار أفكار جديدة، وأعمال جديدة. . فالإنسان – على سبيل المثال – انتقل من المناطق الدافئة إلى المناطق الاستوائية، وتكيّف معها باختراع أعمال جديدة، وملابس ومساكن تخفّف من الحرارة والرطوبة .. وانتقل من طور (مرحلة) جمع القوت إلى طور الصيد، ومن ثمّ إلى طور الرعي والزراعة، من دون أن تظهر عنده أيّة تغيّرات عضوية تذكر، وإنّما الذي تغيّر هو ثقافته، أي مجموع أفكاره وأعماله وسلوكاته .
2/22- مكتسبة : يكتسب الإنسان الثقافة من مجتمعه، منذ ولادته وعبر مسيرة حياته، وذلك من خلال الخبرات الشخصيّة. وبما أنّ كلّ مجتمع إنساني يتميّز بثقافة معيّنة، محدّدة الزمان والمكان، فإنّ الإنسان يكتسب ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه منذ الصغر، ولا تؤثّر العوامل الفيزيولوجية في عملية الاكتساب. أي أنّ عملية التنشئة الاجتماعية الثقافية، هي العملية التي تقوم بنقل ثقافة المجتمع إلى الطفل. ومهما كانت السلالة التي ينتمي إليها الفرد، فإنّه يستطيع أن يلتقط ثقافة أي مجتمع بشري، إذا ما عاش فيه فترة زمنية كافية .
2/33- اجتماعية : بما أنّ الثقافة هي نتاج اجتماعي أبدعته جماعة معيّنة، فإنّ دراسة الثقافة لا تتمّ إلاّ من خلال الجماعات (المجتمعات )، وذلك لأنّ هذه الثقافة تمثّل عادات المجتمعات وقيمهم، وليست عادات الأفراد كأفراد. وإن كانت النظم الثقافية تختلف في مدى شموليتها الاجتماعية. فهناك نظم تطبّق على أفراد المجتمع جميعهم، وفي المقابل هناك نظم كثيرة، ولا سيّما في الثقافات المتمدّنة، لا تطبّق إلاّ على جماعة معيّنة داخل المجتمع الواحد، ولا تطبّق على الجماعات الأخرى. وهذا ما يدخل في الثقافات الفرعية. (وصفي، 1981، ص 81-84)
2/44- تطوّرية / تكاملية : على الرغم من أنّ لكلّ جماعة بشرية معيّنة ثقافة خاصة بها، إلاّ أنّ هذه الثقافة ليست جامدة، بل هي متطوّرة مع تطوّر المجتمع من حال إلى حال أفضل وأرقى. ولا يتمّ التطوّر في جوهر الثقافة ومحتواها فحسب، وإنّما أيضاً في الممارسة والطريقة العملية لسلوكات الإنسان الذي يعيش في المجتمع المتطوّر.
وهذا التطوّر لا يعنى أنّ كلّ مرحلة ثقافية منعزلة عن الأخرى، بل ثمّة تكامل ثقافي في ثقافة المجتمع الواحد. وذلك لأنّ الثقافة بتكاملها، تشبع حاجات الإنسان المادية والمعنوية، وهي تجمع بين المسائل المتّصلة بالروح والفكر، وبين المسائل المتّصلة بحاجات الجسد. أي أنّه تحقّق التكامل بين الحاجات البيولوجية والنفسية والاجتماعية والفكرية والبيئية.
2/55- استمرارية / انتقالية : بما أنّ الثقافة تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها، وتمسّكهم بها، فهي بذلك ليست ملكاً لفرد معيّن، ولا تنحصر في مرحلة محدّدة .. لذا لا تموت الثقافة بموت الفرد، لأنّها ملك جماعي وتراث يرثه أفراد المجتمع جميعهم. كما أنّه لا يمكن القضاء على ثقافة ما، إلاّ بالقضاء على أفراد المجتمع الذي يتبعها، أو بتذويب تلك الجماعة التي تمارس هذه الثقافة، بجماعة أكبر أو أقوى، تفرض ثقافة جديدة بالقوّة. (ناصر، 1985، ص 103-
104)
وإذا كانت الثقافة تشكّل إرثاً اجتماعياً، فإنّها إذن قابلة للانتقال من جيل الكبار إلى جيل الصغار بواسطة عملية التثقيف أو التنشئة الثقافية / الاجتماعية، أي العملية التربوية التي تعني في بعض جوانبها : (نقل ثقافة الراشدين إلى الذين لم يرشدوا بعد ). كما يمكن أن يتمّ هذا الانتقال (الانتشار) إلى جماعات إنسانية أخرى من خلال وسائل الاتّصال المختلفة .
فالثقافة لا توجد إلاّ بوجود المجتمع، والمجتمع من جهته لا يقوم ويبقى إلاّ بالثقافة، لأنّ الثقافة طريق متميّز لحياة الجماعة ونمط متكامل لحياة أفرادها، وهي التي تمدّ هذه الجماعة الأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيها، وإن كانت ثمّة آثار في ذلك لبعض العوامل البيولوجية والجغرافية .
ثالثاً- الثقافة والشخصيّة
إنّ شخصيّة الفرد تنمو وتتطوّر، من جوانبها المختلفة، داخل الإطار الثقافي الذي تنشأ فيه وتعيش، وتتفاعل معه حتى تتكامل وتكتسب الأنماط الفكرية والسلوكية التي تسهّل تكيّف الفرد، وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي العام .
وليس ثمّة شكّ في أنّ الثقافة مسؤولة عن الجزء الأكبر من محتوى أية شخصيّة، وكذلك عن جانب مهمّ من التنظيم السطحي للشخصيّات، وذلك عن طريق تشديدها على اهتمامات أو أهداف معيّنة. ويكمن سرّ مشكلة العلاقة بين الثقافة والشخصيّة في السؤال التالي : ” إلى أي مدى يمكن اعتبار الثقافة مسؤولة عن التنظيم المركزي للشخصيّات؟ أي عن الأنماط السيكولوجية؟ وبعبارة أخرى : هل يمكن للتأثيرات الثقافية أن تنفذ إلى لباب الشخصيّة وتعدّلها؟ ” (لينتون، 1964، ص 609)
إنّ الجواب على هذا التساؤل، يكمن في أنّ عملية تكوين الشخصيّة هي عملية تربوية / تعلمية – تثقيفية، حيث يجري فيها اندماج خبرات الفرد التي يحصل عليها من البيئة المحيطة ،مع صفاته التكوينية، لتشكّل معاً وحدة وظيفيّة متكاملة تكيّفت عناصرها، بعضها مع بعض تكيّفاً متبادلا ً، وإن كانت أكثر فاعلية في مراحل النمو الأولى من حياة الفرد .
ويمكن أن نطلق اسم التثقيف أو المثاقفة Enculturationn، على جوانب تجربة التعليم التي يتميّز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، ويوصّل بها إلى إتقان معرفة ثقافته. والتثقيف في جوهره، سياق تشريط شعوري أو لا شعوري، يجري ضمن الحدود التي تعيّنها مجموعة من العادات. ولا ينجم عن هذه العملية التلاؤم مع الحياة الاجتماعية القائمة فحسب، بل ينجم أيضاً الرضى، وهو نفسه جزء من التجربة الاجتماعية، ينجم عن التعبير الفردي وليس عن الترابط مع الآخرين في الجماعة. (هرسكوفيتز، 1974، ص 34 )
وإذا كان / هرسكو فيتز/ ركّز على الاستمرارية التاريخية في الثقافة، من خلال عملية (المثاقفة )، فإنّ / سابير / يشدّد على العلاقة بين الثقافة والشخصية، استناداً إلى الأساس اللغوي الذي كان لـه التأثير الكبير في الأنثروبولوجيا البنيوية. يقول سابير: ” هناك علاقة أساسية بين الثقافة والشخصيّة. فلا شكّ في أنّ أنماط الشخصيّة المختلفة، تؤثّر تأثيراً عميقاً في تفكير عمل المجموعة بكاملها، وعملها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تترسّخ بعض أشكال السلوك الاجتماعي، في بعض الأنماط المحدّدة من أنماط الشخصيّة ،حتى وإن لم يتلاءم الفرد معها إلاّ بصورة نسبيّة ” Sapir, 1967), p.75 )
وإذا كانت المفاهيم العلمية الأولى، تصف سلوك الإنسان وتربطه بعدد من الدوافع والسمات العامة، فإنّ العلم الحديث يؤكّد أهميّة العوامل النفسية والاجتماعية والقيم السائدة في المجتمع، التي تظهر في هذا السلوك .
فالثقافة إذن ترتبط بالشخصيّة، حيث تكوّن رافداً أساسياً من روافد هذه الشخصيّة وتحدّد سماتها. ولذلك، فإنّ دراسة الثقافة والشخصيّة، تمثّل نقطة التقاء بين علم النفس وعلم الإنسان (الأنثربولوجيا ). فلا يمكن فهم أي شخص فهماً جيّداً، من دون الأخذ في الاعتبارات الثقافية التي نشأ عليها. كما لا يمكن فهم أي ثقافة إلاّ بمعرفة الأفراد الذين ينتمون إليها ويشاركون فيها، وتتجلّى بالتالي في سلوكاتهم الملحوظة، حيث تبدو تأثيرات الثقافة على الفرد في النواحي التالية :
1– الناحية الجسمية : إنّ الثقافة السائدة لدى شعب من الشعوب، كثيراً ما تجبر الفرد – بما لها من قوّة جبرية وإلزام، وسيطرة مستمدّة من العادات والقيم والتقاليد- على أعمال وممارسات قد تضرّ بالناحية الجسمية ضرراً كبيراً. فعلى سبيل المثال : كانت العادات لدى بعض الطبقات المرفهّة في الصين، أن تثنى أصابع الطفلة الأنثى، وتطوى تحت القدم، وتلبس حذاء يساعد في إيقاف نموّ قدمها ويجعلها تمشي مشية خاصة. فعلى الرغم من التشوّه الذي يحصل للقدم، فقد كانت تلك المشية بالإضافة إلى صغر القدم، من أهم دلائل الجمال .
2– الناحية العقلية : لا شكّ في أنّ الثقافة بأبعادها المادية والمعنوية، تؤثّر تأثيراً فاعلاً في الناحية العقلية للشخصيّة، ولا سيّما من الجانب المعرفي / الفكري. فالفرد الذي يعيش في جماعة (مجتمع) تسود ثقافتها العقائد الدينية أو الأفكار السحرية، تنشأ عقليته وأفكاره متأثّرة بذلك. فالمعتقدات التي تسود في المجتمع الهندي أو الصيني، غير تلك المعتقدات التي تسود في المجتمع الأمريكي أو العربي، وبالتالي فإنّه من الطبيعي أن يتأثّر الفرد سواء في المجتمع البدائي، أو في المجتمع المتحضّر، بثقافة مجتمعه، ولا سيّما عن طريق الأسرة، باعتبار أنّ من أهمّ وظائف الأسرة، مساندة التركيب الاجتماعي وتأييده .
3– الناحية الانفعالية : يتضمّن الجانب الانفعالي، ما لدى الشخص من الاستعدادات والدوافع الغريزية الثابتة نسبياً، والتي يزوّد بها منذ تكوينه وطفولته. وتعتمد على التكوين الكيميائي والغددي والدموي، وتتّصل اتصالاً وثيقاً بالنواحي الفيزيولوجية والعصبية. وتؤكّد الدراسات الأنثروبولوجية، أنّ للثقافة دوراً كبيراً في تربية مزاج الشخص وتهذيب انفعالاته، وإن لم يكن لها الدور الحاسم في ذلك. فكثيراً ما نجد شخصاً قد ورث في تكوينه البيولوجي، عوامل (استعدادات) تثير لديه الغضب، لكنّ التنشئة الاجتماعية / الثقافية، ونبذ المجتمع لتلك الصفة، يجعله يعدّل من سلوكه.
4– الناحية الخُلُقية : تستند إلى الناحيتين العقلية والانفعالية، باعتبارهما المواد الخام التي تبنى عليها الصفات الخُلُقية. ولذا فإنّ الأخلاق السائدة في المجتمع، هي الحصيلة الناتجة من تفاعل القوى العقلية والانفعالية، مع عوامل البيئة. أي أنّ النواحي الأخلاقية أكثر قرباً إلى العوامل البيئية، والوسط الاجتماعي والثقافة المهيمنة على الشخص. فلكلّ ثقافة نسق أخلاقي خاص ينساق فيه الفرد، متأثّراً بالمعايير الأخلاقية السائدة من ناحية الخير والشر، والصواب والخطأ، وما يجوز وما لا يجوز، وإن كانت هذه المعايير نسبيّة تختلف في معانيها ودلالاتها من مجتمع إلى مجتمع آخر. ولذلك، فالجنوح عن تلك المعايير، أمر نسبي .. والسلوك الشاذ في ثقافة ما، قد يكون سلوكاً عادياً بالنسبة لمعايير وقيم ثقافة أخرى. فالسرقة مثلاً : تعدّ من الجرائم في المجتمعات الحديثة، ولكنّها كانت مباحة عند كثير من الشعوب البدائية والقديمة، حتى أنّها كانت نوعاً من أنواع البطولة. (الساعاتي، 1983، ص 213-218)
ويتّفق الأنثروبولوجيون النفسيون على حدوث تغيّرات في الشخصيّة العامة للمجتمع عبر الزمان، ولكن معدّلات تلك التغيّرات تختلف تبعاً لتأثير عوامل متنوّعة ومتشابكة، ومن أهمّها التغيير الثقافي .. ويتّجه الرأي العام إلى التعميم، بأنّ تغيّر شخصيّة المجتمع يسير بمعدّل أبطأ من معدّل التعيير الثقافي، وهذا ما يتّضح عبر الأجيال.
فاختلاف شخصيّات الأبناء عن شخصيّات الآباء، من الظواهر النفسيّة التي تبرز بوضوح في المجتمعات المتمدّنة، والتي تميّز بوضوح عملية التغيّر الثقافي. ولذلك ترى / مارغريت ميد / عالمة الاجتماع الأمريكية، أنّ كلّ عضو (فرد) في كلّ جيل يسهم – من الطفولة وحتى الشيخوخة – في إعادة شرح الأشكال الثقافية، وبالتالي يسهم أعضاء المجتمع في عمليّة التغيّر الثقافي. ولكن يجب ملاحظة أنّ التغيّرات الثقافية التي تصطدم بالشخصيّة العامة للمجتمع، يكون مآلها الفشل في أغلب الأحيان. وهكذا، فإنّ التأثير متبادل بين الثقافة والشخصيّة، وذلك بالنظر لحدوث تغيّر في أحدهما أو في بعضهما معاً. (وصفي، 1975، ص 105 )
وإذا كان ثمّة فرق ما بين الشخصيّة والثقافة، فإنّ ذلك يعود إلى الفرق في الأسس التي تقوم عليها كلّ منهما. فالشخصيّة تعتمد على دماغ الفرد وجهازه العصبي، ودورة حياتها ما هي إلاّ مظهر من مظاهر دورة حياة الجسم الإنساني. أمّا الثقافة، فتستند إلى مجموع أدمغة الأفراد الذين يؤلّفون المجتمع ..
وبينما تتطوّر هذه الأدمغة كلّ بمفرده وتستقرّ ثمّ تموت، تتقدّم دوماً أدمغة جديدة لتحلّ محلّها. ومع أنّه توجد حالات كثيرة من المجتمعات والثقافات التي طمستها قوى خارجة عنها، إلاّ أنّه من الصعب أن نتصوّر أن المجتمع أو ثقافته، يمكن أن يموت بسبب الشيخوخة. (لينتون، 1964، ص 387 )
فتأثير الثقافة قوي وفاعل في الحفاظ على النسق الاجتماعي السائد، ويتجلّى ذلك فيما تقدّمه إلى إفراد المجتمع في الجوانب التالية : (عفيفي، 1972، ص 141)
11- توفّر الثقافة للفرد، صور السلوك والتفكير والمشاعر، التي ينبغي أن يكون عليها، ولا سيّما في مراحله الأولى، بحيث ينشأ على قيم وعادات تؤثّر في حياته، بحسب طبيعة ثقافته التي عاش فيها .
22- توفّر الثقافة للأفراد، تفسيرات جاهزة عن الطبيعة والكون وأصل الإنسان ودورة الحياة .
33- توفّر الثقافة للفرد المعاني والمعايير التي يستطيع أن يميّز – في ضوئها- ما هو صحيح من الأمور، وما هو خاطىء.
44- تنمّي الثقافة الضمير الحيّ عند الأفراد، بحيث يصبح هذا الضمير – فيما بعد- الرقيب القوي على سلوكاتهم ومواقفهم .
55- تنمّي الثقافة المشتركة في الفرد، شعوراً بالانتماء والولاء، فتربطه بالآخرين في جماعته بشعور واحد، وتميّزهم من الجماعات الأخرى .
66- وأخيراً، تكسب الثقافة الفرد، الاتجاهات السليمة لسلوكه العام، في إطار السلوك المعترف به من قبل الجماعة.
إنّ ردود فعل الفرد تجاه النظام، هو الذي يؤدّي إلى نموذج السلوك الذي ندعوه ” الشخصيّة “. وتصنّف النظم في أنظمة أولية ونظم ثانوية. فالنظم الأولية : تنشأ عن الشروط التي يمكن أن يتحكّم فيها الفرد، (كالغذاء والعادات الجنسية، وأنظمة التعليم المختلفة ). أمّا النظم الثانوية : فتنشأ من إشباع الحاجات وانخفاض التوتّر الناجم عن النظم الأولية. مثال ذلك : اعتقاد بعض الشعوب بآلهة، تطمئن القلق الناجم عن حاجة هذه الشعوب إلى تأمين موارد غذائية دائمة.إنّ ما يميّز هذا الرأي عما سبقه، هو صفته الديناميكية، لأنّ بنيان الشخصيّة الأساسية ينتج عن تحليل النظم الاجتماعية، وتحليل أثرها على الأفراد في ثقافة بعد أخرى. (هرسكوفيتز، 1974، ص51)
ولذلك يلاحظ أنّه عندما تختلف الثقافة يتبعها اختلاف في أنماط السلوك. فإنسان العصر الحجري القديم يختلف عن إنسان العصر الحجري الجديد، ويختلف أيضاً عن إنسان العصر البرونزي والعصر الحديدي. فالإنسان الذي يستخدم الأدوات البدائية كالأحجار والعظام والخشب، ويأكل البذور والجذور والحشرات والطيور، ويخاف من النار، لا يتوافق ثقافياً مع الإنسان الذي يستخدم الكهرباء أو يتحكّم بالآلات عن بعد، ويأكل الطعام من المطبخ ويتفنّن في صنع الأنواع المختلفة منه، وغير ذلك. وحتى في هذا العصر، فالإنسان الذي يعيش في دولة متحضّرة وتختلف ثقافته عن ثقافة الإنسان الذي يعيش في دولة نامية، فإنّ سلوك الأوّل – ولا شكّ – يختلف عن سلوك الثاني، تبعاً للزاد الثقافي الذي تزوّدت به شخصيّته. (غالب، 1991، ص 103 )
وقد أدّى التخلّي عن الفرضيّة التطوّرية التي استغلّها العلماء الأنثروبولوجيون الأوائل ،فيما بعد، إلى تسهيل الدمج بين الأسلوبين : الأنثروبولوجي والسيكولوجي،.. والواقع أنّ الفرضية (النظرية) التطوّرية تلاشت، وحلّ محلّها مفهوم الثقافات بوصفها وحدات وظيفية متكاملة، كما ظهر الاتّجاه إلى دراسة المجتمعات البدائية باعتبارها كيانات قائمة بذاتها، وهذا ما دعا إليه / مالينوفسكي / الرائد الأول لهذه الحركة. (لينتون، 1967، ص 198)
وهكذا يمكن القول : إنّ الثقافة تضفي على حياة الفرد قيمة ومعنى، وتكسب وجوده غرضاً لـه أهميته. وهي بالتالي تمدّ الأفراد بالقيم والآمال والأهداف التي توحّد مشاعرهم وأساليب حياتهم. غير أنّ تشكيل الثقافة للفرد على هذا النحو، لا يعني – بأي حال من الأحوال – إلغاء فرديته، إذ بواسطة الثقافة تنمو إمكانياته وتتحرّر قواه، ويكتسب قدراته المتعدّدة، ويصبح بالتالي قادراً على الاختيار الصحيح والتمييز الواعي. (حسن، 1977، ص 9) هذا مع الأخذ في الحسبان الفروق الفردية بين الأشخاص، من حيث تأثّرهم بالثقافة أو تأثيرهم فيها .
لقد ناقش العلماء طويلاً فيما إذا كان عالم الأنثروبولوجيا، يستطيع دراسة الشخصيّة في المجتمعات البدائية، دون أن يخضع – هو نفسه- للتحليل النفسي. ولم يدر حديث طويل عمّا إذا كان يجب على عالم التحليل النفسي الذي يهتمّ بالدراسة المقارنة للثقافات، أن يحصل على معلومات مستمدّة من خبرة مباشرة بالمجتمعات التي تختلف عن مجتمعه اختلافا ًتاماً، في الجزاء والأهداف وأنظمة الحوافز والضبط الاجتماعي .
فالواقع أنّ القليل من علماء التحليل النفسي، الذين أبدو اهتمامهم بهذه المشكلات، أجروا بأنفسهم أبحاثاً ميدانية لاختبار نظرياتهم بين جماعات، تقع خارج نطاق الثقافات / الأورو- أمريكية /. وهذا ينطبق أيضاً– وإلى حدّ ما- على علماء النفس التقليديين، الذين يتناولون بالبحث سيكولوجية الثقافة، وعلى العلماء الذين يستخدمون طرائق ومفاهيم المدرسة التحليلية .( هرسكوفيتز، 1974، ص 57)
غير أنّ مجرّد الإقرار بأنّ تركيبات الشخصيّة الأساسية تختلف باختلاف المجتمعات، لا يحقّق تقدّماً أكثر من مفهوم النمط الثقافي السيكولوجي .ولا يكتسب هذا الإقرار أهميّة علميّة إلاّ إذا أمكننا تقصّي طريق تكوّن الشخصيّة الأساسية، وإرجاعها إلى أسباب يمكن التعرّف إليها ،.. وإذا أمكننا أيضاً التوصّل إلى تعميمات هامّة بشأن العلاقة بين تكوّن التركيب الأساسي للشخصيّة، وبين الإمكانات الفرديّة الخاصة في مجالات التكيّف. (لينتون، 1967، ص 200)
وممّا يلاحظ أنّ سيكولوجية الشخصيّة، سارت في خطّ تطوّري يكاد يكون مماثلاً لخط تطوّر الأثنولوجيا. فقد وقع هذا الفرع في بادىء الأمر، تحت تأثير العلوم الطبيعية، فحصر اهتمامه في الفرد، وحاول تفسير أوجه التشابه والفروق الفردية على أسس نفسيّة. ومع أنّ علماء النفس سرعان ما أدركوا أهميّة البيئة في تشكيل الشخصيّة، فإنّ فائدتها اقتصرت – في البداية- على استخدامها في تفسير الفروق الفردية.
لقد اعتمد الباحثون النفسيون – في الواقع- على نتائج ملاحظاتهم المحدودة، كما لو أنّها قضايا مسلّم بصحّتها، فافترضوا وجود غرائز عامة متنوّعة لتعليل ما لاحظوه من ظاهرات .. ثمّ تبيّن لهؤلاء العلماء أنّ معايير الشخصيّة تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات، فكان هذا الاكتشاف بمنزلة صدمة اضطرّتهم إلى اتّخاذ خطوات جذرية لإعادة تنظيم مفهوماتهم. (لينتون، 1967، ص 30)
ولذلك، فإنّه على الرغم من أنّ الشخصيّة ليست في واقع الحال، إلاّ نتاجاً للعوامل الثقافية في المقام الأول، فإنّ الفرد ينزع – من خلال تجربته الثقافية – إلى تبنّي الشخصيّة النموذجية التي ترغب فيها جماعته. ولكنّ نجاح ذلك لا يتحقّق بالكامل أبداً، لأنّ بعض الأشخاص أكثر مرونة من غيرهم، وبعضهم الآخر يقاوم عملية التثقيف أكثر من غيره .
وهنا يمكن أن نميّز بين ثلاث طرائق في بحث التفاعل بين الفرد وبين وسطه الثقافي.
الطريقة الأولى : هي طريقة “الأشكال الثقافية “، التي تسعى إلى تحديد الأنماط السائدة في الثقافات، والتي تحبّذ نمو بعض نماذج الشخصيّة .
الطريقة الثانية : هي طريقة ” الشخصيّة النموذجية ” التي تؤكّد ردود فعل الفرد تجاه الوسط الثقافي الذي ولد فيه. وهي طريقة أثنولوجية في أساسها، لأن المرجع فيها دائماً هو النظم الاجتماعية، والأنماط الثقافية، التي تشكّل الأطر التي ينمو بداخلها بنيان الشخصيّة السائد لدى الجماعة. فهي تركّز اهتمامها على الفرد، معتمدة على تطبيق التحليل النفسي على الدراسة المقارنة لمشكلات ٍٍأوسع، تتمثّل في مشكلات التلاؤم الاجتماعي.
الطريقة الثالثة : هي ” طريقة الإسقاط Projectionn” التي تستخدم طرائق الإسقاط المختلفة في التحليل، ولا سيّما مجموعة / رورشاخ / من بقع الحبر، وذلك لتحديد نطاق بنيان الشخصيّة في مجتمع معيّن. وفي هذه الطريقة يتمثّل كل من الفرد والثقافة. ولا شكّ في أنّ استخدام اختبار موحّد ترجع إليه النتائج كلّها، يزوّد بأداة منهجيّة لمعرفة بيان شخصيّة أفراد جماعة ما، في ضوء تثقيفهم على النظم الاجتماعية والقيم في ثقافتهم. (هرسكوفيتز، 1974، ص 47-48)
فالثقافة لا تؤثّر في أفراد المجتمع جميعهم، بطريقة واحدة، ولهذا يمكن أن يقسم تأثير الثقافة في الفرد إلى فئتين أساسيتين :
أولهما – التأثيرات العامة : وهي التأثيرات التي تحدثها الثقافة في الشخصيات المتطوّرة، من جميع أعضاء المجتمع الذي ينتمي إلى هذه الثقافة .
وثانيهما-التأثيرات الخاصة : وهي التأثيرات التي تحدثها الثقافة في أشخاص، ينتمون إلى جماعات أو قطاعات، أو فئات معيّنة من الأفراد، يعترف المجتمع بوجودها. (ناصر، 1985، ص 79)
وعلى الرغم من ذلك، يصبح الجميع – بوجه الإجمال – متشابهين إلى حدّ يكفي لأن يجد المرء – إذا ما طاف حول العالم – أنّ الناس يختلفون بعضهم عن بعض، من مجتمع إلى آخر، تبعاً لاختلاف الثقافات الواحدة عن الأخرى. ولكن بينما يسعى الأفراد إلى نيل الموافقة والحصول على الطمأنينة، ويحاولون الامتثال لأنماط السلوك التي تقرّها الجماعة أو التفوّق على أقرانهم، فإنّ ثقافتهم تحدّد لهم الأهداف التي ينشدونها وطرق الوصول إليها. وهذا هو موضع اهتمام (سيكولوجية الثقافة Psychology of Culture، أو السيكو أثنوغرافيا Psychoethnography، وهو دراسة الفرد من خلال السياق التثقيفي الذي يؤدّي إلى تلاؤمه مع قواعد السلوك القائمة في مجتمعه عندما يصبح عضواً فيه. (هرسكو فيتز، 1974، ص 39و41) وهنا يكمن جوهر إحدى المشكلات الأساسية في دراسة الثقافة، والمتمثّلة في معرفة تأثير السياق التثقيفي في المجتمع، على نمو الشخصيات الفردية وتطوّرها العضوي والفكري والنفسي.
وبما أنّ الثقافة – في جوهرها – ظاهرة اجتماعية نفسيّة، تعيش في عقول الأفراد، ولا تجد تعبيراً عن نفسها إلاّ عن طريقهم، فإنّ دور الشخصيّات الفردية في الإبقاء على الثقافة يتّضح بصورة جلية جدّاً، في الطريقة التي تتمكّن بها أية ثقافة من البقاء على قيد الحياة، حتى بعد انقطاع التعبير عنها في سلوك خارجي ظاهري، وحتى بعد زوال المجتمع الذي كان يحمل هذه الثقافة في الأصل. ولذلك، يستطيع عالم الأثنولوجيا أن يستعيد العناصر الأساسية لثقافة مجتمع منقرض، من آخر رجل من هذا المجتمع بقي على قيد الحياة. كما يستطيع أن يستعيد المهارات الخاصة التي سبق أن تدرّب عليها هذا الرجل. (لينتون، 1964، ص 384 )
وتأسيساً على ما تقدّم، نجد أنّ ثمّة علاقة وثيقة وتفاعلية بين الثقافة وأبنائها، فهي التي توجّههم في جوانب حياتهم المختلفة، لدرجة أنّهم يتصرّفون بطريقة منسجمة وآلية، في معظم الأحيان. والأفراد في المقابل، يؤثّرون في هذه الثقافة ويسهمون في تطويرها وإغنائها، من خلال نتاجاتهم وإبداعاتهم الفكرية والفنيّة والعلمية. ولذلك، نرى اهتمام علماء التربية والاجتماع والأنثروبولوجية، بدراسة الثقافة للتعرّف إلى السمات العامة للفرد أو الجماعة (المجتمع) في إطار مكوّنات هذه الثقافة، والتعرّف بالتالي إلى أنماط الحياة الاجتماعية للناس، وتفسيرها والتمييز فيما بينها .
**

المصادر :

– الساعاتي ،سامي حسن (1983) الثقافة والشخصيّة، دار النهضة،بيروت .
– سكينر، ب. ف (19800) تكنولوجيا السلوك الإنساني، ترجمة : عبد القادر يوسف، عالم المعرفة (32) الكويت .
– صليبا، جميل (1971) المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
– عفيفي، محمد الهادي (19722) في أصول التربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة .
– غالب، مصطفى (1991) السلوك، دار الهلال، بيروت .
– الغامري، محمد حسن (19899) المدخل الثقافي في دراسة الشخصيّة، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية .
– كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد
– لينتون، رالف (19644) دراسة الإنسان، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
– لينتون، رالف (19677) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
– محمد غنيم، سيّد (19977) سيكولوجية الشخصيّة، دار النهضة العربية، القاهرة .
– مجموعة من الكتّاب (19977) نظرية الثقافة، ترجمة : علي الصاوي، عالم المعرفة
(223)، الكويت .
– المصري، علي (19900) نظرية الشخصيّة، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت.
– ميلاد، محمود (1997) علم نفس الاجتماع، وزارة التعليم العالي، دمشق.
– ناصر، ابراهيم (19855) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي، عمّان –
الأردن .
– هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (10744) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
– وصفي، عاطف (1975) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر .
– Barnuow , V. (1972) Cultural Anthropology, Homewood Illiois ,
Irwen Incc.

– Morin , Edgar (1969) De La Culture – Analyse a La politique Culturelle, Communication, No: 14 , Paris .
– Spradley, James (1973) Culture and Cognation, Chandle Publishing Company, san Francisco .
– Sapir, Edward (1967) Anthropologies , Minuit, Col, Points, Paris .

المصدر: موقع أرنتروبوس

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى