كيف يمكن لتناقضاتنا أن تجعلنا إنسانيين وأن تحفزنا على الإبداع – ديفيد بيرلينر
هل فكرت يومًا بكمية الأفكار المتناقضة التي تجول بعقلك كل يوم؟
كم مرة عارضت أفكارك تصرفاتك؟ كم مرة تغلبت مشاعرك على مبادئك ومعتقداتك؟ إننا غالبًا لا نرى تناقضاتنا؛ لكن من الأسهل أن نرى هذه التناقضات في غيرنا. لكنك مليء بالتناقضات، كما هو حالي أنا. فنحن بنو البشر مخلوقين من التناقضات، نعيش مع أنفسنا المتناقضة بسلام حينا وبألم أحيانا أخرى. لقد كانوالت وايتمان على حق عندما كتب ” أغنية نفسي”:
“هل أنا أناقض نفسي؟
حسنًا، أنا أناقض نفسي.
أنا كبير، أنا أحوي حشودا”.
فكّر في شرائك للأجهزة الكترونية بينما أنت تعارض عمالة الأطفال والنفايات البيئية، أو فكر في إدانتك للسرقات ومن ثمّ تنزيلك للموسيقى والأفلام على جهازك بشكل غير قانوني. فكّر في أولئك الذين يُسهبون في الحديث عن احترام خصوصية الحياة، وبعد دقيقة تجدهم قد نشروا صورة خاصة على فيسبوك. هناك أيضًا حماة البيئة الذين يطيرون باستمرار، والتجار الذين يهتمّون بالفقر، والكهنة الذين فقدوا إيمانهم. يتذكّر سبستيان ماروكوين عندما كان والده يغني له التهويدات قبل أن يغط في النوم، والده هذا هو بابلو إسكوبار؛ سيّد المخدّرات وأعظم قاتل في تاريخ كولومبيا. لربما كان عيش حياة متناقضة هو في عمقه، بل وفي نهائيّته، سمة إنسانيّة.
يقول المؤرخ النسوي الأمريكي جوان والاتش أن ما يميز المفكر الحاسم هو ” قدرته على الإشارة إلى التناقضات”، لكن لا يخلو المفكرون النقديون من التناقضات هم كذلك. يصف الفيلسوف الفرنسي فرانسوا نودلمان في كتابه “العبقرية في الكذب” تناقضميشيل فوكو الذي يتحدث عن ” شجاعة الحقيقة ” بينما هو يخفي مرضه القاتل، وكذلك المفكر جان بول سارتر الذي لعب دورًا غامضا في عهد حكومة فتشي.
وقد جعل بعض الأكاديميين المتعولمين اليوم من نقد الرأسمالية تجارة مربحة. قد تكون التناقضات عاملا مهما لتحفيز الإبداع الفكري. في حين يكافح معظم الناس في سبيل الحفاظ على شعور بالوحدة النفسية، فإن التناقضات تنتج تصدّعات مسبّبة لزعزعة الاستقرار النفسي. تقوم هذه التصدعات بتغذية الإلهام الإبداعي – سواء كان ذلك بوعي أو دون وعي – والذي يمكن تفسيره على أنه وسيله لحل أو تهذيب التناقضات الداخليّة، وأعتقد أن هذا ينطبق على جميع مجالات الإبداع. لربما لم يكن لصبح أي من الفن والأدب والعلوم والفلسفة ممكنا لولا التناقضات النفسية لدى الشخص ورغبته في حلها.
هل هناك أي شخص يعيش على مبدأ بلوتارخ الرواقي، أي: في “توافق تام بين ثوابت الأشخاص وبين سلوكياتهم”؟ كلا، لكن هذا لا يسبّب الأزمات دائما. إننا تقوم بتجزئة المعرفة والممارسات والعواطف، فنتقبّل بعض السلوكيات والأفكار في مجالات معيّنة في الحياة دون غيرها. قد ننظر مثلا إلى الكذب باعتباره عملا بطوليا عند القيام به لحماية الضحايا من نظام وحشي، لكنه في العلاقات الودية أمرٌ لا يمكن احتماله. يمكن للعلماء في المختبرات إنتاج أبحاث مبنيّة على أدلة من سياق حياتهم المهنية ومن ثم العودة إلى ديارهم لحضور صلوات دينية تعالج وجود كيانات غير مرئيّة.
يعيش البشر بسلام مع التناقضات، ويرجع هذا تحديدا إلى قدرتهم على التجزئة. عندما تقفز التصريحات والتصرفات والعواطف المتناقضة خارج الصندوق السّياقي فإننا جيدون -ربما أكثر من اللازم- في إيجاد المبررات لتخفيف التنافر المعرفي. كنت قد أخبرت أحد أصدقائي من حماة البيئة أن التدخين ليس عملا بيئيا، لكنه اعتاد أن يقول: “أعلم هذا يا ديفيد! لكنّني أدخن سجائر ملفوفة”، كما لو أنّ السجائر الملفوفة أقل سمّيةً من السجائر المصنّعة أو لا تعتمد على صناعة استغلال التبغ المدمّرة – التي يدينها هو بالطبع -.
تنتشر التناقضات في كل جانب من جوانب حياتنا الشخصية، وتظهر بوضوح أكثر عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات القوية مثل الإيمان والأخلاق والتشدد وهلمّ جرا. يؤمن معظم الناس في دولتي غينيا ولاوس -حيث أجريت أبحاثي الاثنوجرافية- بوجود كيانات روحية يمكنها تحوليهم إلى حيوانات أو نباتات أو جمادات أو حتى لأن تجعلهم غير مرئيين، وكل هذا دون أدنى اهتمام بالتناقض. كذلك تصوّر ثقافتنا الشعبية “الزومبي” وهي كائنات حية وميتة في الوقت ذاته، كما تصور روبوتات بمشاعر بشريّة تماما. إن عقولنا تمتلئ حقا بكل تلك الكيانات المتشبّعة بالتناقض، والتي تتحدّى “مبدأ عدم التناقض”. في حين يعتقد المرء استحالة أن تكون A ولا-A في الوقت نفسه؛ إلا إن البشر يعشقون الكيانات ذات الخصائص المتضاربة. وكما أثبت علماء النفس المعرفي فإن مثل هذه التناقضات تجذب العقل البشري بشكل خاص، إذ إنها تتحدى جوهر التوقعات الوجودية التي نملكها عن الحيوانات والآثار والأشخاص، ونتيجة لذلك فإن لديها بروز معرفي مهم وجدير بالذكر.
تصبح الأمور أكثر تعقيدًا عندما يخرج المرء عن حدود الذات. يتكون التواصل الإنساني من مناورات خفيّة بين التناقضات، مثال على ذلك هو التناقض بين ما يُقال وبين ما يُعبر عنه عن طريق الإيماءات والأسلوب. وكفرد فإن المرء يسعى باستمرار إلى تفسير الرسائل المتناقضة لمن يحاورهم، وإلى فك السلوكيات المتضاربة التي يلاحظها في الحياة الاجتماعية. (كتب الأنثروبولوجي الإنجليزي جريجوري باتيسون هو زملاؤه في مجموعة بالو ألتو بكاليفورنيا عن هذه الظواهر بوضوح كبير).
هناك حالات اجتماعية تجعل المرء عالقًا في أوامر متناقضة. على سبيل المثال، عندما يأمر المعلم طلابه قائلا “كونوا عفويّين!”. وأسوأ السيناريوهات التي تنطوي على هذا “المأزق المزدوج” هي تلك التي ينحشر فيها الرُضّع في المطالب العاطفية المتناقضة لوالديهم. لكن هناك العديد من الحالات “غير المَرَضيّة” كما يصفها علماء الأنثروبولوجيا، وذلك مثل الطقوس التي يتم فيها أداء تلك التناقضات وتقديرها باعتبارها وسائل تواصل. خذ مثلا الشعيرة اليهودية القديمة “اللطم” التي تؤدّى عند مرور الفتاة بأوّل حيض لها. عندما كانت الفتاة في الماضي -عند يهود أوروبا الشرقية- تقول لوالدتها أنها حاضت فإن أمّها تصفعها بشدة على وجهها، وتهتف في الوقت ذاته قائلة “مازِل تف” أي: تهانينا! هنا تشكّل الطبيعة المتناقضة لهذه الرسائل أساس الطقوس، كما تكوّن العناصر اللازمة لكفاءتها. في كتابه “وعود، وعود”؛ يصف المحلل النفسي آدم فيليبس – بناءً على الشاعر جون كيتس – ثلاثة صفات سلبية لا غنى عنها لكي يصبح الإنسان ناضجا، وهي تجربة أن يكون: مزعجا ومتخبّطا وعاجزا. أود إضافة شيء آخر لتلك القائمة، ألا وهو: القدرة على اكتشاف تناقضاتنا وتقبّلها، حتى وإن كنّا نكافح أحيانا من أجل التخلي عنها.
ديفد بيرلاينر هو أستاذ الأنثروبولجيا بجامعة “libre de Bruxelles”، وهو مهتم بالبحث في الذاكرة الاجتماعية والتحول الثقافي. يعيش السيد ديفد في بروكسل.
المصدر: موقع حكمة
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة