منذ بدأت أفكار نظرية ما بعد الحداثة postmodern theory تترسخ في الثمانينيات، أصبح لها تأثير كبير على العلوم الاجتماعية. في الثمانينيات، جلبت النظرية الاجتماعية إليها بعض المفاهيم النظرية من النقد الأدبي، مثل التفكيك deconstruction وغير ذلك من النظريات المستندة إلى الخطاب، والرامية إلى التفسير النصّي. لكن الأفضل أن نشير إلى “انعطافة” ما بعد حداثية في العلوم الاجتماعية المعاصرة؛ لأن العديد من الأكاديميين الذين تأثروا بهذه المسارات الفكرية يستدعون مصطلح ما بعد الحداثة. على ذلك، فالكثير من المعنيين بالعلوم الاجتماعية المعاصرين يعترفون بفضل المناهج التفكيكية للتفسير النصّي وبفضل الرفض التفكيكي (أو ما بعد البنيوي poststructuralism) للنظريات الغائية teleological (أو “السرديات الكبرى”) ومفهوم الذات الإنسانية المتماسكة الثابتة.
كتابات جوديث باتلر عن الطبيعة غير المستقرة و”المبنية” للهوية الجنسية والجندرية لعبت دوراً مهماً في إدخال مفاهيم ما بعد حداثية إلى النظرية الاجتماعية والعلوم الاجتماعية. إلا أن باتلر نفسها ترفض مصطلح “ما بعد الحداثي”، زاعمة أنها لم تزد عن استخدام التقنيات التفكيكية من أجل فهم أفضل “للبناء الخطابي” للهوية. مفاهيم ما بعد الحداثة من قبيل طبيعة “الهوية” “المختلطة” و”المتعددة” و”غير الثابتة” كان لها أبلغ الأثر على الدراسات الثقافية والجندرية وما بعد الكولونيالية، وإن أثرت أيضاً على الأنثروبولوجيا (مثال: جيمس كليفورد) ونظرية العلاقات الدولية (مثال: جيمس دير ديريان).
الكثير من المعنيين بهذه المجالات يرفضون التفسيرات السلوكية والبنيوية والتفسيرية (الهرمنيوطيقية) للعلاقة بين الأفراد والمجموعات والبناء الاجتماعي، ويفضلون بدلاً منها تحليلاً لطبيعة الظواهر الاجتماعية “منزوعة المركزية” و”المحلية” و”المتشظية”. النظرية الاجتماعية ما بعد الحداثية ترفض هدف العلوم الاجتماعية التقليدي المتمثل في فهم العلاقات السببية بين الظواهر الاجتماعية. كما ترفض طموح العلوم الاجتماعية إلى فهم واستيضاح التفسيرات العليا أو “الضيقة” للسلوك الإنساني. في الفهم الما بعد حداثي، لا يوجد تفسير “جاهز” “للنص” قادر على أن يكون أكثر “حقيقية” من غيره. في الواقع، فإن بعض ما بعد الحداثيين يشيرون إلى مفهوم “الحقيقة” بصفته “إرهابي الطابع”، إذ أن “الحقيقة” لا يمكنها الدفاع عن نفسها إلا من منطلق “إقصائي” قمعي.
تعد ما بعد الحداثة طيعة للبحث في العلوم الاجتماعية، وهي في الوقت نفسه تقدم نقداً قياسياً normative للحداثة modernity. بحسب ما بعد الحداثة، فإن بحث التنوير عن الفهم العقلاني القادر على إثراء وتحسين الحالة الإنسانية، هو دائماً مصحوب بـ “سرديات كبرى” للتاريخ متحيزة أو مزيفة، وتستند إلى مفاهيم “ضرورية” و”عالمية” و”ثابتة” للطبيعة الإنسانية. بناء على تحليل جان فرانسوا ليوتار في “الوضع ما بعد الحداثي” (1984)، يرفض ما بعد الحداثيون سعي التنوير إلى نظريات “شاملة” تقدم سرديات “عالمية” للدوافع والتجارب الإنسانية. بناء على كتابات ميشيل فوكو، تزعم نظرية ما بعد الحداثة أن هذه “السرديات الكبرى” عززت جهود التنوير على مسار “تطبيع/قياس” البشر من خلال مؤسسات “حوكمة” بيروقراطية وقمعية (مثال: منظمات تابعة للدولة وغير تابعة للدولة، مثل مستشفى الأمراض العقلية، “تصنف” البشر).
ما بعد الحداثة والتفكيكية بحسب ما بعد الحداثيين، فإن النظريات الاجتماعية التي تزعم “تمثيل” الواقع تخفق في فهم أن ليس للبشر قدرة على الوصول السلس إلى “الواقع”. المفاهيم الإنسانية الخاصة بالواقع reality هي دائماً نتاجاً لتفسيرات ذاتية subjective. الإعلام والتكنولوجيا الحديثة تحرم الناس من القدرة على فهم وتمييز المؤلف الأصلي للحدث، أو التمييز بين الأصلي والتقليد. في عام 1936 حاجج فالتر بنجامين بأن في عصر “إعادة الإنتاج الميكانيكي” فمن المستحيل تقريباً التمييز بين الأصل والنسخة. ومن بعده، قال منظرون ما بعد حداثيون مثل جان بودريار بأن الواقع نفسه ليس إلا محاكاة simulacrum (نسخة من نسخة). في عالم الصورة الكوربراتية والواقع الافتراضي، لا يمكن للمرء تحديد ما هو الأصلي وما هو التقليد، ما هو الحقيقي وما هو المزيف. عندما تسمح الحواسب للناس بأن “يعيشوا” في الفضاء الافتراضي، فإن مفاهيم الواقع والزمن والمكان/الفضاء نفسها تصبح متنازع عليها وغير مستقرة أو واضحة. من ثم، فمحاولات تفسير “الجوهري” أو الطبيعة الحقة للظواهر الاجتماعية تعتبر إنكار لواقع مفاده أن العالم ليس إلا صورة متغيرة باستمرار.
تعتمد النظرية الاجتماعية ما بعد الحداثية Postmodern social theory بقوة على نقد جاك دريدا والتفكيكية للبنيوية. الأنثروبولوجيا البنيوية التي أنتجها كلود ليفي شتراوس والماركسية البنيوية التي أنتجها ألتوسير (التي تحقق في الدور البنيوي الذي لعبته الطبقة في الاقتصادات والأيديولوجيا الرأسمالية) هيمنت على الحياة الثقافية الفرنسية في الستينيات. كل من هذين المنظّرين اعتمدا على نظريات اللغات البنيوية لفرديناند سوسور التي ظهرت في مطلع القرن العشرين. رأى سوسور أن معنى خطاب بعينه أو لغة بعينها تكوّنه بنية قواعد اللغة grammar (بمعنى العلاقة المبنية بين الدال والمدلول عليه التي تؤدي إلى معنى الشيء). لكن دريدا (1972) رأى أن العلاقة بين الدال والمدلول عليه غير مستقرة بطبيعتها. بالنسبة لدريدا فإن “المعنى” يشتمل على الهوية (ما هو) ويشتمل أيضاً على الاختلاف (ما ليس هو). من ثم فإن ما بعد الحداثيين يرون أن أية محاولة لـ “تثبيت” معنى سوف تؤدي إلى محاولات قمعية للقضاء على “الآخر” الحتمي في الواقع الإنساني.
لتفادي إقصاء دور الاختلاف، ترفض العلوم الاجتماعية المتأثرة بما بعد الحداثة “الثنائيات المتضادة” التي يُزعم أنها أساس وسند الفلسفة الغربية: الذات-الموضوع، الرجل-المرأة، الواقع-المظهر، العقل-العاطفة، الخطاب-الكتابة. من هذا المنطلق فإن مجهود التمثيل representation والتحليل السببي ينطوي على استبعاد وتقليل من شأن الشق “الأدنى” في المصطلح “الثنائي” الذي يُنظر إليه عادة بصفته غير عقلاني أو عاطفي. هذا الرفض للثنائيات المتضادة بصفته قمعي و”مُلزم بالقياس” كان له أبلغ الأثر على النظرية النسوية المعاصرة ونظرية العرق النقدية، التي تحذر من “فرض” الجندر والعرق وتقديمهما من منطلق “يجب” و”بالضرورة كذا”. هذه الدراسات للهوية تركز على “المبني اجتماعياً” و”المختلط” والمتغير دائماً في طبيعة الهوية الفردية والجماعية.
نظراً لغياب علاقة إحالة مستقرة بين الذات والموضوع subject and object، فإن ما بعد الحداثيين يرون أن النظرية الاجتماعية يجب أن تركز على كيف يتم “بناء” الذاتي من قِبل الخطاب نفسه. الفهم ما بعد الحداثي لكيف يعد الذاتي نتاجاً للغة والفكرة يعتمد بشدة على التقاليد الفلسفية المستقاة من فريدريك نيتشه. فضلاً عن ذلك، فإن نقد مارتن هيدجر للفلسفة الغربية في سعيها إلى مفاهيم ثابتة للـ “وجود” ومحاولتها الهيمنة على الطبيعة باسم “الإنسان”، يعد أصلاً من أصول التحليل ما بعد الحداثي الهامة. كما تستند العلوم الاجتماعية ما بعد الحداثية كثيراً إلى مفاهيم فوكو عن خطابات السلطة والمعرفة في فحص كيف ينتج الخطاب الذات. في حين أن كتابات فوكو المبكرة “”الأركيولوجية” عن كيف تقوم الأبستيم (أو نظم الفكر) بالقياس والإقصاء قد أثرت على التحليل ما بعد الحداثي، فإن تحليل الجينولوجي التالي لديه للسلطة بصفتها “منتجة” و”ممكنة” (وليست مبعث إكراه بالأساس) هو الذي أثر أكثر على نقد ما بعد الحداثة للـ “تمكّن/القدرة” “agency”. كما ذكرت جوديث باتلر، فإن التصور المفاهيمي لفرد إنساني متماسك وعقلاني يمارس قدرة واعية، هو تصور يتجاهل حقيقة أن الهويات الإنسانية يُعاد رسمها باستمرار من خلال “نحت تلقائي” مستمر وأدائي للمعايير والخطابات السائدة.
لاكلاو وموفي و”الحركات الاجتماعية الجديدة” يمثل “الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية” (1985) لإرنستو لاكلاو وشانتال موفي نقداً ما بعد بنيوياً مؤثراً للغاية لاستخدام “السردية الكبرى” في العلوم الاجتماعية. مع رفض “الحتمية” الماركسية التي تعتمد على موقع العمال البنيوي في إنتاج الحتمية التفسيرية لـ “وعي ثوري”، يؤكد لاكلاو وموفي على طبيعة الوعي الاجتماعي “الخطابية” والمفتوحة. في الرؤية الماركسية الحتمية، فإن الديمقراطية الاجتماعية والشيوعية السلطوية رأيا أن تقسيم الرأسمالية للعمل يؤدي حتماً (سواء من خلال التنظيم التلقائي التدريجي أو من خلال محركي الثورة الخارجيين) إلى طبقة اجتماعية تُخلق من تلقاء ذاتها وتطالب بالسيطرة الديمقراطية على نمط الإنتاج الرأسمالي. على النقيض من التقاليد الماركسية، يرى لاكلاو وموفي أن الوعي ذاته يُنتج خطابياً ويمثل مجالاً للسياسة متنازع عليه.
بحسب هذا التصور، فالكثير من الرغبة الانعتاقية للديمقراطية جاءت من حركات اجتماعية “جديدة” مرتبطة بالهوية العرقية والجندرية والجنسية. وعي هذه الجماعات ذات الأساس والسند الهوياتي لا يمكن استنتاجه من دورها الاجتماعي في المجتمع. من ثم، فقد اضطر المنظرون الاجتماعيون إلى التخلي عن حركة الطبقة العاملة “القديمة” وبناء نظرية جديدة تعددية وديمقراطية توحد (دون غلبة لطرف على آخر) الخطابات التحريرية للحركات الاجتماعية الجديدة. كان لأفكار لاكلاو وموفي تأثيراً كبيراً على نظرية الحركة الاجتماعية والدراسات ما بعد الكولونيالية.
ما بعد الحداثة ومنتقديها: البحث عن معايير الانعطاف ما بعد الحداثي في العلوم الاجتماعية أدى إلى الكثير من الجدال والاختلاف، وبعضه وجد طريقه إلى الإعلام الجماهيري. كان أبرز هذا الاختلاف هو انتقاد المحافظين الجدد، ومفاده أن التحليل ما بعد الحداثي يهيمن على الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ليمد الطلاب بنقد خطير وعدمي للديمقراطية الأمريكية. من المفارقات أن هذا النقد يضع ما بعد الحداثة والماركسية في سلة واحدة، رغم عدوانية ما بعد الحداثة إزاء الرؤى الكبرى والقوالب الغائية للتحليل الاجتماعي، ومن ذلك الماركسية. بعض المنظرين الاجتماعين الذين ينزعون إلى اليسار يتفقون مع تحليل ما بعد الحداثة بأن تسويق الصور وأساليب الحياة يكمّل جزئياً إنتاج وبيع السلع المادية في الرأسمالية المتأخرة late capitalism. لكن هؤلاء المحللين للرأسمالية المتأخرة (مثل الجغرافي ديفيد هارفي والمنظر الثقافي فريدريك جيمسن) – على النقيض من ما بعد الحداثيين – يقدمون رؤى كبرى وتفسيرات تحليلية لظهور هذه الظواهر. يضعون إنتاج “الصور كسلع” في إطار التجمعات الكوربراتية العالمية المنتجة “للترفيه المعلوماتي” والإعلام وصناعات النشر.
إن رفض ما بعد الحداثة للفهم الواقعي بأن المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية تقيّد خيارات الأفراد قد حدث في وقت شهد تزايد سريع في العنف على مستوى العالم، وفي انعدام المساواة اقتصادياً ومادياً في شتى أنحاء الأرض، وقد أشار بعض الناقدين إلى هذا التزامن. يفسر ما بعد الحداثيين نقدهم للمفاهيم الثابتة “الخطية” للزمن والفضاء بالإشارة المجازية إلى رفض نظرية الفوضى chaos theory للدورية periodicity وإلى ما اكتشفته ميكانيكا الكم بأن الكتلة والقوة والعجلة لا يمكن أن تكون مُحددة سلفاً بمعزل عن بعضها البعض. هذا الرفض ما بعد الحداثي لفهم واقعي “غير تمثيلي” حتى لواقع خارجي مستقل عن التفسيرات النظرية، ساهم في خلق “مسألة سوكال”. ألان سوكال وهو فيزيائي (وماركسي مادي) من جامعة نيويورك، قدم ورقة للدورية الما بعد حداثية “سوشيال تيكست” في عام 1996. مقاله هذا استخدم مفاهيم ما بعد الحداثة بمهارة وفي الوقت نفسه اشتمل على إحالات علمية يسهل على أي طالب للفيزياء أن يرى سخفها وغرابتها. بعد نشر المقال، كشف سوكال عن أن مقاله لم يكن إلا خدعة تهدف إلى كشف جهل ما بعد الحداثيين بالعلم وبطبيعة الواقع المادي في آن. نشرت صحيفة النيويورك تايمز هذه الحكاية في صفحتها الأولى.
يرى بعض المنظرين اليساريين أن الانعطاف نحو ما بعد الحداثة طرأ في اللحظة التي قلل فيها المحافظون من شأن ووجاهة النظرية والممارسة اليسارية. قد نفهم من “السوسيولوجيا المعرفية” للانعطاف نحو ما بعد الحداثة أن في غياب الحركات الاجتماعية الجماعية التي تطالب بسلطة الدولة، فإن الأكاديميين اليساريين ينسحبون إلى النظرية المحضة. وربما كان الرد على هذه الفكرة أن إصرار ما بعد الحداثة على أهمية ما هو صغير ومحلي ومختلط كانت ذات أثر على تضييق المزاعم الإمبريالية بـ “السرديات الكبرى”. بغض النظر عن هذا وذاك، فإن المحاولات التحليلية التي تتبنى مناهج التصورات الكبرى والنظريات الاجتماعية ذات النزوع التاريخي على مسار فهم التفاعل بين القدرة الاجتماعية social agency والبناء الاجتماعي social structure يُرجح أن تبقى تيمة كبرى في نطاق العلوم الاجتماعية. والاهتمام ما بعد الحداثي بمصير الجماعات المهمشة يبدو أنه يدفع النقاش – أخلاقياً – ليتجاوز تركيز ما بعد الحداثة على المحلي والصغير. قد لا يكون للمفاهيم شبه العالمية للمواطنة وحقوق الإنسان للجميع سنداً غير قابل للدحض من طبيعة إنسانية ثابتة، لكن إذا لم يكن البشر قادرون على الوصول لفهم مشترك وقيم مشتركة عابرة لاختلافاتهم، فمن غير المرجح أن يتحقق المشروع الديمقراطي الانعتاقي الذي يتبناه العديد من المنظرين ما بعد الحداثيين.