معلومات ربما لا تعرفها عن “الحوريين” – فاروق إسماعيل
الحوريون هم من شعوب الشرق القديم، كان موطنهم الأم في المناطق المحيطة ببحيرة فان (وان)، شرقي تركية. تعود أصولهم إلى مجموعة الشعوب الهندو – آرية، وربما كانت لهم صلات سابقة بمناطق القفقاس.
اندفعوا نحو الجنوب في مطلع النصف الثاني من الألف الثالث ق.م، وانتشروا في المناطق الواقعة بين سفوح جبل زغروس وجنوبي أَرَّبْخا (كركوك) والجزيرة السورية والمجرى العلوي لنهر دجلة، وهي المعروفة في المصادر الأكادية باسم «سوبرتو»، وقد توسعت دلالة الاسم الجغرافية لتشمل الشعب واللغة أيضاً.
تحدث المصادر السـومرية عن حملات ملوكهم إلى هناك، وتكشف عن أهمية مدينة خمازي (بين كركوك وأربيل) آنذاك. كما تتحدث نقوش الملك الأكادي شرُّكين (صرغون الأول) (نحو 2340- 2284ق.م) عن حملاته المتكررة إليها، ولاسيما إلى مدينة سيمورّم (ربما قلعة شيروان). وبدءاً من عهد حفيده «نارام سين» (2259- 2223ق.م) شرعت المدونات المسمارية تتحدث بوضوح عن الحوريين في بلاد سوبرتو، وعن حملاته ضد ملوكهم، وأبرزهم «تخيش أتل» حاكم أزوخينم غربي دجلة، ووصوله إلى منابع دجلة والفرات لمحاربة مدينة شنم إندا، وقمعه انتفاضة حورية عامة، ووصلت قواته إلى أوركيش[ر] (تل موزان، قرب عامودا) وتوتول[ر] (تل البيعة قرب الرقة)، كما تذكر ولاء مدن حورية له أيضاً. ويتضح من مكتشفات أوركيش الأخيرة أن ملكها كان متزوجاً ابنة نارام سين، بينما تشير وثائق إبلا (تل مرديخ، جنوب غربي حلب) إلى علو مكانة مدينة خمازي آنذاك، وقيام علاقات حسنة بين المدينتين.
ضعفت مملكة أكاد بعد نارام سين، فظهرت ممالك حورية جديدة، مثل نَغَر (تل براك جنوبي القامشلي) وأربيل. وتزايدت مكانة أوركيش، ولاسيما في مرحلة الاحتلال الكوتي للمناطق الأكادية المركزية قرابة قرن من الزمن.
تابع حكام سلالة أور الثالثة (2112-2004ق.م) محاربة الحوريين، ومارسوا معهم سياسة التهجير، ولكن انشغالهم بمواجهة خطر القبائل الأمورية ساعد الحوريين على التحرر من نفوذهم، وبرزت آنذاك مكانة «تيش أتل» ملك أوركيش الذي خلّف لنا أقدم نص كتابي باللغة الحورية.
ليس هناك شواهد مكتوبة من مناطقهم تعود إلى القرنين التاليين، ولكن ينجلي تاريخهم في وثائق القرن الثامن عشر ق.م الوفيرة، ويتضح منها وجود حكام حوريين صغار في مناطق متفرقة، ولاسيما في الجزيرة السورية العليا، كما يلاحظ فيها تجاورهم السلمي مع الأموريين المهاجرين من مناطق وادي الفرات الأوسط، في أثناء قيام مملكة شمشي أدد (1808-1776ق.م) الآشورية.
لم يتمتع الحوريون بدور سياسي متميز في القرن السابع عشر ق.م، وتفرقت مجموعات كبيرة منهم غرباً إلى مناطق نهر العاصي الأوسط، ولجأت إلى الحكام الأموريين في يَمْخَد (حلب) وألالاخ (تل عطشانة)، وأسهمت في صد حملات الحثيين ضدهم. كما عانى الحوريون في مناطق شرقي دجلة من أزمات اقتصادية اضطرتهم للهجرة إلى بلاد بابل.
وصلت في أواخر القرن المذكور مجموعات هندو – آرية جديدة مهاجرة، على الأرجح، من مناطق القفقاس إلى مناطق الحوريين، واتحدت معهم. ولعل ذلك، مما دفع الملك الحثي «مورشيلي الأول» إلى احتلال حلب وتدمير المدن الحورية شرقي الفرات، ثم احتلال بابل عام 1595 قبل الميلاد وتسليم حكمها للكاشيين.
شهد القرن السادس عشر ق.م ظهور مملكة ميتّاني الحورية وعاصمتها وَشّوكاني (عند منابع نهر الخابور)، وبدأ الصراع الحوري – الحثي – المصري على أراضٍ سورية.
اتسع نطاق مملكة ميتّاني في مطلع القرن التالي، وامتد بين أَرّبخا شرقاً وألالاخ غرباً، مما أثار القوى الكبرى المعاصرة، فازدادت حملات المصريين عليها، وسعىالحثيون والآشوريون إلى التحالف معهم ضدها. وقد تأثرت المملكة بذلك، واضطر ملكها سوشتتر نحو1420ق.م إلى عقد اتفاق سلام وتعاون مع مصر حفاظاً على وحدة مملكته، بل مدّ نفوذه إلى سهل كيليكية أيضاً، وهذا ما أثار الملك الحثي توتخاليا الأول، فقام بحملات على حلب وشمالي سورية.
توثق التحالف الحوري المصري أكثر في مطلع القرن الرابع عشر ق.م، بعقد مصاهرات سياسية، وقد كانت أميرات ميتّاني مرغوبات في مصر، ونظمت حدودالسيادة بينهما، فاقتصرت السيادة المصرية على المناطق الساحلية إلى أغاريت (رأس شمرا)، والداخلية إلى سهل حمص. ثم ظهرت صراعات دموية ضمن الأسرة الحاكمة في ميتاني حول وراثة العرش، بعد موت ملكها شترنا الثاني، فتوقفت الصلات مع مصر، واستقلت مناطق نينوى (الموصل)، وظهرت بوادر تحالف حثي آشوري ضد ميتاني، ولكن ملكها تشرتّا (نحو 1365-1335ق.م) صمد، ثم أعاد حسن العلاقات مع مصر بمصاهرة جديدة دونت أخبارها في «رسالة ميتاني» المكتشفة في تل العمارنة جنوبي مصر، وتعد أهم وثيقة لغوية وأطول نص باللغة الحورية، حتى اليوم، وهي تتحدث عن المفاوضات المتعلقة بزواج ابنته تتو ـ خِبا (نفرتيتي) من الفرعون أمنوفس الثالث في أواخر عهده (1391-1353ق.م).
لم تتوقف الصراعات في المملكة، وتمزقت، وضعفت السلطة المركزية فيها، مما أدى إلى بروز دور الملاكين الكبار في شرقي دجلة، وإلى استقلال آشور (قلعة الشرقاط)، ثم ساءت الأحوال أكثر باغتيال الملك الميتاني على يد أحد أبنائه، وانقسام الأسرة الحاكمة إلى متحالفين مع الآشوريين الذين احتلوا مناطق المملكة الشرقية، ومتحالفين مع الحثيين الذين احتلوا مناطقها الغربية.
تقلص حجم المملكة إلى حد كبير في مطلع القرن الثالث عشر ق.م، ونقلت عاصمتها إلى تئيد (ربما تل أحمدي قرب القامشلي)، وكان حكم «شَتّوارا» الأول فيها شكلياً تابعاً للآشوريين، واضطر خليفته إلى التخلي لهم عن مناطقه المركزية، وانسحب إلى مناطق الأطراف الشمالية (خاني جَلْبَت) بين جبل كشّياري (طور عابدين) وألْشب (شمالي حران) للحكم هناك بمساعدة حثية، وقد حاربه الآشوريون هناك أيضاً، واتبعوا في حملاتهم سياسة التهجير وتبديل الهوية السكانية.
بدأ الآراميون ينتشرون ويبسطون نفوذهم هناك في القرن الثاني عشر ق.م، كما سيطر الموشكيون على مناطق في شرقي الفرات، فتقلص النفوذ الحوري بمرور الزمن، واقتصر على موطنهم الأم القريب من بحيرة فان، وفي شرقي فان نشأت في القرن التاسع ق.م مملكة أورارتو (بياينا)، ثم اتسع نطاقها في القرن التالي ليصل إلى الفرات الأعلى غرباً وبحيرة أورمية شرقاً ونهر آراس شمالاً، وتصارعت في الجنوب مع الآشوريين الذين سيطروا على شمالي العراق. وبذلك برزت قوى جديدة في المناطق الحورية السابقة، وفقد الحوريون ملامح وجودهم المتميز في شمالي بلاد الرافدين وسورية منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.
اعتمد الحوريون الكتابة المسمارية في تدوين لغتهم الهندو ـ آرية، كما دونوا وثائق باللغتين الأكادية والحثية. انتشرت لغتهم على نطاق واسع عند اتساع مملكتهم في أواسط الألف الثاني ق.م، وصارت تأخذ مكانها ضمن المعاجم متعددة اللغات، وعُثر على مجموعات من الوثائق الحورية في نوزي (يورغان تبه، جنوبي كركوك) ومحيطها، وفي ماري (تل الحريري) وإيمار (تل مسكنه) على الفرات الأوسط، وفي أوغاريت، وفي العاصمة الحثية حاتوشا (بوغازكوي شرقي أنقرة)، كما ترد تعابير ومفردات وأسماء أعلام حورية في كثير من الوثائق المكتوبة المكتشفة في مناطق الشرق القديم المختلفة.
أسهم الحوريون منذ زمن مبكر في إغناء التراث الأدبي، إذ صاغوا أساطير تعكس تصورات خاصة عن نشأة الكون وأصول الآلهة المعبودة وصراعاتها وعلاقاتها بالبشر، وألفوا أناشيد وحكايات مستقاة من الموروث الشعبي، مثل حكاية البطل أَرَنْزَح (دجلة)، حكاية الصياد كشّي، حكاية دمار إبلا، كما أعادوا صياغة أعمال أدبية سومرية وأكادية شهيرة.
عبدوا آلهة خاصة، طابقوها بمرور الزمن مع آلهة معروفة في بلاد الرافدين وسورية، ومن أقدمها آلهة عُبدت في إبلا (أشتبي، أدمّا، إشخارا). أما أبرزها فهو كُمَربي أبو الآلهة، المنسوب إلى مدينة كُمَر، وقد صارت مدينة أوركيش المركز الرئيس لعبادته. ومن آلهتهم أيضاً: تشوب ملك الآلهة وإله الطقس في كُميا (شمالي زاخو)، ثم في حلب وإبلا، وقرينته خِبات التي تمتعت بمكانة متميزة في شمالي سورية، وإلهة الحب والحرب شاووشكا (عشتار الحورية) ومركزها نينوى، وشيميك إله الشمس، وكُشُخ إله القمر، وغيرها. كما أسهمت الهجرة الحورية الثانية التي أثمرت عن نشوء مملكة ميتاني في انتشار عبادة آلهة هندو ـ آرية قديمة (ميثرا، فارونا، إندرا، ناستيا) في المنطقة.
مارس الحوريون شعائر دينية خاصة، وكانت لهم أعياد محددة الزمان، وصفت في النصوص مفصلة، وقد احتفلوا بها في المعابد وفي غابات صغيرة مقدسة، وركزت الشعائر على مسائل تطهير الروح والبركة الإلهية والتفكير والتأثيرات السحرية، كما اهتم الحوريون بالتعويذات والنبوءات والكهانة والعرافة. وتأثر الحثيون وغيرهم بالمعتقدات الدينية الحورية.
وتجدر الإشارة إلى دورهم المتميز في مجال الموسيقى (النوطة)، كما يؤكد نص مكتشف في أوغاريت، كما كانوا رواداً في تدريب الخيول واستخدامها في قيادة عربات حربية خفيفة ذات عجلتين.
تعد آثار الحوريين المادية المكتشفة قليلة نسبياً، فالعاصمة وشّوكاني لم تكتشف بعد، والتنقيب في أوركيش مازال يركز على القصر الملكي العائد إلى 2250ق.م تقريباً، ولم تكتشف آثار حورية كثيرة في مواقع أخرى ضمن الجزيرة السورية. ولم تشهد مناطق إقليم كردستان العراقي تنقيبات أثرية كافية مناسبة، باستثناء التنقيبات التي جرت في نوزي بين 1925 و1931، وكشفت عن مجموعات من الوثائق الكتابية وآلاف من الأختام الأسطوانية وقصر يعود إلى عهد الملك سوشْتتر، يتضمن رسوماً جدارية متميزة ومعبد للإلهة عشتار ومنحوتات مختلفة.
عثر على آثار حورية متفرقة وفي مواقع متباعدة، ويصعب الحديث حالياً عن خصائصها العامة المشتركة، ماخلا ما نجده في النماذج الفخارية المعروفة بـ«فخار نوزي» المتميزة بأسلوب تشكيلها وزخرفتها وألوانها، وكذلك في «أختام كركوك» الأسطوانية المتميزة بموضوعات المشاهد المصورة عليها وبمادة صنعها وأسلوب النقش فيها.
إن الحوريين وحضارتهم جزء أساسي من تاريخ الشرق القديم، وقد أسهموا في مجمل التطورات السياسية والحضارية فيه، وتثاقفوا وتفاعلوا حضارياً ضمن منطقة شهدت استقرار شعوب عدة.