ماذا تعرف عن الأحكام العرفية ؟ – بقلم: جميلة الشربجي
قد تصاب الدول بالأزمات التي تهدد كيانها بأكمله كالحروب والكوارث الطبيعية أو اختلال في الأمن العام، فتجد السلطة التنفيذية – المكلفة بالمحافظة على وجود الدولةوأمنها – نفسها عاجزة عن مواجهة تلك الظروف، فتظهر حاجة الإدارة إلى اختصاصات جديدة تضاف إلى صلاحياتها وسلطاتها، بما يؤدي إلى توسيعها بما يتناسب مع تلك الظروف، وأمام ذلك تعلن الدولة حالة الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ.
أولاً- تعريف الأحكام العرفية:
حاول بعض الفقهاء تعريف حالة الأحكام العرفية، فعرفها بأنها «نظام دستوري استثنائي قائم على فكرة الخطر المحيق بالكيان الوطني، يسيغ اتخاذ السلطات المختصة لكل التدابير المنصوص عليها في القانون والمخصصة لحماية أراضي الدولة وبحارها وأجوائها كلاً أو جزءاً ضد الأخطار الناجمة عن عدوان مسلح داخلي أو خارجي، ويمكن التوصل لإقامته بنقل صلاحيات السلطات المدنية إلى السلطات العسكرية».
هذا هو الأصل في إعلان حالة الأحكام العرفية، ولكن لكل مشرع في أي دولة أن يعدل في الصيغة السابقة بحيث يضيقها أو يوسعها، فما تقدره دولة من الدول على أنه من مقتضيات الحفاظ على الأمن والنظام العام لديها ويقتضي بذلك إعلان حالة الأحكام العرفية، ربما لا تجد فيه دولة أخرى سوى حالة من حالات الضرورة التي لا تستلزم أكثر من توسيع صلاحيات الضابطة الإدارية العادية توسيعاً غير اعتيادي من دون حاجة إلى فرض حالة الأحكام العرفية. ويرى بعض الفقهاء وجود نظامين للأحكام العرفية؛ الأحكام العرفية العسكرية ويطلق عليها الأحكام العرفية الحقيقية، والأحكام العرفية السياسية ويطلق عليها الأحكام العرفية الصورية.
1- الأحكام العرفية العسكرية: وتعلن في المناطق التي تكون مسرحاً للعمليات الحربية وفي أقاليم الدولة المحتلة عسكرياً من قبل دولة أخرى، وطبقاً لنظام الأحكام العرفية العسكرية يملك القادة العسكريون سلطات خطيرة تتيح لهم تعطيل الدستور والقوانين في الأماكن التي أعلنت فيها حالة الأحكام العرفية والاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم بالقدر الذي يتطلبه تحقيق أغراض الغزو وحماية جيش الاحتلال.
2- الأحكام العرفية السياسية: وتعلن بواسطة السلطة التنفيذية في جميع أجزاء الدولة أو في جزء منها وذلك عند تهديد أمنها الداخلي أو الخارجي، كأن تتعرض لاضطرابات داخلية أو ثورة مسلحة، حيث تعجز الدولة وقوانينها العادية عن مجابهة الحالة وتنفيذ القانون بالأساليب المعتادة، فتعلن حالة الأحكام العرفية بهدف تقوية السلطة التنفيذية ومنحها سلطات خاصة تحررها من بعض القيود التي وضعت للحالات العادية، وترخص لها وقف العمل ببعض الحريات والحقوق إلى الحد اللازم لمجابهة الحالة الاستثنائية.
ثانياً- الأساس الدستوري لحالة الأحكام العرفية:
تعدّ حالة الأحكام العرفية تطبيقاً مباشراً لحالة الظروف الاستثنائية التي تجيز الخروج عن قواعد المشروعية تحقيقاً للمصلحة العامة، فالرغبة في حماية الدولة والحفاظ على أمنها واستقرارها ضد ما قد تتعرض له من أخطار جسيمة دفعت المشرع الدستوري إلى منح السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الدولة سلطة إصدار اللوائح اللازمة لمواجهة هذه الأخطار حتى لو كانت هذه اللوائح مخالفة للقواعد القانونية العادية. ذلك أن التمسك بمبدأ المشروعية وإلزام الهيئات الحاكمة بالخضوع للقانون قد يؤدي إلى الإضرار بأمن الدولة وسلامتها، وبالتالي استقر الفقه والقضاء على أنه إذا تعرضت الدولة لظروف غير عادية من شأنها أن تعرض كيانها للخطر أو تهز أمنها كان للسلطة التنفيذية أن تتحرر مؤقتاً من مبدأ المشروعية العادية وتتخذ ما تراه من إجراءات استثنائية لمواجهة هذه الظروف سواء بتفويض من جانب البرلمان أوم استناداً إلى نصوص دستورية صريحة تخولها هذا الحق.
ولا يعني ذلك تعطيل الحريات الأساسية للمواطنين وإلغاء حقوقهم الطبيعية؛ إذ إن نظام الأحكام العرفية وإن كان نظاماً استثنائياً فهو ليس نظاماً مطلقاً، إذ يحدد القانون المنظم له أصوله وأحكامه وحدوده وضوابطه بحيث يجب إجراؤه طبقاً لهذه الحدود وعلى أن يقتصر في ممارسة السلطات التي يقررها على الحد اللازم لمواجهة الظروف الاستثنائية التي استوجبت العمل به حتى الوقت الذي تزول فيه هذه الظروف.
ثالثاً- شروط اللجوء إلى الأحكام العرفية:
نظام الأحكام العرفية نظام استثنائي لا يعلن إلا لدفع الخطر الشديد الذي تتعرض له سلامة البلاد وأمنها، والذي لا يمكن للسلطة التنفيذية مواجهته بالتشريعات والإجراءات العادية، إلا أنه خوفاً من تعسف السلطة التنفيذية في استخدام هذا النظام للتعدي على السلطات العامة في الدولة أو المساس بحريات الأفراد وحقوقهم يلجأ المشرع إلى تحديد الشروط التي تمكّن السلطة التنفيذية من إعلان حالة الأحكام العرفية وهي عادةً:
1- توافر أسباب قيام حالة الأحكام العرفية أو مسوغاته: إذ يشترط لإعلان حالة الأحكام العرفية أن تتعرض البلاد لخطر حقيقي، يكون واقعاً فعلاً (كالحرب الخارجية، التهديد بوقوع الحرب، الاضطرابات المسلحة، الكوارث، انتشار الأوبئة).
وعادةً ما يلجأ المشرع إلى تعداد مصادر الخطر التي تجيز إعلان حالة الأحكام العرفية وحصرها على وجه التحديد، بهدف الحد من احتمالات تعسف السلطة التنفيذية في استخدام صلاحياتها، إذ لا يسوغ لها إعلان حالة الأحكام العرفية إلا إذا توافرت إحدى هذه الحالات وإلا كان إعلانها لهذا النظام الاستثنائي باطلاً.
2- إعلان حالة الأحكام العرفية: إن تطبيق نظام الأحكام العرفية وما يترتب عليه من تمتع السلطة التنفيذية بسلطات استثنائية لا يتم تلقائياً بمجرد توافر أحد أسبابه أو مسوغاته، بل ينبغي أن يسبق ذلك إجراء هام وخطير وهو «إعلان حالة الأحكام العرفية».
وهذا الإعلان يمنحه المشرع الدستوري في أغلب التشريعات للسلطة التنفيذية إما بالمشاركة مع البرلمان وإما منفردةً به، وذلك بهدف دفع التهديد والخطر بسرعة وحزم وهو أمر لا تملكه المجالس النيابية بسبب «الروتين» الذي يحيط باجتماعاتها واتخاذ قراراتها.
ولأن حالة الأحكام العرفية هي حالة استثنائية لخروجها على التنظيم القانوني العادي فإن الدساتير تحاول تقرير العديد من الضمانات السياسية في هذا المجال؛ ولذلك فإنها غالباً لا تسمح لرئيس السلطة التنفيذية الانفراد بإعلان حالة الأحكام العرفية وإنما تستلزم حصوله على موافقة مسبقة من البرلمان صاحب السلطة التشريعية أو على الأقل توجب عليه عرض قراره بإعلان حالة الأحكام العرفية على البرلمان في أقرب فرصة الذي يكون له الحق في الموافقة على إعلانها أو عدم الموافقة بحسب تقديره للمصلحة العامة.
3- عرض إعلان حالة الأحكام العرفية على البرلمان: الأصل أن إعلان حالة الأحكام العرفية يجب أن يكون من اختصاص السلطة التشريعية ولكنه نظراً لمقتضيات الحسم والسرعة والظروف الاستثنائية التي تسوغ ذلك الإعلان فإن المشرع الدستوري في أغلب الدول خص السلطة التنفيذية بذلك الإعلان، ولكنه أوجب عليها ضرورة عرض هذا الإعلان على البرلمان ليتخذ قراره بشأنه إما بالموافقة وإما بالرفض.
فإذا وافق البرلمان على إعلان حالة الأحكام العرفية عدّ ذلك بمنزلة مصادقة على قرار الحكومة في هذا الصدد، ومن ثم تستمر حالة الأحكام العرفية في إنتاج كل آثارها القانونية ما لم يحكم القضاء ببطلان ذلك الإعلان لعدم مشروعيته لصدوره على خلاف أحكام القانون (كإعلانها في غير الحالات التي حددها القانون)، أو عدم دستوريته لصدوره على خلاف أحكام الدستور (كإعلانها مدة غير محددة).
أما إذا رفض البرلمان الموافقة على إعلان حالة الأحكام العرفية فإن رفضه هذا لا يكون بأثر رجعي وبالتالي لا يؤثر في سلامة إعلان السلطة التنفيذية لحالة الأحكام العرفية عن المدة السابقة على صدور قرار البرلمان.
ومع ذلك فللبرلمان في حالة رفضه الموافقة على إعلان حالة الأحكام العرفية أن يقرر سريان هذا الإلغاء بأثر رجعي، وعندها يكون هذا الإعلان باطلاً وتكون جميع الإجراءات التي اتخذت بناء عليه حتى صدور قرار البرلمان باطلة أيضاً.
رابعاً- نتائج إعلان الأحكام العرفية:
تنجم عن إعلان حالة الأحكام العرفية نتائج ثلاث:
1- انتقال اختصاصات السلطات الضابطية إلى السلطات العرفية: بمعنى أن كل الاختصاصات التي كانت تتمتع بها السلطات الإدارية المدنية العادية لضمان استقرار الأمن والنظام العام تنتقل بكاملها إلى أيدي السلطات العرفية، بل تتمتع تلك الأخيرة بسلطات استثنائية كبيرة لم تكن تملكها السلطات الإدارية العادية، فهي تستطيع الحد من الحريات العامة التي يكفلها عادةً كل دستور لمواطني الدولة، كالحرية الفردية وحرية الإقامة وحرية الانتقال وحرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي عموماً وحرية المراسلات وحرمة السكن، كما أن بعضاً من هذه الصلاحيات الاستثنائية يمس حق الملكية أو حق الانتفاع الخاص بالمال، كالاستيلاء المؤقت على وسائل النقل المختلفة وعلى بعض المنشآت والمؤسسات والعقارات والمنقولات المملوكة للأفراد والهيئات لاستعمالها لأغراض الدفاع أو لأغراض عامة أخرى.
2- اتساع اختصاصات السلطات العرفية على حساب السلطات الأخرى: يؤدي إعلان الحكم العرفي إلى قيام نظام قانوني خاص يمنح السلطات القائمة على الحكم العرفي اختصاصات واسعة:
أ- اتساع اختصاصات السلطات العرفية على حساب السلطة التشريعية: فالسلطة العرفية سلطة استثنائية تمارس اختصاصات استثنائية منها الاختصاصات المقررة أصلاً للسلطة التشريعية، بقصد مراعاة عنصر العجلة الذي استلزم إعلان حالة الأحكام العرفية، حيث تستلزم الحالة اتخاذ قرارات مهمة لا تتناسب مع البطء المعهود في الإجراءات التشريعية، وبالتالي تتمتع السلطة العرفية بسلطة لائحية لها قوة القانون، تتمثل في إصدار «أوامر عسكرية» تنظم موضوعات ينظمها القانون في الأوقات العادية وبالتالي تتزايد سلطة الحكومة اللائحية على حساب سلطة البرلمان التشريعية.
ب- اتساع اختصاصات السلطات العرفية على حساب السلطة الإدارية: فالسلطات العرفية تستطيع في سبيل تحقيق هدفها في المحافظة على الأمن والنظام العام أن تعيد النظر في التنظيم الإداري القائم وذلك في ضوء احتياجاتها، كجزء من السلطات الاستثنائية التي تتمتع بها في فترة الأحكام العرفية.
فالسلطات الإدارية المختصة تملك الحق في إبعاد الأجانب في الحالات العادية إذا ما توافرت فيهم شروط الإبعاد كفقدان الجنسية وجواز السفر وانتفاء جنسية البلد الوطني والدخول إلى البلاد على نحو غير مشروع، أما السلطات العرفية فهي تستطيع فضلاً عن ذلك إبعادهم بالرغم من وجود جواز السفر لديهم في حالة الاشتباه بهم.
ج- اتساع اختصاصات السلطات العرفية على حساب السلطة القضائية: حيث يجوز للحاكم العرفي إحالة المخالف لأوامره مباشرة إلى القضاء العسكري من دون المرور بالشكليات القضائية المعهودة في الأحوال العادية. فالتوقيف الاحتياطي تدبير قضائي لا يفرض إلا في حالة توافر شروط محددة، ولكنه في حالة فرض الأحكام العرفية يستمر على أنه تدبير احتياطي ولكنه يفرض على الأشخاص من دون حاجة إلى توافر شروطه القضائية.
3- امتداد اختصاصات القضاء العسكري: ففي الحالات العادية لا يدخل في اختصاص القضاء العسكري إلا الاعتداء على شخص العسكري، أما الاعتداء على بيت العسكري وأمواله وأهله فلا يدخل في اختصاص القضاء العسكري، أما في حالة إعلان الأحكام العرفية فكل اعتداء على أي شخص كان يقوم بتنفيذ أوامر السلطة العرفية يكون من اختصاص المحاكم العسكرية، يتساوى في هذا الحكم أن يكون هذا الشخص مدنياً أو عسكرياً ومن دون حاجة إلى اتباع الأصول والإجراءات المعهودة في الأحوال العادية.
خامساً- الأحكام العرفية في المنظومة القانونية للجمهورية العربية السورية:
عُرف نظام الأحكام العرفية في الجمهورية العربية السورية فترة الانتداب الفرنسي حيث أخضع الانتداب الأراضي السورية لأحكام قوانين الجمهورية الفرنسية ومن ضمنها قانون الأحكام العرفية.
وبعد الاستقلال صدر أول قانون للأحكام العرفية بتاريخ 15/5/1948، وهو اليوم ذاته الذي أعلن فيه عن قيام الكيان الصهيوني، وباليوم ذاته صدر القانون رقم (401) الذي أعلنت بموجبه حالة الأحكام العرفية في البلاد مدة ستة أشهر، وذلك على أثر اشتراك الجيش العربي السوري في الحرب العربية الأولى لتحرير فلسطين، وقد تضمن هذا القانون تحديد التدابير والإجراءات التي تقتضيها حالة الحرب، كمراقبة الرسائل ومنع تنقل الأشخاص وإخلاء بعض العقارات، وأجاز تشكيل «محاكم عسكرية خاصة» لمحاكمة مرتكبي هذه المخالفات.
ومن ثم تتالت القوانين والمراسيم التي تتعلق بالحالة، إلى أن استقر الأمر أخيراً بصدور المرسوم التشريعي رقم/51/ تاريخ 23/12/1962 تحت اسم «قانون الطوارئ»، واستناداً إلى ذلك القانون تم إعلان الأحكام العرفية بالأمر العسكري رقم /2/ تاريخ 8/3/1963. ووفقاً للمادة الأولى من هذا المرسوم التشريعي تعلن حالة الطوارئ للأسباب التالية:
1- قيام حالة الحرب.
2- قيام حالة تهدد بوقوع الحرب.
3- تعرض الأمن والنظام العام في أراضي الجمهورية أو في جزء منها للخطر بسبب حدوث اضطرابات داخلية.
4- وقوع كوارث عامة.
أما آلية الإعلان فتكون استناداً إلى المادة الثانية من المرسوم التشريعي المذكور «بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه على أن يعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له».
وهي الآلية ذاتها التي أوجب المرسوم التشريعي اتباعها عند إنهاء حالة الطوارئ، حيث نصت المادة العاشرة منه على أن يكون الإنهاء من قبل السلطة المختصة بالإعلان، وفقاً للأحكام المنصوص عليها في المادة الثانية.
وقد حددت المادة الرابعة من المرسوم التشريعي المذكور القيود والتدابير التي يجوز للحاكم العرفي اتخاذها وهي:
– مراقبة الرسائل والصحف والنشرات والمؤلفات وجميع وسائل الدعاية والإعلان قبل نشرها.
– إخلاء بعض المناطق أو عزلها.
– تحديد مواعيد فتح الأماكن العامة وإغلاقها.
– الاستيلاء على أي عقار أو منقول وفرض الحراسة المؤقتة على الشركات والمؤسسات.
– وضع القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أماكن أو أوقات معينة، وتوقيف المشتبه بهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفاً احتياطياً.
وحينما صدر الدستور الحالي لعام 1973نص في المادة /101/ منه على أن «يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ ويلغيها على الوجه المبين في القانون»، والمقصود بالقانون هنا (قانون الطوارئ) الصادر بالمرسوم التشريعي رقم/51/لعام 1962 الذي لم يجرِ استبداله أو تعديله ولا زال نافذاً منذ صدوره حتى تاريخه.