وحيدًا في الغابة لمدة 27 عامًا .. ماذا فعلت حياة البرية بـ«كريستوفر الراهب»؟
نشرت «الجارديان» تقريرًا عن واحدة من أعجب حالات العزلة في التاريخ، ألا وهي حالة كريستوفر نايت الذي اعتزل العالم، وعاش وحده في الغابة لأكثر من ربع قرن. كيف استطاع أن يبقى على قيد الحياة طيلة هذا الوقت؟ وما هي الدروس التي تعلمها من هذه الوحدة التي قلَّ أن نجد لها نظيرًا في التاريخ؟ يقول التقرير:
كان كريستوفر نايت في العشرين من عمره فحسب عندما ترك المجتمع، وغاب لأكثر من ربع قرن من الزمان. كان حينها قد عمل لأقل من عام في تركيب أنظمة الإنذار للمنازل والسيارات بالقرب من بوسطن، ماساتشوستس، عندما استقال من عمله، فجأة، ودون إخطار رئيسه في العمل. حتى أدواته لم يعدها. استلم آخر رواتبه، وغادر البلدة.
لم يخبر نايت أي شخص عن مكان ذهابه. قال نايت: «لم يكن عندي من أخبره. لم يكن لدي أصدقاء، ولم أكن مهتمًا بزملائي في العمل». قاد نايت سيارته على طول الساحل الشرقي لأمريكا، يأكل وجبات الطعام السريع، ويقيم في الفنادق الرخيصة ــ «أرخص فنادق استطعت إيجادها». سافر وحده لأيام، حتى وجد نفسه في أعماق فلورديا. كان في أغلب رحلته يسير عبر الطرق الأساسية، ويشاهد العالم يمضي من حوله.
في النهاية، غير نايت وجهته واتجه شمالاً. استمع إلى الراديو. كان رونالد ريجان هو الرئيس حينها، وكانت كارثة مفاعل تشرنوبل النووي قد حدثت لتوها. وبينما كان نايت يقود سيارته خلال ولايات جورجيا، وكارولينا الشمالية والغربية، وفيرجينيا، متمتعًا بحصانة الشباب، ثملًا بفعل «متعة القيادة»، أحسن بفكرة يزداد إدراكًا لها، قبل أن تترسخ لتصبح عزمًا.
كان نايت، طول حياته، يشعر بالراحة وحيدًا. وعادة ما كان التعامل مع الناس محبطًا له. كان يبدو كل لقاء يجمعه بشخص آخر أشبه بالتصادم.
قاد نايت سيارته شمالًا وصولًا إلى ولاية ماين، حيث نشأ. ليس هناك الكثير من الطرق في وسط الولاية، واختار هو طريقًا يؤدي مباشرة إلى منزل أسرته. قال نايت: «أظن أنني ذهبت هناك لألقاء نظرة أخيرة، وللوداع». لم يتوقف نايت. وكذا كانت المرة الأخيرة التي رأى فيها منزل أسرته، من خلال زجاج سيارته.
واصل نايت مسيرته شمالًا. ولم يمض وقت كثير حتى وصل إلى شواطئ بحيرة موسهيد، أكبر بحيرات ماين، والنقطة التي تبدأ عندها الولاية في أن تكون نائية بحق. قال نايت: «قدت سيارتي حتى قارب الوقود على النفاد. اتخذت طريقًا صغيرًا. ثم طريقًا صغيرًا متفرعًا عن ذلك الطريق الصغير. ثم سلكت دربًا آخر متفرعًا عن ذلك الطريق». قاد سيارته في عمق البرية إلى آخر مدى استطاعت أن توصله إليه سيارته.
أوقف نايت سيارته، وقذف بالمفاتيح إلى رف السيارة. كانت معه خيمة، وحقيبة ظهر، ولم تكن معه بوصلة، ولا خريطة. خطا نايت بين الأشجار ومشى بعيدًا، دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب، ودون أن يكون ثمة مكان محدد في ذهنه.
ما الذي قد يدفع شابًا في العشرين من عمره إلى ترك العالم فجأة؟ لهذا الفعل بعض عناصر الانتحار، باستثناء أنه لم يقتل نفسه. قال نايت: «بالنسبة لباقي العالم، فأنا لم أعد موجودًا». لا بد أنَّ أسرة نايت قد عانت بعد اختفائه، إذ لم تكن لديهم أدنى فكرة عما حصل له، ولم يستطيعوا أن يقبلوا بشكل كامل احتمالية أن يكون قد مات.
كانت اللفتة الأخيرة لنايت، ترك مفاتيحه في السيارة، غريبة على وجه الخصوص. كان نايت قد تربى على تقدير عميق لقيمة المال، وكانت هذه السيارة أغلى شيء اشتراه في حياته. لماذا لم يحتفظ بالمفاتيح على سبيل الأمان؟ ماذا لو لم يعجبه التخييم؟
قال نايت: «لم تكن السيارة ذات فائدة بالنسبة لي. كان وقودها قد نفد تقريبًا، وكنت على بعد أميال وأميال من أقرب محطة وقود». ما تزال السيارة في مكانها، بعد أن ابتلعت الغابة نصفها. قال نايت إنه لا يعرف السبب الحقيقي الذي جعله يغادر. فكر كثيرًا في هذا السؤال، لكنه لم يصل قط إلى إجابة بعينها. «هذا لغز» على حد قوله.
لطالما امتلأ التاريخ المسجل، كل الوقت، وفي كل الثقافات بالنساك ــ الذين يعرفون أيضًا بالمعتكفين، والرهبان، ومبغضي الإنسان، والزهاد، والسواح والسوامي (معلمي الدين الهندوس). لكنَّ هناك أسبابًا ثلاثة حقيقية فحسب لمغادرة الناس للعالم.
معظم المغادرين يفعلون هذا لأغراض دينية، لتوطيد أواصر علاقتهم بقوة أعلى. أمضى عيسى ومحمد وبوذا، جميعهم، أوقاتًا كبيرة وحدهم قبل تقديم دين جديد للعالم. الغرض النهائي، في الفلسفة الهندية، أن ينضج كل إنسان ليصير أقرب ما يكون من ناسك. واليوم يعيش ما لا يقل عن أربعة ملايين إنسان حياة رجال مقدسين متجولين في الهند، ويعيشون على الصدقات التي يهبها الغرباء، بعد أن تخلوا عن كل الروابط الأسرية والمادية.
بعض النساك الآخرين يخرجون من الحضارة بسبب كراهيتهم لما أصبح عليه العالم ــ الكثير من الحروب، أو الدمار البيئي، أو الجريمة، أو الاستهلاكية. كان كتاب طاو تي تشينغ، أول الأعمال الأدبية العظيمة عن الوحدة، كتبه ناسك صيني في القرن السادس قبل الميلاد يدعى لاوزي، كان يعترض على فساد المجتمع. بحسب الكتاب فإننا نكتسب الحكمة من خلال الانسحاب، لا السعي، ومن خلال الخمول لا الفعل.
أما الفئة الأخيرة فتشمل أولئك الذين يرغبون في الوحدة لأسباب تتعلق بالحربة الفنية، أو التبصر العلمي، أو الفهم الأعمق للنفس. فقد ذهب هنري ديفيد ثورور إلى بحيرة والدن في ماساتشوستس ليرتحل ويستكشف «البحر الخاص، المحيطين الأطلسي والهادئ للنفس». وقال المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون «العزلة مدرسة العبقرية».
لكنَّ نايت لا يدخل ضمن أي من هذه التصنيفات الثلاثة، فلم يكن يتبع أي دين رسمي، ولم يكن يعترض على العالم الحديث، ولم يقدم أي عمل فني أو أطروحة فلسفية. لم يلتقط نايت أية صورة قط، ولم يكتب جملة، ولم يعرف أي إنسان عن مكانه. لقد أدار ظهره للعالم بشكل كامل. لم يكن ثمة سبب واضح لاختياره هذا. شيء ما، لم يستطع تحديده بدقة كان يسحبه بعيدًا عن العالم بقوة كقوة الجاذبية. كان نايت واحدًا من أكثر من تحملوا العزلة في التاريخ، ومن بين أكثرهم حماسة أيضًا. لقد كان كريستوفر نايت ناسكًا حقيقيًا.
قال نايت: «لا يمكنني شرح أفعالي. لم تكن لدي خطط عندما غادرت. لم أكن أفكر في أي شيء. لقد فعلت ما فعلت وحسب».
كان هدف نايت أن يتوه. لا أن يتوه عن باقي العالم فحسب، وإنما في الواقع أن يتوه عن نفسه في الغابة. لم يكن معه سوى معدات تخييم بدائية، وعدد قليل من الملابس والقليل من الطعام. قال نايت: «اكتفيت بما كان معي ولا شيء غيره».
ليس من السهل أن تتوه فعلا. إنَّ أي شخص يمتلك مهارات الخروج من المنزل، يعرف بشكل عام أي طريق يسلك. الشمس حارقة في اتجاه الغرب، ومن ثم كان من الطبيعي أن تسير في الاتجاهات الأخرى. كان نايت يعرف أنه متجه جنوبًا. قال إنه لم يأخذ قرارًا واعيًا بفعل ذلك، ولكنه أحس أنه مشدود إلى ذلك الاتجاه، كالحمام الزاجل. وقال: «لم تكن للفكرة أي عمق أو معنى، وإنما كانت على مستوى غرائزي. إنَّ غريزة الحيوانات أن تعود إلى أرض الوطن، وكان وطني، حيث ولدت وتربيت، في هذا الاتجاه».
تنقسم ولاية ماين إلى سلسلة من الأودية الطويلة التي تقطعها من الشمال إلى الجنوب، وتلك علامة جيولوجية خلفتها الأنهار الجليدية في ارتفاعها وانخفاضها. ويفصل بين الأودية سلاسل من الجبال، أصبحت رثة بفعل الجو، ذات رؤوس قاحلة. كانت أرض الوادي في ذلك الوقت من العام عندما وصل نايت مكانًا باردًا مليئًا بالبحيرات والبرك والمستنقعات.
قال نايت: «التزمت عمومًا بالتلال. وأحيانًا ما كنت أعبر المستنقعات من إحدى التلال لتلة أخرى.» مشى نايت بين منحدرات متداعية وأراضٍ رطبة موحلة. «وسرعان ما أدركت أنني لم أعد أعرف أين أنا. ولم أبال بذلك». كان يخيم في إحدى الأماكن لأسبوع أو أكثر، ثم ينتقل جنوبًا مرة أخرى. قال نايت: «واصلت المسير. كنت مسرورًا بالخيار الذي اتخذته».
كان مسرورًا باستثناء شيء واحد: الطعام. كان نايت جائعًا، ولم يكن يعرف كيف سوف يطعم نفسه. كانت مغادرته للعالم خليطًا محيرًا من التزام لا يصدق، وافتقار تام للتفكير في العواقب، ليس غريبًا عن شاب في العشرين من عمره. كان الأمر كما لو أنه ذهب للتخييم نهاية الأسبوع ثم لم يعد إلى المنزل إلا بعد ربع قرن. كان نايت قادرًا على الصيد واستخدام السنارة، لكنه لم يأخذ معه لا بندقية ولا عصا. ومع ذلك، فهو لم يكن يريد أن يموت، أول على الأقل لم يرد أن يموت حينها. كانت فكرة نايت أن يأكل من الثمار. براري ماين واسعة للغاية، لكنها، مع ذلك، ليست سخية. ليس ثمة أشجار فاكهة. وأحيانًا لا يزيد طول موسم التوت عن يومين. يعني ذلك أنه دون صيد أو نصب فخاخ أو صيد أسماك، فسوف يقضي المرء جوعًا.
سار نايت جنوبًا. كان يأكل أقل القليل، حتى ظهرت طرق معبدة. وجد طائر حجل مقتول على الطريق، لكن لم يكن معه موقد أو طريقة سهلة لإشعال النار، لذا أكله نيئًا. لم تكن الوجبة لذيذة ولا صحية، بل كانت طريقة سهلة للمرض. مر ببيوت ذات حدائق، لكنه تربى تربية أخلاقية صارمة، وكان يمتلك الكثير من الكبرياء. (ينبغي أن تعتمد على نفسك دائمًا: لا صدقات ولا إعانات حكومية. أبدًا. أنت تعرف الصواب من الخطأ، والخط الفاصل بينهما واضح دومًا).
لكن جرب ألا تأكل شيئًا لعشرة أيام. حينها سوف تتآكل قدرة أي شخص على ضبط النفس. الجوع أمر يصعب تجاهله. قال نايت: «استغرقت بعض الوقت للتغلب على ضميري». لكن ما إن بدأت مبادئه في التساقط، حتى اختطف عددًا من كيزان الذرة من إحدى الحدائق، وأخذ بعض حبات البطاطس من حديقة أخرى، وأكل عددًا من الخضروات الطازجة.
مرة، خلال الأسبوع الأول من هروبه، قضى ليلة في إحدى المقصورات غير المشغولة. كانت تجربة بائسة. قال نايت: «هذا التوتر، والقلق الذي منعني من النوم خوفًا من أن يلقى القبض علي، برمجني على ألا أكرر هذا الأمر ثانية». بعد تلك الليلة، لم ينم نايت قط داخل أي مبنى. ولا مرة واحدة، بصرف النظر عن الجو بردًا كان أو ممطرًا.
واصل نايت المسير جنوبًا، ملتقطًا ما يستطيع من الحدائق، في النهاية وصل إلى منطقة ذات توزيع مألوف من الأشجار، مع تنويعة من الطيور، ودرجة حرارة شعر أنه معتاد عليها. كان الجو أبرد شمالًا. لم يكن نايت متأكدًا تمامًا من مكانه، لكنه كان يعرف أنه في المنطقة التي تربى فيها. اتضح أنه كان على بعد 30 ميلًا، لو سار في خط مستقيم، من بيت طفولته.
كل شيء تعلمه نايت تقريبًا، في الأيام الأولى، كان من خلال التجربة والخطأ. كان موهوبًا بذهن وقاد يمكنه من إدراك الحلول العملية للمشكلات المعقدة. كل مهاراته، بدءًا من ربط الأقمشة التي شكلت مسكنه، إلى تخزين مياه الشرب، وانتهاء بالمشي خلال الغابة دون ترك أثر وراءه، مرت بالعديد من المراجعات ولم يعتبرها كاملة قط. كان تعديل أنظمته واحدًا من هواياته.
حاول نايت، خلال الأشهر القليلة التالية، أن يعيش في الكثير من الأماكن في المنطقة، بما في ذلك داخل حفرة رطبة على ضفة النهر. لكنه لم يرض عن أي من هذه الأماكن. أخيرًا، عثر على غابة سيئة مغطاة بالصخور، لا تمر بها الكثير من الطرائد، وشديدة الصعوبة على محبي التنزه في الغابات. أحب نايت تلك المنطقة فورًا. ثم اكتشفت مجموعة من الصخور كانت إحداها ذات فتحة خفية تقود إلى منطقة صغيرة عجيبة بلا أشجار. قال نايت واصفًا هذا المكان: «عرفت فورًا أنَّه مكان مثالي، فاستقررت هناك».
ومع ذلك، فقد ظل جائعًا. بدأ نايت يدرك أنَّ من المحال تقريبًا أن يعيش المرء وحده طيلة الوقت. يحتاج الإنسان إلى المساعدة. عادة ما كان ينتهي المطاف بالنساك، عبر التاريخ، في الصحاري أو الجبال أو الغابات ــ هذا النوع من الأماكن حيث يصعب للغاية إيجاد الطعام أو اصطياد ما يكفي منه. ولكي يستطيع بعض آباء الصحراء ــ وهم النساك المسيحيون المصريون من القرن الثالث ــ إطعام أنفسهم، كانوا ينسجون سلالاً من القصب ويبيعونها. وكان النساك في الصين القديمة من الشامان، من صانعي الأعشاب والعرافين. بعد ذلك، اكتسحت موضة النساك إنجلترا في القرن الثامن عشر. كان يعتقد أنَّ أولئك النساك يشعون طيبة وحكمة، لذا وجدت في تلك الفترة إعلانات في الصحف تطلب «نساكًا للزينة » غير مبالين بزينتهم، ومستعدين للنوم في كهوف تابعة لأراضي الإقطاعيين في الريف. كانت تلك الوظيفة ذات مردود مالي جيد، وعين فيها المئات، وعادة ما كانت العقود تستمر فترة سبع سنوات. كان بعض أولئك النساك أحيانًا يظهرون في حفلات الغداء ويحيون الضيوف.
ومع ذلك، فقد أحس نايت أنَّ الرغبة في المساعدة تلوث الأمر برمته. كان يأمل أن يعيش وحدة مطلقة. أن يكون قبيلة معزولة قوامها شخص واحد.
لاحظ نايت أنَّ المقصورات حول البحيرات في وسط ماين كانت ذات إجراءات أمنية ضعيفة. عادة ما كانت نوافذ هذه المقصورات تترك مفتوحة، حتى حال غياب أصحابها. وفرت الغابات غطاءً ممتازًا، ومع وجود القليل من السكان الدائمين، كانت المنطقة خالية دائمًا خلال معظم الفصول. كان هناك مخيم صيفي ذو مخزن كبير للمؤن بالقرب منه. كانت الطريقة السهلة لكي تصبح صيادًا وجامعًا للثمار واضحة.
ومن ثمَّ قرر نايت أن يسرق.
يتطلب الأمر دقة وصبرًا وجرأة وحظًا، لكي ترتكب آلاف عمليات الاقتحام دون أن يلقى القبض عليك، وهذا رقم قياسي عالمي. أيضًا تطلب هذا الأمر معرفة خاصة بالناس. قال نايت: «بحثت عن الأنماط. كل الناس لديهم أنماط».
كمن نايت على حافة الغابة مراقبًا عادات الأسر أصحاب المقصورات على البحيرة مراقبة دقيقة. راقب حفلات إفطارهم وغدائهم الهادئة، وزوراهم وإجازاتهم، وسياراتهم وهي تتحرك بطول الطريق ذهابًا وإيابًا. لم يكن أي مما رآه نايت مغريًا له بالعودة إلى حياته السابقة. كانت مراقبته سريرية تعليمية رياضية. لم يعرف اسم أي شخص. كان كل ما يسعى لمعرفته هو فهم أنماط الهجرة ــ متى يخرج الناس للتسوق، ومتى تكون المقصورة غير مشغولة. وقال إنَّ كل شيء في حياته بعد ذلك أصبح مسألة توقيت. كان الوقت المثالي للسرقة في الليل البهيم، وفي منتصف الأسبوع، ويفضل أن تكون السماء ملبدة بالغيوم، وأفضل وقت خلال المطر. كان انهمار المطر فرصة ممتازة إذا كان الناس يبتعدون عن الغابة حين تكون رطبة.
ومع ذلك، فلم يكن نايت يمشي على الطرقات أو الدروب، تحسبًا لأي طارئ، ولم ينفذ قط بإحدى غاراته يومي الجمعة أو السبت ــ وهما يومان كان يعرف بحلولهما من الزيادة الواضحة في الضوضاء المنبعثة من اتجاه البحيرة.
لبعض الوقت، كان نايت يختار الخروج عندما يكون القمر كبيرًا، ليستطيع استخدامه مصدرًا للإضاءة. وفي سنوات لاحقة، شك في أنَّ الشرطة قد كثفت بحثها عنه، فبدل وقت غاراته ليكون في حالة الغياب الكامل للقمر. كان نايت يحب تبديل طرقه. لم يكن يريد تطوير أي نمط خاص به، مع أنه اعتاد ألا يشرع في الغارات إلا بعد حلاقة ذقنه مباشرة، أو بعد تشذيب لحيته بدقة وارتداء ملابس نظيفة، لتقليل الشكوك في حالة وقع الاحتمال البعيد وشاهده أحدهم.
كان هناك ما لا يقل عن مائة مقصورة تقع في مدى سرقة نايت. كانت المقصورة المثالية هي تلك المجهزة بالكامل، التي تغيب العائلة عنها حتى نهاية الأسبوع. كان يعرف بدقة، في الكثير من الحالات، عدد الخطوات المطلوبة للوصول إلى مقصورة بعينها، وما إن يختار هدفًا، كان يتقافز ببراعة خلال الغابة وصولا إليه. أحيانًا، لو كان في طريقة لمكان بعيد، أو في حاجة إلى شحنة من البروبين، أو استبدال مرتبة، كان من السهل له أن يسافر باستخدام زورق. من الصعب إخفاء الزوارق. ولو سرقت واحدًا، فسوف يتصل مالكه بالشرطة. فكان من الأحكم أن يستعير، وقد كانت هناك تشكيلة واسعة حول البحيرة، بعضها كان معتمدًا على طاولات خشبية، ونادرًا ما كان يستخدم.
كان نايت قادرًا على الوصول إلى المنازل في أي مكان بطول البحيرة الأكبر بالقرب من مخبأه. قال نايت: «كنت أحيانًا أقدم على التجديف لساعات. كنت أفعل أيًا كان ما كنت بحاجة إلى فعله». في حالة كان الماء متلاطمًا، كان نايت يضع بعض الصخور في مقدمة القارب للمحافظة على استقراره. عادة ما كان يبقى على مقربة من الشاطئ، متخفيًا بين الأشجار، غارقًا في الظلال. أما في الليالي العاصفة، فقد كان يجدف ناحية منتصف البحيرة وحيدًا في الظلام، متحملًا ضربات المطر.
عندما كان يصل لمقصورته المختارة، كان يتأكد من عدم وجود أية سيارة في الممر أو أية علامة على وجود شخص بالداخل. السطو عمل محفوف بالمخاضر لا يحتمل سوى هامش خطأ قليل. خطأ واحد كان كفيلًا باقتناص العالم الخارجي له. لذا فقد كان يكمن في الظلام منتظرًا، أحيانًا لساعات. قال نايت: «كنت أتمتع بوجودي في الظلام».
لم يخاطر قط باقتحام أي منزل مشغول على مدار العام، ودائمًا ما كان يرتدي ساعة ليعرف الوقت دائمًا.
أحيانًا كانت المقصورات تترك مفتوحة. كانت هذه المقصورات الأسهل في اقتحامها، لكن لم يمض وقت قليل قبل أن يصبح اقتحام باقي المقصورات على نفس القدر من السهولة. كان لدى نايت مفاتيح لهذه المقصورات، وجدها خلال اقتحاماته السابقة. خبأ كل مفتاح أمام المقصورة الخاصة به، وعادة ما كان يخبئها تحت صخرة صعبة الوصف. صنع عشرات من هذه المخابئ ولم ينس قط مكان أي منها.
لاحظ نايت عندما تركت الكثير من المقصورات أقلامًا وأوراقًا، يطلبون منه فيها أن يكتب لهم قائمة بما يريد الحصول عليه. وعرض عليه آخرون أكياسًا من اللوازم كانوا يتركوها معلقة على مقبض الباب. لكنه كان يخشى من الفخاخ، أو الخداع، أو بدء أي نوع من أنواع المراسلات، حتى لو كانت قائمة بما يريد الحصول عليه من البقالة. لذا ترك كل شيء دون لمسه، فتوقف الناس عن المحاولة.
كان نايت، في أغلب عمليات الاقتحام التي قام بها، يعالج القفل على النافذة أو الباب. دائمًا ما كان يحمل معه عدة اقتحام الأقفال، وهي حقيبة رياضية بها مجموعة من المفكات والأشرطة المسطحة والأدوات، وكلها أشياء سرقها في اقتحاماته السابقة، وكان بإمكانه التعامل مع كل الأقفال باستثناء البراغي جيدة التحصين التي لا يمكن فتحها إلا بآلة محددة لا تصلح لفتح سواها. وبعد أن كان ينتهي من السرقة، عادة ما كان يعيد إغلاق النوافذ بالمزاليج، ويخرج من الباب الرئيسي، متأكدًا، ما أمكن له ذلك، من أنَّ المقبض سوف ينغلق فور خروجه. ذلك أنه لم يكن ثمة حاجة لجعل المكان عرضة للصوص الآخرين.
تكيف نايت مع بدأ السكان المحليين الاستثمار في تحديث تحصيناتهم الأمنية. كان يعرف التعامل مع أجهزة الإنذار من الوظيفة الوحيدة التي عمل بها، واستخدم تلك المعرفة في مواصلة السرقة، وأحيانًا ما كان يوقف هذه الأنظمة أو يمسح بطاقات الذاكرة من كاميرات المراقبة. تجنب نايت عشرات المحاولات للإمساك به، من ضباط الشرطة، والمواطنين على حد سواء. كانت مسارح الجريمة التي يتركها خلفه شديدة النظافة إلى حد إجبار السلطات على التعبير عن إعجابها. فقد قال أحد ضباط الشرطة: «كان مستوى الالتزام الذي أظهره عند اقتحامه هذه المنازل أبعد مما يستطيع أي منا تخيله ــ جمع المعلومات، والمراقبة، والموهبة في التعامل مع الأقفال، وقدرته على الدخول والخروج دون الكشف عنه.»
وذكر تقرير سطو كتبه ضابط آخر هذا «الإتقان الاستثنائي». شعر الكثير من الضباط أنَّ هذا الناسك كان لصًا محترفًا. بدا كما لو كان يتباهى بما يفعل: يفتح الأقفال، ومع ذلك يسرق القليل جدًا. بدا كما لو كان يلعب لعبة غريبة.
لكنَّ نايت قال إنه في اللحظة التي كان يفتح فيها قفلًا ما ويقتحم منزلًا، كان عادة ما يشعر بشعور جارف من الخجل. «كنت واعيًا، في كل المرات، أنني أفعل شيئًا خطأ. لم أستمتع قط بذلك». وما إن يدخل إحدى المقصورات، حتى كان يتحرك حركات مدروسة، قاصدًا المطبخ أولاً قبل أن يمسح المنزل كله بسرعة، بحثُا عن أية أدوات مفيدة، أو البطاريات التي كان يحتاجها دومًا. لم يفتح الضوء قط. كان يستخدم كشافًا صغيرًا فحسب، متصلًا بسلسلة معدنية كان يرتديها حول رقبته.
لم تكن هناك لحظة سهلة خلال عملية السطو. «كانت ترتفع نسبة الأدرينالين، ويتسارع معدل ضربات قلبي، ويعلو ضغط دمي. كنت خائفًا دومًا عندما كنت أسرق. دائمًا. كنت أريد إنهاء الأمر في أسرع وقت ممكن.»
بعد أن كان نايت ينتهي مما في داخل المقصورة، عادة ما كان يتفحص موقد الغاز ليرى إن كان خزان البروبين ممتلئًا. لو كان كذلك، وكان ثمة خزان احتياطي فارغ، كان يستبدل الفارغ بالمملوء، ليجعل الموقد يبدو كما لو أنَّ أحدًا لم يلمسه.
ثم كان يحمل كل شيء في زورق، لو كان قد استعار واحدًا، ثم يجدف إلى الشاطئ الأقرب من معسكره ليفرغ ما معه. ثم يعود إلى الزورق ليعيده إلى المكان الذي أخده منه، ويرش عددًا من إبر الصنوبر على القارب ليجعله يبدو كما لو أنه يستخدم، ثم يسحب ما نهبه مارًا خلال الغابات الكثيفة، والصخور، وصولًا إلى منزله.
كانت كل غارة تكفي نايت حوالي أسبوعين، وما إن كان يستقر مرة أخرى في غرفته في الغابة كان يشعر بسلام داخلي عميق.
قال نايت إنه لا يستطيع أن يصف بدقة الشعور الذي انتابه من قضاء مثل تلك الفترة الطويلة وحده. لا يمكن ترجمة الصمت إلى كلمات. قال: «الأمر معقد. العزلة تضفي قيمة على الأشياء. لا يمكنني صرف تلك الفكرة عن رأسي. لقد زادت العزلة من إدراكي، لكن ها هنا مشكلة: عندما طبقت زيادة الإدراك تلك على نفسي، فقدت هويتي. لم يكن ثمة جمهور، لم يكن هناك من أؤدي أمامه. لم تكن ثمة حاجة لتعريف نفسي. أصبحت غير مهم».
قال نايت إنَّ الحد الفاصل بينه وبين الغابة بدا أنه يذوب. بدا أنَّ وحدته أقرب ما تكون من تبادل للمشاعر والأفكار. وقال: «تساقطت رغباتي. لم أكن أطمح في أي شيء. لم يكن لي حتى اسم. لو عبرت عن هذا الأمر بشكل رومانسي فسوف أقول: لقد كنت حرًا تمامًا».
تقريبًا، كل من جرب العزلة العميقة قالوا شيئًا مشابهًا. كتب رالف والدو إيمرسون: «أنا لا شيء: أنا أرى كل شيء». وسمى لورد بايرون العزلة «الشعور باللانهائية» وقال الصوفي الأمريكي تومان مرتون إنَّ «العزلة الحقيقية لا تعني أن تسعى وراء نفسك، لكن أن تفقد نفسك».
بالنسبة لأولئك الذين لم يختاروا الوحدة، مثل السجناء والرهائن، فإنَّ خسارة الهوية المخلقة اجتماعيًا لأحدهم قد تكون أمرًا مرعبًا، مغرقًا في الجنون. يسمى علماء النفس هذا الأمر «الخوف الوجودي»، أي فقدان تحكمك في كينونتك. وقال إدوارك أبي، في كتابه «ديسيرت سوليتير» (المنعزل في الصحراء) وهو تأريخ لفترتين امتدت كل منهما ستة أشهر، في مهمتين عمل فيهما حارسًا في حديقة الأقواس الوطنية بيوتاه، إنَّ العزلة لوقت طويل «تعني المخاطرة بكل شيء إنساني». أما نايت، فلم يحتفظ في معسكره حتى بمرآة. لم يشعر بالملل قط. قال حتى إنه لم يكن متأكدًا من إدراكه لمفهوم الملل. قال نايت: «لم أكن وحدي قط». كان يعيش في تناغم مع اكتمال حضوره الذاتي، بدلاً من غياب الآخرين.
قال نايت: «لو كنت تحب العزلة، فإنك لا تكون وحيدًا أبدًا.»
ألقي القبض أخيرًا على نايت، بعد 27 عامًا من العزلة الكاملة، بينما كان يسرق الطعام من معسكر صيفي على إحدى البحيرات. اتهم بالسطو والسرقة، واقتيد إلى سجن محلي. تسبب إلقاء القبض عليه في إحداث اضطراب كبير ــ خطابات وزوار توافدوا على السجن، وطلب حوالي 500 صحافي إجراء مقابلة صحافية معه. وظهر فريق أفلام وثائقية، وعرضت امرأة عليه الزواج.
أراد كل الناس أن يعرفوا ما سوف يقوله الناسك. ما هي الحكمة التي اكتسبها من الوحدة. ما هي النصيحة التي قد يوجهها إلى بقيتنا. لطالما كان الناس يقتربون من النساك بطلبات مشابهة لآلاف السنوات، حريصين على استشارة شخص كانت حياته مختلفة تمام الاختلاف عن حياتهم.
الحقائق العميقة، أو على الأقل تلك التي تحمل معنى من بين كل تلك العشوائية البادية للحياة من حولنا، أمر صعب الإيجاد. كتب ثورو إنه قلل وجوده إلى العناصر الأساسية من أجل أن يستطيع «العيش بعمق وأن يمتص الحياة حتى النخاع.»
سمح نايت في النهاية لصحافي واحد أن يلتقيه، وشارك الناسك قصة حياته خلال تسع زيارات استمرت كل واحدة منها ساعة. تكلم فيها عن كيفية بقائه على قيد الحياة، وكيف كان يشعر بعد أن عاش وحده طول هذا الوقت.
وفي إحدى المرات، عندما كان نايت في مزاج تأملي خاص، بدا راغبًا، في مشاركة المزيد مما تعمله عندما كان وحده على الرغم من نفوره المعتاد من توزيع الحكمة. سأله الصحافي: هل كان ثمة حكمة ضخمة أوحيت إليك بينما كنت في البرية؟
جلس نايت هادئًا ثم وصل إلى جواب أخيرًا.
قال: «احصل على كفايتك من النوم».
ضمَّ نايت فكيه بطريقة توحي أنه لن يقول أكثر من ذلك. كان هذا هو ما تعلمه. وهو بلا شك، أمر حقيقي تمامًا.
المصدر: ساسة بوست
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة