في التاريخ الاسلامي منذ بدء النزاعات حول ايدولوجيا الجبر ومسألة الحرية بدأ التفكير في مسألة اللغة وانقسم فيها فريقان فريق قال بالتوقيف اي ان اللغة الهية في المقام الاول اي انها لم يكونها الانسان بذاته بل تعلمها بمجهود الهي ومفهوم الالهي هنا يتحدد كونه يمثل الاتجاه الغيبي او الفوق طبيعي اي ان الانسان ربما تعلم اللغة من الملائكة ، وفريق آخر قال بالتوفيق فقالوا ان اللغة كونها الانسان الاول واخذت تتسع باتساع معارفه فاخذ يوفق كل شيء جديد يعرفه الى الفكرة التكوينية التي ابتدأ بها وبالتالي يزيح اي مجهود غيبي عن اللغة وتعليمها ، لكن ان كانت اللغة توفيقية بفعل الانسان فلا بد من مبدأ أول يوفق عليه الانسان معارفه ويجعل هذا المبدأ اللغة مولدا للكلمات التي تقابل المفاهيم الجديدة ، ولا بد من ان يخطئ احيانا كون الانسان به جانب قصور ونزوع نحو التغيير ..
غير ان ما يعنينا هنا هو ان اللغة _كما في مقال سابق_ تمثل الاسقاط الاول للفكر على الواقع ، فكون اللغة الهية المصدر فان هذا لا يعني ان اللغة كلها بجميع مفرداتها وتراكيبها قد تعلمها الانسان من الله فلا بد من ان التعليم هنا كان لمبدأ عام او منهج استدلالي مثلا لاشتقاق المفردات ، فيكون الانسان مفكرا للاشتقاق على الاساس الالهي لأن الاله علمه كيفية الاشتقاق او بمعنى اخر دلاه الله على قابلية الاشياء لتكون قابلة للوقوع في قالب لغوي ، فبهذا تكون اللغة الاولى او اللغة الام هي الاسقاط الاول لكيفية تفكير الانسان او ان اللغة هي الفكر الاول ، وبما انها كذلك فهي حاملة للفكر الفكر الاول ، فالجيل الاول للانسان فكر وصنع _ ان جاز لنا ان نقول _ اللغة فجعلها حاملة لفكره ، لذلك فالجيل الاول اقام فكره بنفسه على الاساس الالهي
اما الجيل الثاني الذي ورث لغة كاملة وكافية له على الاقل بنسبة كبيرة جدا للتخاطب بها عن حياته ، وعليه فنسبة احتياجه لمبدأ تولد لغوي ضئيل مقارنة بالجيل الاول ، وعدم الحوجة هذا يولد بغريزة الانسان تساؤلات في ماهية الموجود ؛ فالشخص الذي يفكر في ما يفتقد فانه سيهمل الذي بين يديه بمعنى ان فكرة الفقدان تسيطر عليه اكثر من فكرة الموجود نفسه ، لكن عدم الحوجة لمفقود ما هو ما يولد تساؤلات حول ماهيته _ الموجود_ ولعلنا نقصد بالموجود هنا اللغة ، فان التساؤلات التي ستدور حولها هي كيفية نشأتها ولماذا هذه الدلالات دون غيرها مستخدمة ! ، وبما ان الجيل الثاني من الانسان يجب ان تنشأ عنده هذه التساؤلات فان مع هذه الجيل ستكون هي المرة الاولى لدخول اللغة نفسها حيز المفكر فيه
والتفكير في اللغة سيجعل بطريقة ما المفكر فيه ليس اللغة فقط بس الفكر ايضا فكر الجيل الاول الذي قلنا ان اللغة تمثل الاسقاط الاول له ، فحيز التفكير لهذا الجيل سيزيد بدخول اللغة حيز المفكر فيه وكذلك للاجيال التي تليه ، لذلك لنقد فكر ما لابد من دراسة لغته ونشأتها وتطورها ، فاللغة في مرحلتها الاولى تمثل الفكر لكن في المراحل التالية والاجيال التالية فان اللغة قد تكون قاصرة بسبب تطور الفكر وقد تحجم الفكر اذا لم يوجد لها نقد باستمرار
يمكننا ان نتخيل ان اللغة التي بدأت مع آدم الي يومنا هذا قد تطورت كثيرا وصارات لغات متعددة ، وذلك بسبب جدلية التحديث التقنين للغة ، فحين يكون الوعي بمسألة نقد اللغة كبيرا فان تحديثها هو الذي يكون مسيطرا على اللغة اما التقنين فهو المحافظة على اللغة كما هي بدون تغيير وهذه الجدلية قديمة قدم اللغة نفسها ، فالجيل الثاني من الانسانية حتما اختلف حول المحافظة على اللغة كما هي لانها تمثل فكر الاباء اي تقنينها ، او تحديثها بالحفاظ على مبدأ التولد الخاص بها واشتقاق الفاظ من هذا التولد لمقابلة التحديث المستمر للحياة وايضا ربما الفكر
القرآن يدعو للتفكر حول معانيه ومفرداته وهذه الدعوة للتفكر تجعل اللغة _ لغة القرآن _ حيز المفكر فيه ، ومن منطلق ايماننا فان القرآن يدعونا لفهم اللغة ، ولذلك نجد الاهتمام المبكر بتقنين اللغة في القرون الاولى للاسلام ، الذي يجعل اللغة حاملة لفكره _ ونقصد بالفكر القرآني جميع محتويات الخطاب القرآني الموجهة للناس _ فأي لغة يمكن أن بخاطبنا بها القرآن ؟
القرآن يخاطب الناس بلغة الفكر الاول _ الاسقاط الاول للفكر _ لانه كما ذكرنا فان اللغة الاولى او اللغة الام ربما اخذت مبدأها او اساسها من الاله او ربما هي كاملة من الاله ، فاللغة الاولى هي لغة خالية من التشويه الذي يحدث كثيرا بسبب عدم تدوين اللغة واختلاف البيئات بين متكلمي اللغة الواحدة ولعل ذلك واضحا في اللغة العربية التي بها اكثر من لهجة زمن نزول القرآن ، فالخطاب القرآني يستعيد الفكر الاول الخالي من التشويش عبر جعل اللغة من ضمن المفكر فيه ، وذلك واضح في دعوة القرآن لترك فكر الاباء والتوجه الى الله مباشرة دون وسائط ، هنا يمكننا فهم هذه الوسائط انها اللغات المرحلية التي تكونت الى زمن نزول القرآن ، وكل رسول كان يدعو الناس بلسان قومه لكن بلغة الفكر الاول ، وحين يدعونا القرآن لترك الاباء فهو يدعونا لفهم الواقع بصورتنا نحن ووسائلنا نحن ولكن ان وقعنا في الغلو والاخطاء فان القرآن سيقوم فكرنا للصواب والتقويم هذا نفسه كان يقوم به الرسل قديما اما الان بعد انتهاء زمن الرسالات فان الرسول الخالد هو القرآن الذي يرشدنا دوما للعودة لمنهج الفكر الاول ، بالاسترشاد بصواب الفكر الاول في المنهج الاول _ مبدأ التولد _ وانتاج فكرنا الخاص الذي سيكون ارث لغيرنا ليدرسوه بواسطة القرآن ، وهذا ما يجعل القرآن صالح لكل زمان ومكان ففكرته الاولى هي الفكرة التي صلح بها الجيل الاول للانسانية ، ان القرآن يدخر لنا هذا الفكر دوما ويقص علينا ما جرى للذين خالفوه كحتمية طبيعية للاختلاف ، فصلاح القرآن لكل زمان ومكان يكمن في جوهر فكرة الصلاح الاولى داخله التي يشوهها الانسان اذا عمل عليها وحده دون مرشد فيهلك نفسه ويهلك من حوله ، فالقرآن يرشدنا للصلاح وهذا ما يحتاج منا ان ندرسه بعناية لاستخراج الجوهر منه والاسترشاد بمضمونه فيما يخص حياتنا ووجودنا على هذه الارض