مقالات فكرية

العقل والسلطة: كيف تم تهميش العقل في التاريخ الإسلامي ؟

العقل والسلطة: كيف تم تهميش العقل في التاريخ الإسلامي ؟ – د. محمد عجلان

منذ ما يزيد على ثمانية قرون، حاول الفيلسوف الإسلامي ابن رشد من خلال كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، أن يؤكد على أن الشريعة لا تعارض الفلسفة أو البحث العقلي، بل يثبت بالدليل القاطع عبر آيات القرآن الكريم أنه يجب إعمال العقل، مما يجعل النظر العقلي جزءاً من إتباع أوامر الشريعة. وإذا كان النظر العقلي واجباً بمنطوق القرآن نفسه، فإن دراسة الأدوات اللازمة لهذا النظر العقلي واجبة بالضرورة؛ لأنك لن تحقق نظراَ عقلياَ دون التمرّس بأدوات هذا النظر. لكن ما يهمنا في هذه النقطة هو أن موضوع العلاقة ما بين الفلسفة والدين، هو موضوع قروسطي بالأساس، حيث كانت القضية المركزية المثارة في القرون الوسطى سواء في الشرق الإسلامي أو الغرب المسيحي هي طبيعة هذه العلاقة. وإذا كان الغرب قد استطاع أن يتجاوز هذه القضية، إلا أننا مازلنا نحياها رغم مرور عدة قرون على وفاة ابن رشد، مما يؤكد على أننا لم نبرح مكاننا على مدار قرون عديدة، ويشير إلى حقيقة كوننا مازلنا نعيش القرون الوسطى حضارياً وإن كنا نحيا في القرن الحادي والعشرين تاريخياً. وكان من المنتظر أن نتجاوز نحن لا الغرب هذه القضية بشكل أسرع؛ لأن في الفترة التي أثيرت فيها أمثال هذه القضايا كنا أكثر تطوراً من الغرب بكثير، بل كنا قادة العالم فكرياً وسياسياً، لكن يبدو أن الرياح قد جاءت بما لا تشتهي السفن العربية.

وهذا الحضور الماضوي في الثقافة العربية الإسلامية يؤكد على غياب العقل، والغياب هنا لا يعني الانعدام، ولكن يعني غياب الفعالية، غياب محورية الدور، رغم وجوده على هامش الحياة والمجتمع، كأنه قطعة زينة نلفت الأنظار إليها في أوقات الاسترخاء، لكن وقت الجد يتم إقصاؤها وإعادتها إلى مخازنها. ومن هنا ننتقل إلى سؤال مركزي ألا وهو: لماذا تم إقصاء مدرسة العقل لصالح مدرسة النقل على مدار تاريخنا الإسلامي؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال نطرح سؤالاً آخر سيساهم في الإجابة على السؤال الأول، ألا هو: ما علاقة العقل بالسلطة، وهل يمثل العقل تهديداً لها؟

يبدو أن سلسلة الأسئلة التي تحيل إلى بعضها لن تنتهي، حيث يجب علينا أن نطرح سؤالاً ثالثاً وهو: ما هي آثار التأكيد على قيمة العقل في تشكيل الإنسان؟

من المعروف أن الحداثة الغربية قامت على أسس ثلاثة، وهي: الذاتية، أو الإيمان بقيمة الإنسان كذات حاضرة وليس مجرد جزء من كيان أوسع، والعقلانية، أي اعتبار العقل هو المعيار والمرجعية في التعرف على العالم والحكم على الأشياء، فهو معيار القبول أو الرفض، ثم الإيمان بفكرة التقدم، بمعنى أن العالم يتحرك في خطوات ثابتة دائما نحو تحقيق الأفضل. وبالتالي فإن العقل جزء أصيل كي يشعر الإنسان بذاته وبالتالي يحلم بعالم أفضل، ولا يتوقف عند اعتبار الماضي هو العصر الذهبي الذي لن يتكرر. وهذا الفرد المؤمن بذاته وبقدرة عقله على تغيير الواقع يمثل تهديداً للسلطة الاستبدادية؛ لأنه سيطرح على نفسه الأسئلة عبر هذا العقل عن طبيعة الواقع الذي يعيشه، وحول مدى تناسبه مع الحياة الكريمة التي تليق به كإنسان، ولن ينظر لنفسه كمجرد أحد أفراد قطيع، أياً كان شكل هذا القطيع، وطَرْح الأسئلة والبحث عن النموذج الأفضل للمجتمع يمثل إزعاجاً للسلطة الحاكمة، التي تريد أن تصور الوضع القائم بأنه أفضل وضع، وأنه يجب على المواطن أن يحمد سلطانه على الحال أياً كان.




ولم يكن أمام السلطة لتحقيق هدفها سوى تقديم مدرسة النقل على مدرسة العقل، وبدا ذلك في الانتشار الواسع والدعم الكبير الذي نالته مدرسة النقل، التي تجعل العقل في مرتبة لاحقة على النقل، رغم أن العقل هو وسيلة الفهم بالأساس، ولا يمكن التعاطي مع أي نص بعيداً عن العقل. وربما يعترض البعض على هذا الطرح قائلا: إن السلطة في فترات معينة قدمت مدرسة العقل، وكان هذا واضحا في ظل تقديم المأمون للمعتزلة الذين يمثلون تيار العقل في التاريخ الإسلامي، لكن هذا الوضع كان هو الاستثناء وليس القاعدة من ناحية، ومن ناحية أخرى سنجد أن هذا التقديم للمعتزلة له اعتبارات سياسية، حيث كان المأمون يضرب بهم السطوة التي حصل عليها رجال الدين الممثلين للتيار التقليدي، فقد كانت هناك فترة انتقالية ما بين انتصار المأمون على أخيه الأمين، وبين استقرار الأوضاع في بغداد عاصمة الخلافة، فترة يقول دكتور عابد الجابري أنها كانت تقريبا 5 سنوات ترك فيه المأمون البلاد في حالة فوضى كنوع من العقاب لهم لمساندتهم الأمين، في هذا التوقيت ظهر دور فعال لرجال الدين حين سعوا لمواجهة حالة الفوضى على الأرض، فاكتسبوا سلطة روحية قوية لدى الجماهير، فما كان من المأمون سوى أن يفكر في حيلة لضرب هذه السلطة التي تهدد سلطته، فلم تكن المواجهة المباشرة معهم مجدية، فاختلق قضية خلق القرآن، حتى يضرب هؤلاء، فإن استجابوا لتوجهات السلطة سقطوا من أعين العامة، وإن لم يستجيبوا – كما كان الحال مع ابن حنبل – يكون للسلطة الحق في الخلاص منهم باعتبارهم يمثلون تهديداً للدين.

وليست محنة ابن رشد الذي يمثل العقلانية الإسلامية بامتياز، ببعيدة عما حدث مع تيار ابن حنبل في ظل حكم المأمون وخليفتيه، فقد كانت التهمة التي وجهتها السلطة لابن حنبل ورفاقه من الأصوليين، هي نفسها التهمة التي تم توجيهها لابن رشد، حيث قيل في الحالتين إن هؤلاء يمثلون خطراً على الدين، وأن أفكارهم تهدد عقائد المسلمين، وتمت محاصرة الطرفين ليس لأنهم يمثلون تهديدا للدين بحق، ولكن لأن كل منهما كان يمثل خطراً على السلطة ذاتها، فقد كان ابن رشد بأفكاره هذه التي أعلنوا أنها تهدد صحيح الدين، مقرباً من السلطة في زمانه، وقام بترجمة أعمال أرسطو تحت رعاية أبي يعقوب مؤسس الدولة الموحدية، والذي كان شغوفاً بالفلسفة ودراستها وجمع كتبها، لدرجة أنه اجتمعت لديه مكتبة تشبه مكتبة المأمون العباسي. وقد عين أبو يعقوب ابن رشد على قضاء إشبيلية تقديراً لعلمه ومكانته. وقد حظي ابن رشد بنفس المكانة لدى الخليفة المنصور بعد وفاة والده أبي يعقوب، إلى أن وقعت الأزمة والتي استمرت حوالي عامين عاد ابن رشد بعدها لسابق مكانته. فإذا كان الأمر أمر دين وتهديد للعقيدة، فما كان له أن يعود بعد مجرد عامين إلى سابق مكانته. إلا أن السبب الحقيقي لا علاقة له بالدين في حقيقة الأمر، بل كانت الشكوك التي حامت حول علاقة ابن رشد بأحد إخوة الخليفة المنصور، والذي كان يطمع في السلطة حين مرض الخليفة، فالأمر أوله السلطة وآخره أيضا.

لكن رغم كل شيء، فإن تيار العقل يمثل تهديداً للسلطة بخلاف تيار النقل، حتى وإن كانت ثمة حالات توحي بتأييد السلطة لأنصار العقل، وسر تهديد تيار العقل للسلطة هو أن هذا التيار يساهم في خلق مواطن مدرك لقوته، مؤمن بقدرته على التفكير بنفسه دون وصاية من أحد، تجد تيار النقل الذي يقدّس السابقين، ولا يجد لنفسه حولاً ولا قوةً، فهو جزء من تيار عام ولا يحق له التفكير لنفسه، بل التفكير في المسكوت عنه يصبح جريمة لا تُغتفر، والتاريخ الإسلامي والحاضر الإسلامي أيضا زاخر بالعديد من الأمثلة على ذلك. وهذا المواطن المنمّط غير المدرك لمكمن قوته لأنه توقف عن إعمال عقله، هو ذاته المواطن التي تحتاجه السلطة، وكأن مدرسة النقل لديها خط إنتاج لخلق مواطنين على مقاس السلطة، وهذا يوضح لماذا كان هذا التيار هو الغالب طوال التاريخ الإسلامي، ويؤكد أيضاً لماذا تم إقصاء تيار العقل، وذلك لما يمثله تيار النقل من خدمة كبيرة للسلطة، وما يمثله تيار العقل من تهديد للسلطة القائمة في حال انحرافها عن مسار خدمة مواطنيها، وما أكثر ما انحرفت هذه السلطة عن هذا الهدف، ولذا وجب تكميم العقول قبل تكميم الأفواه، فتكميم العقول يضمن ضيق مساحة المعارضة القائمة على التفكير العقلاني، أياً كان موضوع التفكير؛ لأن العقل حين ينال حريته لن يحبس نفسه في موضوعات بعيدة عن الواقع، وبالتالي سيطال السلطة بالتفكير والتشريح عاجلاً أو آجلاً، فمحاصرة التيار العقلاني هو ضمانة وجودية للسلطة، أما إذا استطاعت قلة أن تنفر من هذا الحصار، فإنها لن تكون ذات أثر، وحينها سيكون من السهل اتهامها بمخالفة صحيح الدين، الذي هو صحيح الدين السلطوي، الذي تم تشكيله على نار السلطة الهادئة على مدار قرون.

وبتوضيح طبيعة علاقة العقل بالسلطة، نكون قد أجبنا على السؤالين الأول والثاني الذين تم طرحهما في بداية كلامنا، وهما: لماذا تم إقصاء مدرسة العقل لصالح مدرسة النقل؟ وما علاقة العقل بالسلطة، وهل يمثل العقل تهديداً لها أم لا؟

لكن، هل ستتمكن السلطة من الاستمرار في لعب هذا الدور؟ هل سنبقى أسرى أنظمة سياسية وفكرية لا تعترف بالعقل أو مكانته؟ هل سيبقى المواطن مستلبا وغير قادر على أداء دوره الإيجابي؟ إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليس أمراً هيناً، ولا يجب أن نصدر حكماً نهائياً عليها بالموافقة أو النفي، إلا أن ثمة متغيرات على الأرض سوف تعيد ضبط قواعد العلاقة ما بين السلطة والجماهير، وثورة الاتصالات هي أبرز هذه المتغيرات، حيث أنها ساهمت في تقليص مساحة سيطرة الأنظمة الحاكمة، وفتحت أمام الجماهير متنفساً لمعرفة البدائل في بيئات أخرى، وكذلك منحتهم إمكانات الفعل بشكل لم يسبق له مثيل. فقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تحريك الجماهير، واستطاع المواطن المغلوب على أمره أن يسقط أنظمة ويقيم أخرى من خلال هذه الوسائل. وقد يبدو للبعض أنها مجرد تغيرات في الشكل لا الجوهر، وأن ثمة أنظمة سقطت، لكن التي تلتها ليست بخير منها، لكن كلامنا هنا حول القدرة على التغيير لا الحكم على نوعية هذا التغيير. بل ربما لا نعدو الصواب إن اعتبرنا أن المستقبل المتشكل وفق سياقات ثورة الاتصال سوف يكون مستقبل الجماهير، مما يدفعنا للقول إننا على أعتاب ما يمكن تسميته بـ “عصر الجماهير”، فقد فقدت السلطة في ظل العولمة جزءاً كبيراً من إمكاناتها لصالح الشركات الكبرى، ومع اختراع وسائل التواصل أصبح بمكنة الجماهير أن تعلن عن حاجاتها مباشرة، مما يجعلنا أمام احتمالية تشكيل جديد لآليات الممارسة السياسية، ربما يدفعنا إلى ديمقراطية مباشرة لكن بآليات حديثة تختلف عن السياق اليوناني القديم. هذه احتمالات ربما تبدو للبعض بعيدة عن التصديق، لكن في عصور تاريخية سابقة كان الحديث عن الديمقراطية تجديفاً، وكانت فكرة حقوق الإنسان مجرد يوتوبيا غير قابلة للتصديق، ناهيك عن القابلية للتطبيق. فإذا كانت الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي مازالت مصرة على استخدام آليات تغييب العقل، فإن الزمن قد تجاوزها بالفعل وسوف يدهس كل نظام يحاول أن يحرّف بوصلة التاريخ. فثورة الاتصالات التي يتعامل معها الكثيرون باستخفاف سوف تكون هي سبيل الخلاص لهؤلاء، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر المقال بمجلة الثقافة الجديدة، عدد مارس، 2017

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى