الحرية في المفهوم الإسلامي ،إشكالية والجواب عنها
الحرية في المفهوم الإسلامي ،إشكالية والجواب عنها
إن المدقق في كتب الفقه الإسلامي يتبين له أنه لم يرد تعريف “للحرية” كمصطلح بالمفهوم المتداول في عصرنا الحاضر ،بل اقتصر الأمر قديما على استخدام هذا اللفظ تحديدا كمصطلح مقابل لدلالته اللغوية ،وكانت دلالته اللغوية تعنى انتفاء القيد أو النقص، ويعنى أيضاً المعدن النفيس ،وإما بمعنى الحرية التي تعني السلامة من الرق والعبودية ،وغالب استعمال علماء الشريعة في مؤلفاتهم الفقهية أو التفسيرية أو الحديثية قديما كان يرجع إلى هذا المعنى الثاني.
ومع ذلك فإنه من المؤكد أن ذلك لا يعني أنهم لم يتناولوا القضايا المندرجة تحت هذا المفهوم بالبحث والدراسة ،فعلى العكس من ذلك تماما ،فقد بحثوا هذه القضايا ،وقدموا نظريات علمية تكاد تشمل جميع المكونات الداخلة ضمن مفهوم الحرية المتداول في عصرنا ،ولكن بأسلوب أخر ومصطلحات أخرى كمصطلح “الاختيار” على سبيل المثال.
ومع هذا فإن الباحثين المعاصرين لم يتركوا مصطلح “الحرية ” بلا تحديد ولكنهم حددوه تحديدا دقيقا على عادتهم في تميز المصطلحات الإسلامية ؛ولقد دفعهم إلى ذلك فيما يبدو ـ للباحث ـ أمران :
الأول: احتلال هذا المصطلح الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مكانة غيره من المصطلحات التي تعبر عن نفس المفهوم قديما وحديثا .
الثاني : الحراك السياسي والديني في العالم الذي جعل من الضروري تحديد مفهوم هذا المصطلح تحديداً دقيقاً نظرا لما يترتب عليه من أحكام شرعية خاصة في الدولة الحديثة.
ولقد بدأ هذا التداول لمصطلح الحرية بمفهومه المعاصر منذ تشكل عصر النهضة العربي، ويعد رفاعة الطهطاوي من أول المفكرين العرب الذين استخدموا مصطلح الحرية وتعرض لمدلوله الشمولي ،وحاول حصر أقسامها وأوصلها إلى خمسة أقسام: الحرية الطبيعية ،والحرية السلوكية والحرية الدينية، والحرية المدنية، والحرية السياسية.
ولعله من أفضل التعريفات التي أوردها الباحثون المعاصرون لهذا المصطلح : بأنها ما يميز الإنسان عن غيره ويتمكن بها من ممارسة أفعاله وأقواله وتصرفاته بإرادة واختيار من غير قسر ولا إكراه ولكن ضمن حدود معينة .
وإن كان الأمر على هذه الشاكلة ،فلا إشكال في المفهوم من الناحية التطبيقية ،إلا إن الأمر قد اعترض بإشكال نظري يتبلور في الملاحظتين الآتيتين حين نجمعهما مع بعضهما حتى إن الأمر قد يبدو فيه تناقضًا على خلاف الحقيقة :
الملاحظة الأولى : أن الدين قائم على العبودية ،والعبودية تعني التسليم والخضوع ،والدليل على ذلك قوله ـ تعالى ـ { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات الآية 56.
يقول الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ : أي ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بالعبادة.
الملاحظة الثانية : أن الحرية هي نقيض العبودية، فالحرية مبنية على حرية الإرادة وانطلاقها .
فكيف للإنسان أن يكون حرًا وهو مأمور بالعبودية؟!!
والحق أن هذا الإشكال دعا بعض غير المتعمقين في الأمر إلى القول بأنه لا حرية في الإسلام .
والحق أن هذه شبهة جوابها يسير ،وبيان الجواب كالآتي :
بداية يجب التأكيد على أن الحرية هي أحد مقاصد الشريعة الإسلامية التي عمدت إلى تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية ورفع كل أشكال التسلط والاستبداد من على عاتقه ،وعمدت إلى تحريره من عبودية غير الله ـ عز وجل ـ بل جاءت الرسالات كلها لتحقيق هذا المبدأ.
وإذا كان الإسلام قائما على التكليف قال ـ تعالى ـ { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} سورة البقرة جزء من الآية 30. ، أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال ـ تعالى ـ { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض} سورة فاطر الآية39.
والمعني بالخليفة هنا في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل آدم عليه السلام ،وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ،وينطبق ذلك على أبناء آدم من بعده ،ولا شك أن هذا تكليف من الله ـ عز وجل ـ لبنى البشر.
وإذا كانت صحة التكاليف مشروطة بعاملين هما العقل والحرية ،فحرية اختيار الفعل أو الامتناع عنه شرط لصحة التكليف.
وأي فعل استخلافي لا يكون بحال من الأحوال تعبديا إلا بقدر ما يكون الإنسان حرا فيه مريدا وواعيًا مسؤولًا .
وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة فلا تدين حقيقي بلا حرية ولا إيمان ولا ثواب ولا عقاب بغيرها؛ فينتفي بالضرورة التعارض الظاهري بين الدين والحرية، بل تصبح الحرية شرطا للإسلام والتدين في حد ذاته.
فبغير الحرية لا يكون الإنسان مختارا لفعله، وإنما يكون مجبرا مضطرا، وبالتالي لا يستحق عليه ثواب ولا عقاب ، سواء في حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ صدر هذا الفعل أو في حق البشر ، فلا يمكن أن نسمي فعل المضطر مع الخلق إحسانا أو مع الله عز وجل عبادة .
وعلى ذلك فالإسلام والإيمان مبنيان على الحرية والثواب والعقاب فيه مبني على الحرية في الأساس ، فالتكليف الذي هو عنوان المسئولية في الفقه الإسلامي هو فرع عن الحرية ،فالعبادة ذاتها غير مقبولة إن لم تنبن على الحرية ،وأصل قبول العمل أيما كان هو الحرية، وبغير هذه الحرية تنتفي المسئولية عن الأفعال سواء أ خيرا كانت أم شرا ،
وبناء على ذلك قرر الفقهاء أن قاعدة المسئولية في الدنيا والآخرة هي الحرية ،وهذا كله يدلل على أهمية الحرية في الإسلام ومناداته بضرورة تحقيقها وفتح الأبواب أمامها ،ليقوم الإنسان بالفعل الاستخلافي في الأرض على وجهه الصحيح.