الأزهر وداعش: الهروب من فخ التكفير – بقلم: د. محمد عجلان
كثر الجدال على مدار السنوات الأخيرة حول موقف الأزهر من تنظيم داعش، وتعددت المواقف ما بين مؤيد ومعارض لموقف الأزهر، فقد رفض د. أحمد الطيب شيخ الأزهر أن يكفّر داعش، وعندما ازداد اللغط حول المسألة، خرج علينا الأزهر ببيان ليوضح موقفه من عدم التكفير، مؤكداً فيه أنه لا يمكن الحكم على مؤمن بالكفر مهما بلغت سيئاته، فالثابت في أصول العقيدة الإسلامية أنه لا يخرج العبدُ من الإيمان إلا بجحد ما أدخله فيه، وهو الشهادة بوحدانية الله ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مهما بلغت ذنوب الإنسان، فإنها لا تُخرج من الدين. فالخروج من الدين مرتبط بإنكار ثوابته.
وعلى الرغم من موقف الأزهر من عدم تكفير داعش، إلا أنه لم ينظر لهذا التنظيم الهمجي باعتباره كغيره من المسلمين، بل اعتبرهم مفسدين في الأرض، مستحقين للعقاب، واتساقا مع بنيته الفكرية وآلته الفقهية، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، طالب بتطبيق حدّ الحرابة عليهم، كما ورد في القرآن الكريم: “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم” (سورة المائدة: 33). وبذلك يكون الأزهر قد أطلق يد السلطة كي تواجه هؤلاء بكل حزم، هذا إن كانت السلطة تحتاج إلى فتاوى لمواجهة الإرهاب من الأساس!
ولم يكن موقف الأزهر، وعلى رأسه شيخه الطيب، بدعاً في التاريخ الإسلامي، فموقفه من عدم التكفير له سوابقه التاريخية، حتى إن كان الأمر متعلقاً بخارجين على المجتمع، ناشرين الخوف والرعب في نفوس الجماهير. فالتاريخ الإسلامي لم يعدم دواعش في تاريخه، حتى وإن اختلف دواعش الأمس عن دواعش اليوم، فمنذ عهد الخلافة الراشدة وثمة دواعش يقتلون المسلمين وغيرهم، ويعيثون في الأرض فساداً باسم الدين وتطبيق شرع الله، وأبرز نموذج تاريخي هم الخوارج، وهم ما يمكن اعتبارهم الجِذر التاريخي للتنظيم الحديث شكلاً، القديم فكراً وسلوكاً. وكان موقف الإمام عليّ بن أبي طالب واضحاً في قضية تكفير الخوارج، فحين سُئل عن كُفرهم من عدمه، فقال السائل: أكفّار هم؟ فرد عليه الإمام علي: بل من الكفر فرّوا”. وبذلك نجد أنه رفض تكفير الخوارج، على الرغم مما سجّله التاريخ من فظائعهم، والتي ربما لا تقل عن وحشية داعش سوى في آليات القتل، والتي اختلفت باختلاف العصر.
وكذلك استند الأزهر في موقفه إلى وجهات نظر الفرق الإسلامية التاريخية، راجعاً بذلك إلى خلاف تاريخي حول كفر وإيمان مرتكب الكبيرة، حيث أن القتل من أكبر الكبائر، بل اعتبر الإسلام أن قتل إنسان أكبر عند الله من هدم الكعبة ذاتها. وقد اختلفت مواقف الفِرق حول مرتكب الكبيرة، هل هو مؤمن أم كافر، ومال البعض إلى تكفيره ومال آخرون إلى عدم تكفيره، معتمدين على فكرة أنه يؤمن بالله ونبوة رسوله والقضاء والقدر .. الخ، وكان موقف المعتزلة التاريخي واضحاً في هذه القضية، حين اعتبروه في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان. لكن لم نجد إجماعاً في تاريخ الفكر الإسلامي على تكفير من يرتكبون الكبائر، بل اعتمدوا على آليات في عقابهم، وتركوا مسألة الكفر والإيمان لله، لأن المسألة شديدة الخصوصية.
إلا أن الباحث في تاريخ الأزهر مع التكفير، سوف يجد أن ثمة تناقضاً في مواقفه، فقد كفّر العديد من المفكرين على مدار سنوات طويلة، وكان من بين أبرز من تلقوا سهام التكفير في العصر الحديث، عميد الأدب العربي، دكتور طه حسين، بل الاتهامات طالت أزهريين كبار، على رأسهم الإمام محمد عبده، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، وكل من حاول أن يخرج عن إجماع الأزهر، سواء كان إجماعاً قائماً على حقائق، أو على ميراث من الكتب الصفراء، ومن بعد هؤلاء كانت سلسلة طويلة من المفكرين ورواد الاستنارة أُلصقت بهم تهمة الخروج من الدين، كفرج فودة، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، وغيرهم الكثير. فهل أعلن هؤلاء إنكارهم لوحدانية الله أو نبوة سيدنا محمد أو ما هو معلوم من الدين بالضرورة كما يقول الأزهريون؟ بالتأكيد لم يتورط هؤلاء المفكرون في أي من هذه الاتهامات، بل جاءت دعاوى التكفير أو هدم الدين أو ما شابه ذلك انطلاقاً من فهم رجالات الأزهر لنصوص هؤلاء باعتبارها تهدد الدين، وبناء على تأويل نصوصهم أصدروا أحكامهم، ومن هنا تناقض موقف الأزهر، كأن تكفير المفكرين جائز، لكن تكفير الدواعش أمر خارج نطاق قدراتهم.
ومن هنا كان السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا كفّر الأزهر المفكرين، وامتنع عن تكفير داعش؟ وتعددت الإجابات بتعدد توجهات من أجابوا على هذا السؤال، فيرى البعض أن الأزهر وداعش يخرجان من بوتقة فكرية واحدة، وإن كان الأزهر يمثّل الظهير النظري والفكري، فإن داعش هي التفعيل الواقعي للفكر المتطرف الذي تناقله الأزهريون على مدار مئات السنين. ويرى هذا الرأي أن هروب الأزهر من تكفير داعش يمثّل نوعاً من دفاع الأزهر عن ذاته، حيث يمثل – من وجهة نظر هؤلاء – المرجعية الفكرية للتنظيم الداعشي. لكن قبل أن نتطرق بالتوضيح لوجهة نظر هؤلاء، ومدى صحة موقفهم من عدمه، يجب أن نطرح سؤالاً آخر حول تورط الأزهر في عمليات تكفير سابقة، وامتناعه عن تكفير داعش، هل كانت سلسلة التكفير قائمة بالفعل في ظل قيادة الشيخ أحمد الطيب، أم أن عملية محاسبة الأزهر تمت بأثر رجعي؟ هل تم تكفير القائمة الطويلة من المفكرين في ظل القيادة الحالية للأزهر؟ أم أن أصحاب وجهة النظر هذه يكيلون اتهاماتهم للأزهر وشيخه، باعتبارها فرصة لمواجهة غريم تقليدي أعاق حركاتهم التنويرية على مدار عقود طويلة؟
ما يبدو أن هؤلاء يريدون التغاضي عنه، هو أن شيخ الأزهر بما عُرف عنه من تفتّح واستنارة، يريد أن يتجاوز التاريخ التكفيري للأزهر، ويضع العقبات الثقال في سبيل من يحاولون انتهاج هذا المنهج، حتى لو اعترض على توجهات البعض وتناولاتهم، كما حدث مع إسلام بحيري مثلاً، فلم يعلن الأزهر تكفيره، وبالتالي لا يمكن المساواة ما بين التكفير والنقد، فالفارق شاسع بين الاثنين، فإذا كان التكفير كارثياً، بما يترتب عليه من نتائج، إلا أن النقد حق مكفول للجميع، من داخل الأزهر ومن خارجه أيضاً، وهذا ربما ساهم في إثراء الحياة الفكرية بصفة عامة، طالما أن الطرف المؤسسي ممثلاً في الأزهر لم يتورط في عملية التكفير. لكن يبدو أننا أمام رغبة في توريط الأزهر في عمليات تكفير، استناداً إلى اختلاف طبيعة الطرف المراد تكفيره، فإذا كانت الأصوات “التنويرية” المطالبة للأزهر بتكفير داعش هي محط التكفير، فما كنا سمعنا سوى أصوات المعارضة، وضرورة تقليص سلطة رجال الدين، واستدعاء نموذج رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى، وما ترتب على تسلطهم، فنحن أمام منهج انتقائي، يؤمن ببعض الفِكْر ويكفر بالبعض الآخر!
وفي مقابل التيار التنويري المتورط في الدعوة للتكفير، نجد تياراً تنويرياً آخر، لم يتعرض لعملية التكفير على الإطلاق، ولم يطالب الأزهر بها، لكنه تحرك في وجهة أخرى، حيث اعتبر أن تطبيق “حدّ الحرابة” خروج على روح العصر، واستدعاء آليات عقابية تجاوزها الزمن. ومن ناحية أخرى يرى أن هذه الآلية عنيفة لا تختلف في شيء عن آليات داعش، فإذا كان حد الحرابة يدعو للقتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل، فإن هذا من وجهة نظرهم لا تختلف في شيء عن الطرق الداعشية في تطبيق ما يرونه تطبيقاً للشريعة الإسلامية، وبذلك – من وجهة نظر هذا التيار – فإن ما دعا إليه الأزهر يورطه في دعشنة موازية على الضفة الأخرى. ويطالب هذا التيار ألا نواجه العنف بالعنف، لأن هذه الثقافة لن تحل الإشكال، بل سوف تزيد الطين بلة.
إلا أنه فات هؤلاء نقطة مهمة، وهي أن العنف عندما يمارس على الأرض فلابد من التصدي له، فإذا كان الحديث حول أفكار متطرفة، فإنه يمكننا مواجهتها بأفكار أكثر وسطية واعتدالاً، لكن حين يتحول التطرف من حيز الفكرة إلى حيز التفعيل وقتل البشر وترويعهم، ففي هذه اللحظة لابد من مواجهة حاسمة لإيقاف نزيف الدم، بما لا يعني بالطبع التوقف عن مواجهة الأفكار المتطرفة بتفكيكها وفضحها أمام العقل الإنساني. مضافاً إلى ذلك أن حد الحرابة ذاته حين تحدث عنه الأزهر، فقد تحدث عنه باعتباره آلية عقابية، من الممكن تكييفها وروح العصر، فليس من الضروري تقطيع الأوصال ولا الصلب ولا ما عدا ذلك، لكن المطلوب هو المواجهة الحاسمة التي تعمل على إيقاف تيار الدم، وضرب برابرة العصر في مقتل.
وبعيداً عن كل ما سبق، من رأي الأزهر وشيخه حول مسألة تكفير داعش، والحجج التي استندوا إليها، سواء كانت مقبولة أم لا، وتجاوزاً لهذا الجدال الذي بدأ ويبدو أنه لن يتوقف كغيره من الجدالات الشائعة على ساحاتنا السياسية والثقافية. يجب علينا أن نطرح سؤالاً – أظنه مركزياً – وهو: هل من الطبيعي أن يطالب التيار التنويري، أو بعض المحسوبين عليه، بتكفير شخص أو جهة مهما كانت؟ هل يجوز أن يطرح هذا التيار الداعي والداعم لفكرة الدولة المدنية فكرة هي بعيدة كل البعد عن روح العلمانية؟ هذا نوع من التناقض، بين دعاة العلمانية والدولة المدنية، وبين مطلبهم الغريب من الأزهر وشيخه، بل كان الأكثر اتساقاً مع توجهاتهم ألا يورطوا أنفسهم في هذا المطلب؛ لأن الدولة المدنية لديها آلياتها القادرة على مواجهة ظاهرة الإرهاب، دون التورط في أمثال هذه الدعاوى غير المتسقة مع طبيعة الدولة الحديثة. فالتكفير والتكفير المضاد جزء من عصر فات، ولا يجب أن نستدعيه تحت أية مسميات.
وإن كانت حجة بعض المحسوبين على التيار التنويري أن للأزهر منزلة روحية لدى المسلمين، وأن تكفيره لتنظيم داعش سوف يصب في مصلحة محاربة الإرهاب، فإن هذا الزعم تجاهل نقطة هامة جدا، وهي أن داعش ومؤيديها – وهم في غالبيتهم من التيار السلفي – لديهم مرجعياتهم الخاصة، سواء مشايخهم داخل مصر أو خارجها، ونظرتهم للأزهر وشيوخه تختزلهم في مجرد مجموعة من وعّاظ السلاطين، وبالتالي لن تكون لهذه الفتوى إن صدرت تأثير يُذكر على التنظيم ولا على داعميه. فكأن هذه الدعوة تطعن الدولة المدنية بالتأصيل للفكر تكفيري، وفي نفس الوقت لن تقدم شيئاً يُذكر في آليات مواجهة هذا التنظيم.
ومن هنا كان موقف الأزهر وشيخه في هذه القضية، وإن كنا نختلف معهم في غيرها، موفقاً غاية التوفيق، بينما موقف التيار الآخر قاصر ومتناقض مع بنيته الفكرية وما يدعو إليه على مدار أكثر من قرن من الزمان. بل ثمة احتمال ألمحنا إليه في بداية المقال، وهو أن الهدف ربما يكون نوعاً من الضغط على الأزهر في صراعه مع السلطة السياسية، على اعتبار أن إضعاف الأزهر من خلال تقديمه كداعم لداعش ورفضه لتكفيرهم، سوف يصب في مصلحة التيار التنويري، ولكن هذه الآلية سلاح ذو حدين، فإن أضعفوا الأزهر بحجج ليست من بين المنظومة الفكرية للتنويرين، فإن النتيجة ربما تصب في صالح إضعاف الأزهر وتشويه صورته، لكنها في النهاية لن تصب في مصلحة التنوير ومساعيه نحو تأصيل قيم المواطنة وحقوق الإنسان، بل سوف تصيب هذا التيار بحالة إضعاف موازية، كأننا أمام رجلين تصارعا فوق قمة جبل، وسقطا معاً في لحظة يأس!
المقال منشور بمجلة الثقافة الجديدة، عدد سبتمبر 2017