لماذا لا يمكننا تذكر مرحلة الطفولة المبكرة من حياتنا؟ – ترجمة: نعمان البياتي
معظمنا لا يتذكر عندما كان طفلاً رضيعاً، أو أكبر من ذلك بقليل، والبعض منا ربما يتذكر أحداثاً قديمة تصل إلى عمر ثلاث سنوات أو أربع، وبغض النظر عن أقدم حادثة نستطيع تذكرها، لا ينكر أحد وجود فجوة في الذاكرة، فلمَ لا نستطيع تذكر مرحلة الطفولة المبكرة؟
يُعد (سيغموند فرويد) أول من أشار إلى هذه الظاهرة، وسماها فقدان الذاكرة الطفولي (Infant Amnesia)، وعزى الأمر إلى أن الذهن يتعرض لكم هائل من المؤثرات والظواهر النفسية، والتي لو حاولتَ معالجتها كلها، فسيتعرض رأسك للانفجار؛ ولم تعد هذه النظرية صالحة الآن، ومنذ وقت فرويد، حاول علماء الأعصاب، وعلماء النفس، واللغويون، أن يجيبوا على هذا السؤال بطرق مختلفة.
الإنجازات العديدة في مجال دراسة الذاكرة قد توفر بعض المعلومات المهمة للإجابة على هذا التساؤل، فعلماء الأعصاب اليوم، يعتقدون أننا لا نتذكر المراحل الأولى من الحياة، لأن أجزاء الدماغ، المسؤولة عن الذاكرة طويلة المدى، لا تكون مكتملة النمو؛ إذ إن جزئين من الدماغ مسؤولان عن تشكيل الذاكرة، هما الحُصَين (Hippocampus)، والفص الصدغي الوسطي (Medial Temporal Lobe)؛ وإلى جانب الذاكرتين طويلة المدى وقصيرة المدى، هناك ناحيتان أخريتان مهمتان، هما الذاكرة الدلالية (Semantic Memory)، والذاكرة العرضية (Episodic Memory)؛ فالذاكرة الدلالية تتضمن تذكر المهارات المهمة، أو مكان تواجد الأشياء في البيئة، والتي تنفعنا في التنقل خلال محيطنا.
أجزاء الدماغ الضرورية للذاكرة الدلالية، يكتمل نموها عند سن الواحدة، إلا إن الحُصين، لا يكون قادراً على مُكاملة الشبكات المختلفة التي يديرها عند هذه السن، ولا يمكنه فعل ذلك إلا ما بين سن الثانية إلى الرابعة.
الذاكرة العرضية تربط الأحداث المنفصلة معاً، لتكوين هيكل خطي، يمكننا التعامل معه؛ وللغرابة، فإن القشرة الجبهية (Prefrontal Cortex)، المنطقة المسؤولة عن الذاكرة الدلالية، لا يكتمل نموها إلا عند العشرينات من العمر؛ فالذكريات التي تتجمع بعد سن العشرين، قد تحتوي العديد من التفاصيل، وعمقاً أكثر، كتحديد تاريخ ووقت حدوث حادث ما بدقة أكبر، ومن المثير للاهتمام، فإن دراسة في ثمانينيات القرن الماضي، اكتشفت أن أضعف ذكريات الناس، هي تلك التي تعود للفترة ما بين السادسة والسابعة، وربما تحاول الدراسة الحالية عن كشف سبب ذلك.
تم نشر دراسة كندية في مجلة (ساينس) في عام 2014، والتي حاولت معرفة سبب عدم قدرتنا على تذكر السنوات الأولى من حياتنا؛ إذ تذكر الدراسة إن عملية تكوين الأعصاب، أو نمو الخلايا العصبية، يتم طول فترة الحياة، إلا إنها تتم بسرعة أكبر بكثير عند الأطفال الرضع، وخاصة في الحُصَين، إذ تخرج خلايا عدة في آن واحد، وتكون العملية قوية إلى درجة تؤدي إلى فقدان الذكريات.
الخلايا العصبية الجديدة تتدافع مع دوائر الذكريات الموجودة، وتزاحمها، ومن ثم تحل محلها، مما يؤدي بالتالي إلى فقدان الذاكرة الطفولي؛ وتتم عملية خلق الأعصاب في جميع الثدييات، وفي هذه الدراسة تم اختيار القوارض للدراسة، فقد بدأ العلماء بالفئران، إذ تم تعريض الفأر لصدمة كهربائية بسيطة عند ذهابه لمنطقة معينة من الحوض، وبعدها تم إعطائهم أدوية، أو جعلهم يركضون على عجلة، الأمران اللذان يؤديان إلى تحفيز عملية خلق الأعصاب في هذه الأنواع.
مع نمو أعصاب متزايد، كانت الفئران أقل قدرة على تذكر الصدمة الكهربائية، وعندما تم إبطاء عملية تكوين الخلايا العصبية، كانت الفئران أقدر على تذكرها؛ وتم إجراء التجربة نفسها على نوعين آخرين، هما خنازير غينيا (Guinea Pigs)، والديكوس (Degus) أحد أنواع القوارض التشيلية.
وتبين إن النوعين الأخيرين، كان لهما معدل تسارع لتكوين الأعصاب أبطأ من الفئران؛ وكنتيجة لذلك، لم يعانوا من فقدان الذاكرة الطفولي، وعندما قام العلماء بتسريع نمو وتكوين الخلايا العصبية، أصبحت هي أيضاً كثيرة النسيان؛ كما أننا نعلم أيضاً إن عملية تكوين الخلايا العصبية السريعة، تحدث في القرود، وربما في البشر أيضاً.
إن حذف البيانات المبكرة قد يبدو خسارة كبيرة، لكنه قد يكون ضرورياً أيضاً، كما يذكر الأستاذ (بول فرانكلاند)، صاحب الدراسة، وعالم الأعصاب الحيوي في مستشفى الأطفال في تورونتو، إذ يقول الأستاذ: “بعض النسيان مهم للذاكرة، فالقدرة التخزينية محددة، وأنت بحاجة لزيادة نسبة الإشارة إلى الضوضاء، كما أنك بحاجة إلى التخلص من النفايات، وأنت كذلك بحاجة إلى تذكر الأحداث والملامح المهمة”.
دراسات أخرى أشارت إلى نقص في المهارات اللغوية، أو إن بعض الأطفال ليسوا ناضجين عاطفياً، لتكوين ذكريات معقدة، كما أن نقصاً في الشعور بالذات يلعب دوراً مهماً في ذلك؛ والدراسة الحالية قد لا تتعارض مع الطروحات السابقة، بل تدعمها في الحقيقة، فقد تكون هذه العوامل جميعها جزءاً من أحجية معقدة؛ ورغم إن احتمالية حدوث الظاهرة -التي تم تجريبها في القوارض- في البشر عالية، إلا إن الجزم بذلك يبقى صعباً، إذ لا يمكننا فتح جمجمة شخص ما لرؤية الدماغ، خاصة إذا كان طفلاً.
وحتى لو تم إثبات الأمر ذاته في البشر، فلا يمكن إغفال الفروقات الكبيرة بين الأفراد، فيما يخص الاحتفاظ بالذاكرة، والقدرة التخزينية؛ وحتى الثقافات المختلفة لها دور في ذلك، فبحسب عالم النفس (كي وانغ) في جامعة (كورنيل)، فإن الأشخاص من الثقافات الغربية، يميلون إلى التذكر أكثر من الأشخاص الشرقيين، وذلك لأن التركيز في الثقافة الغربية على التجربة الفردية، والتي تجعل الذكريات ذات معنى أكثر، وذات أثر عاطفي أكبر؛ حتى الجينات قد تلعب دوراً مهماً في ذلك.
المصدر: المشروع العراقي للترجمة