تمتلئ الفضائيات، وخطب الجوامع، وصفوف الدراسة، وبطون الكتب بمقولات الدعاة المسلمين عن عصر الإسلام الذهبي الذي سيعيد المجد إلى هذه الأمة إن نحن أعدنا إنتاجه وجعلناه واقعاً نعيشه. ولكن عن أي عصر بالضبط يتحدث هؤلاء الدعاة؟ قد نقرأ المقالات التي تتحدث عن قوة شوكة المسلمين أمام أعدائهم في اليرموك، وذات الصواري، وعمورية وغيرها من غزوات المسلمين الناجحة. ونقرأ عن تمدد المسلمين عسكرياً نحو الأندلس غرباً والهند والصين شرقاً. ولكننا بدرجة أقل نسمع عن تمدد الحياة الفكرية في بعض العصور إلى درجة وسعت معها كل ما يفرزه العقل البشري من نتاج فكري يعبر ما نراه اليوم من خطوط حمراء.
إن الدولة الاسلامية بمختلف تسمياتها الأسرية، أموية كانت أم عباسية أم فاطمية، أو بمختلف توجهاتها الفكرية من سنية أو شيعية لها تاريخ طويل من القمع الفكري للآخر كجزء من ثقافة القرون الوسطى التي عاشت فيها. وكان الخليفة هو المقابل الفعلي لبابا روما الذي كان يدير دفة التسامح والتشدد بناءً على المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها. ولهذا السبب، ولغيره من أسباب سنفصلها لاحقاً، رأينا ومضات منيرة في مسيرة الدولة الاسلامية وصلت فيها حرية الفكر والابداع إلى مستويات غير مسبوقة بمقاييس القرون الوسطى، بل حتى بمقاييسنا العربية الآن. وهذه هي الفترات التي يعالجها الدعاة السلفيون بانتقاء وتجاهل لمعظم ما فيها من ملامح المجتمع المتفتح الذي يعطي الحرية للآخر ليتكلم، وإن لم يتفق معه.
ولو استعرضنا شيئاً من ذلك الماضي القديم وقارناه باليوم لوجدنا تراجعاً لا تنكره عين المنصف. ففي عهد الرشيد مثلاً، كان يوحنا بن ماسويه المسيحي معتمداً للإشراف على المدارس، وعلى صحة الخلفاء بل وقام المأمون بتعيينه رئيساً لبيت الحكمة، وهو أعلى مؤسسة ثقافية في ذلك العصر. في الوقت الذي نرى فيه طالبات في مدرسة ثانوية بمصر في القرن الحادي والعشرين يعترضن على تعيين مديرة مسيحية لمدرستهن. وفي زماننا الحاضر الذي أصبح فيه تهنئة المسيحيين بأعيادهم مثاراً للجدل ولفتاوى التحريم، نقرأ ما كتبه آدم متز في كتاب “الحضارة الاسلامية”: “ولكن المسلمين، خلافاً للكنيسة النصرانية، تركوا النصارى يتصرفون فى أمورهم الدينية من غير تدخل واشتركوا فى الجانب الاجتماعى المسلي من تلك الأعياد. فمثلاً كانت أعياد أهل بغداد تكاد تكون نصرانية من كل وجه، وكانت أعياد القديسين فى مختلف الأديرة أكثر الأعياد نصيباً من احتفال الناس”.
بل إن حرية الفكر التي نتحدث عنها هنا وصلت إلى حد انتشار الإلحاد وكتاباته في العصر العباسي الأول على الملأ. ونستذكر هنا ما قاله أحد أشهر الملاحدة في العصر العباسي ابن الراوندي الذي شكك في وجود الله، وأنكر المعاد، والنبوة وقال في أحد مؤلفاته: “إنّ الملائكة الذين أنزلهم الله تعالى في يوم بدر لنصرة النبي بزعمكم، كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطشة على كثرة عددهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين، فلم يقدروا أن يقتلوا زيادة على سبعين رجلاً. أين كانت الملائكة يوم أحد؟ لما توارى النبي ما بين القتلى فزعاً وما بالهم لم ينصروه في ذلك المقام؟” ولم يقم أحد بقتله أو تكفيره، بل قام علماء الدين بالرد بروح الحوار المتحضر وصنفوا مؤلفات في الرد على ما قاله. كان هذا في بغداد التي كانت عاصمة لا يمر فيها يوم دون أن يخرج على الناس فيه بحث علمي أو كتاب مترجم. وكان الناس يتلقفون ما تصدره أيادي الوراقين الذين ازدهرت مهنتهم بلهفة فيقرأون ويناقشون ويقبلون ويرفضون. وربما يؤشر هذا لسبب آخر لازدهار الفكر في تلك الفترة وهو أن ثقافة الرأي العام واطلاعه لهما علاقة طردية بتسامحه الفكري. ففي تلك الحقبة نفسها عاش المعري بأشعاره المتشككة في الدين، وابن المقفع بعقليته المتسائلة الملحدة، والرازي وابن حيان وغيرهم من كبار العلماء والأدباء والشعراء. نستذكر هذا في الوقت الذي نرى فيه أحكاماً بالسجن والجلد على رائف بدوي في السعودية، وضد فاطمة ناعوت وإسلام البحيري في مصر، وحكماً بالإعدام على محمد الشيخ ولد مخيطير في موريتانيا وغيرهم. لم يقف أحد، في تلك الفترة الزمنية التي نتباهى بها اليوم، ليفرض قانون ازدراء الأديان الذي نراه الآن سيفاً معلقاً على رؤوس المفكرين وآخرهم سيد القمني.
ومع أننا نعرف ونعترف أن هذه الفترات كانت متقطعة واستثنائية ولها أسبابها السياسية والاجتماعية، فإن دلالتها عميقة. فلا مجال الآن حتى لأن نتخيل وقوع شيء كهذا في محفل عام في العالم العربي.
لا نقول هنا إن عصور الدولة الاسلامية على اختلاف مسمياتها كانت كلها فترات تسامح. بل على العكس، وكما أسلفنا، ففي تاريخنا الاسلامي مسيرة طويلة من القمع الذي صلب فيه غيلان الدمشقي، وقتل ابن المقفع والحلاج بشكل بشع، وتم تكفير وملاحقة الكثيرين بتهم الزندقة والكفر سواء في محنة خلق القرآن أو غيرها. ولكن السؤال هنا: لماذا نشتاق ونسوق بل ونمارس ما كان موجوداً في عصور الظلمة في الدولة الاسلامية بدل أن نأخذ بتلك الومضات المنيرة التي أثبتت أنه يمكن للدين أن يتعايش مع النقد بمبدأ لكم دينكم ولي دين؟
هناك شبه إجماع على أن ذروة العلم والتقدم في الدولة الاسلامية فكراً، وبحثاً وترجمة، كانت حين أصبحت بغداد مركزاً عالمياً يقصده العلماء والمفكرون لعرض نتاجاتهم الفكرية والعلمية على الخليفة. ولا يقول أحد إن عصر المتوكل المتعصب كان عصر ازدهار مثلاً مقارنة بأيام الرشيد والمأمون. فلماذا إذاً نتباهى بعصرهما ونمارس اليوم سياسة المتوكل وغيره من ضيقي الأفق ومهووسي التقليد والاتباع؟
هل سنكون أمناء إذاً إن نحن جيّرنا كل هذا التقدم الفكري والعلمي لمصلحة مشروع سلفي يقوم على هيمنة رجال الدين والفهم التقليدي الضيق في عبادة النص وتقليص هامش التسامح واستعارة عقلية القرون الوسطى في زماننا الحديث؟ الجواب يكمن في معرفة حقيقة أن النص المقدس نفسه بنصوصه المجردة لم يكن السبب في ربيع الفكر والعلم الذي رعاه المسلمون آنذاك. فالنص كلام يفهمه الرجال. أي أن النص لا تأثير له على الحياة الانسانية إلا بعد أن يهضمه العقل البشري ويحيله فعلاً ملموساً على أرض الواقع. وهنا تكمن إشكالية تحول النص إلى أداة للقمع، أو إلى عامل إثراء للمسيرة البشرية بناء على العقل الذي يعيد انتاجه في وقتنا الحالي. وحين يكون مفهوم أن العقل هو كلمة الله العليا للإنسان، فإن النتيجة الواضحة هي ترجمة متفتحة تتعامل مع جوهر النص لا مع منطوقه فقط وتنتج مساحة رحبة من التسامح والتقبل للآخر. ولهذا انتعشت التجربة الانسانية آنذاك وكنا وقتها حيث هو الغرب الآن. إن المجتمع الذي يرد على الكلمة بالكلمة، لا بالتكفير والسجن والقتل، هو مجتمع يدرك أن قوة الفكرة تكمن في مضمونها لا في الحراس الذين يقفون حولها يرهبون الناس إن هم انتقدوها.
ولننظر هنا إلى تعريف الدكتور محمد شحرور للحرية الفكرية في الاسلام لنرى كيف يئد بعض المفكرين المعاصرين الحرية في الوقت الذي يدعون فيه حمايتها. يقول الدكتور شحرور: “ومما يجدر ذكرُه هنا أن الإسلام عندما أطلق حرية الفكر قيَّدها بالحفاظ على أركان الدين؛ وهو أساس الدولة، فليس من حق شخص يدعي أنه يفكِّر ثم يصل من تفكيره هذا إلى نفي الألوهية أو الرسالات السماوية، أو الطعن فيما هو مُسلَّم من الدين، ويُعلِنُ ذلك على الناس، فالإسلام لا يَسمَحُ بذلك تحت أي اسمٍ، أو في أية حال. إن المعتقدات الأصليَّة في الإسلام، والأصول المقررة في الشريعة – ينبغي أن تكون في الدولة الإسلامية فوق حرية الفكر، وليس هذا قيداً على الحرية؛ وإنما هو ضمانٌ أكيد للحرية فيما وراء ذلك”. لو كان هذا الرأي هو السائد في عصر الازدهار الفكري لما رأينا أثراً للرازي، أو ابن حيان، أو المعري، أو ابن المقفع أو غيرهم من الأعلام.
إن هناك خوفاً أو لنقل تخويفاً لا أساس له من انتشار العلمانية وما ينتج عنها من قيم التسامح وتقبل الآخر وحرية الفكر في مجتمعاتنا بحجة أنه مفهوم غربي سيهدم شخصية العرب الثقافية. بينما في واقع الحال، كانت للدولة الاسلامية قديماً فترات من التسامح لا تنكر في خضم مسيرة طويلة من القمع والأحادية الفكرية التي كانت سمة تلك العصور سواء في العالم الاسلامي أو المسيحي.
المهم هنا هو أن نقرر أن التسامح الفكري بكل ما يجلبه من حريات اجتماعية ليس دخيلاً أو غريباً على ممارساتنا أو ثقافتنا العربية. ومن الغريب أن نرى من يمجد الماضي القمعي للدولة الإسلامية اليوم ويتجاهل تلك الومضات المضيئة في التاريخ لأنها لا تخدم مشروع التسلط الفكري-الديني الذي يسعى إليه دعاة الهيمنة الدينية التقليدية على مجتمعاتنا المعاصرة.