مرت مكتبة الإسكندرية التي أنشئت فى عهد بطليموس الأول، والتي كانت منارة عالمية للعلم والمعرفة على مدى قرون، بفترة عز وازدهار، إلا أنه لسوء حظ المكتبة، وسوء حظ تراث البشرية، أن عامة الأحوال تدهور فى مصر زمن بطليموس السادس والسابع والثامن، وخيم الإهمال على المكتبة، وفى سنة 145 ق.م، اضطر أرستاخوس إلى الرحيل عن الإسكندرية، وذهب إلى جزيرة قبرص، حيث بعد تلك السنة بسنوات قلائل. وما يدل على تدهور أحوال المكتبة بعد ذلك التاريخ، أننا لا نستطيع أن نذكر اسماً لأمين من الأمناء بعد أرستاخوس، وكان هذا التدهور ناحية واحدة من نواحي التدهور الهلينستي فى مصر، وظلت أحوال المكتبة تتأرجح بين صعود وهبوط. حسبما تقتضيه أحوال البلاد السياسية، وظلت على ذلك قرابة قرن من الزمن، حتى عام 48 ق.م، وهو العام الذي التهمتها فيه النيران التي أشعلها “يوليوس قيصر”.
فبعد احتلال “يوليوس قيصر” للإسكندرية عام 48 ق.م، واجهته ثورة انتصاراً لبطليموس الثالث عشر، ولما كان محاصراً فى حي البروكيوم، لم يجد أمامه إلا حرق الأسطول المحاصر، فامتدت ألسنة اللهب إلى دار صناعة السفن، وما جاورها من المباني، وانهزم العاهل البلطمي وأعاد قيصر كليوباترا إلى الحكم. وقد ذكر المؤرخ “بلوتارخ” أن المكتبة كانت ضمن هذه المباني، وبهذه الفعلة الشنيعة، ضاعت ذخائر لا يمكن تعويضها بأموال العالم جميعها. وقد أغفل المؤرخون الرومان ذكر هذه الحقيقة عن عمد. فها هو “استرابون” وقد زار الإسكندرية فى عهد “أغسطس” لا يذكر شيئاً ما عنها وعن احتراقها، يقال إنه سكت عن ذلك عمدا، تلبية لرغبة الوالي الروماني “اليوس جالوس”، وكل ما ذكره المؤرخ “ديودور الصقلي”، أنه اطلع على نشرات كانت تصدر فى البلاط الملكي، استقى منها بعض معلوماته التاريخية، ولم يشر قط إلى “مكتبة” استمد منها معلوماته. ولم يذكر حقيقة حرق المكتبة إلا الفيلسوف “سنيكا” بعد ذلك بمائة عام تقريبا. ويقال إن رصيد هذه المكتبة كان قد بلغ من خمسمائة إلى سبعمائة ألف من المجلدات عند إحراقها، ويقول “بلوتارخ” إن ما ا لتهمته النيران فى ذلك الحادث بلغ أربعمائة ألف من المجلدات. ولما علمت كليوباترا بكارثة المكتبة، امتلأت نفسها بالحسرة والألم؛ لاعتزازها بها اعتزازا عميقا، مما دفع بالقائد الروماني “مارك أنطونيو” الذي خلف قيصر أن يعوض مصر عن هذه الخسارة العلمية، فأهدى كليوباترا عام 40 ق.م ما يقرب من مائتي ألف من المجلدات كما يقول المؤرخ بلوتارخ. كان أنطونيو قد استولى عليها من مكتبات ملوك برجامون، وقد أودعت هذه المجلدات فى معبد القيصرون، وكان يتردد عليه بعض العلماء من أشهرهم “استرابون”.
وفى عام 296 م، أمر الإمبراطور الروماني “دقلديانوس” بحرق كتب الكيمياء بالإسكندرية، لاستخدام بعض الإغريق فى الإسكندرية الكيمياء فى تزييف العملة. ويذكر لنا المؤرخون أن معبد القيصرون ومكتبته قد دُمرا فى أثناء الحوادث التي وقعت عام 366 م بسبب الثورات الدينية، وهُدم معبد القيصرون وضاعت مكتبته.
أما مكتبة السرابيوم، هي المكتبة الصغرى، فقد انتقلت بعض كتبها إلى القسطنطينية، وكانت هذه المكتبة فى حجرات متصلة ببناء المعبد الذي أحرق بسبب الصراع العنيد بين الوثنية وبين المسيحية. وفى عام 389 م شب حريق فى المعبد، وأكلت النار ما تبقى من الكتب فى المكتبة، وبلغ هذا الصراع بين الوثنية والمسيحية ذروته فى عهد “ثيودوسيوس” عام 391 م على يد المسيحيين بقيادة الأسقف “نيوفيلوس”؛ لأن هذا المعبد وهو معبد السرابيوم، كان من أكبر معاقل الوثنية لمحاربة النصارى، قام نيوفيلوس بهدم هذا المعبد، وبذلك لم يتبق من مكتبة الإسكندرية شيء، بل ضاع كيانها الأصلي، ولم يعد لمكتبة السرابيوم وجود بعد عام 391 م. ويقول “أروزيس” الكاتب المسيحي: إن مظهر رفوفها الفارغة، كان لا يزال بعد ذلك بعشرين عاما مما يثير شجون العلماء.
الفرية التي انطلت على العرب:
إنها الفرية القديمة، التي افتراها المفترون على العرب عندما دخلوا مصر فاتحين، قالوا إنهم ما بلغوا الإسكندرية، حتى جعلوا من كتبها طعاما للنيران، وأول من أشاع هذه الفرية “عبد اللطيف البغدادي” فى كتابه “الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر” بعد عام 628 هـ – 1231 م، وقال بها أيضا “ابن القفطي” بعد عام 646 هـ – 1228 م فى كتابه “إخبار العلماء بأخبار الحكماء” ومن أصحاب هذه الفرية أيضا “القس أبو الفرج المالطي” بعد عام 685 هـ – 1277 م فى كتاب “مختصر الدول”، وكل هؤلاء جاءوا بعد حادث الحريق بمئات السنين، وينضم إليهم فى هذا الاتهام “جورجي زيدان” فى العصر الحديث.
شهادات المنصفين:
ولكن طائفة كبيرة من الباحثين المنصفين، الذين لم تنطل عليه هذه الفرية، دحضوها بالأدلة الدامغة، فكفونا البحث فى هذه المسألة، ومن هؤلاء المؤرخ الإنجليزي الشهير “جيبون” فى كتابه اضمحلال الحضارة الرومانية” الذي ذكر فيه أن هذه الفرية لفقها على المسلمين “أبو الفرج العبري” فى تاريخه “مختصر الدول” وقد ترجم إلى اللغة اللاتينية، فتلقفها أهل الغرض من الفرنجة فأذاعوها، وكان ذلك بعد ستة قرون من فتح العرب لمصر، وعلى التحقيق فى النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد وفاة “عبد اللطيف البغدادي” ولعله نقلها عنه. وفى أثناء هذه القرون الستة الأولى، من بعد فتح العرب مصر، كتب مؤرخو الفرنجة عن الإسكندرية ما كتبوا، فلم نجد ذكرا واحدا لحريق المكتبة، ذلك الذي زعموا أن عَمْراً بن العاص قام به بتوجيه عمر، وكان أولى أن يذكر”.
حتى رينان، كاره الإسلام أنكر هذه الفرية ونفاها، وقال: إنه لا يعتقد أن عُمر أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية؛ لأنها كانت أحرقت قبل ذلك بزمان طويل.
ويقول فيلسوف الحضارات “جوستاف لوبون” فى كتابه “حضارة العرب” إن المكتبة كانت غير موجودة عند الفتح العربي، إذ كانت قد أحرقت عام 48 ق.م عند مجيء يوليوس قيصر إلى الإسكندرية. ويقول “بتلر” فى كتابه “فتح العرب لمصر” إن يوليوس قيصر كان محاصرا عام 48 ق.م فى حي البروكيوم، يحيط به المصريون من كل جانب وعليهم قائدهم “أخيلاس” فأمر قيصر بإحراق السفن التي كانت فى الميناء، فامتدت النيران إلى المكتبة فأحرقتها وأفنتها. ويدل على صدق هذا القول، أن أحد الرحالة الرومان واسمه “أورازيوس” زار مصر فى أوائل القرن الخامس الميلادي، وكتب عنها عام 416 م، وذكر أنه لم يجد سوى رفوف خالية من الكتب فى هذه المكتبة. هذا بالإضافة إلى أن الكُتّاب فى القرنين السابقين للفتح العربي، لم يذكروا شيئا عن وجود مكتبة عامة فى الإسكندرية، وكذلك “حنا النقيوسي” الذي عاش فى القرن السابع الميلادي، لم يشر بشيء إلى المكتبة ولا إلى إحراقها، مع أنه كتب عن الفتح العربي بشيء كثير من التفصيل.
ويقول العلامة المستشرق “ماكس مايرهوف” :يكاد يكون من الحقائق التي أجمع عليها المؤرخون أنه لم تكن بالإسكندرية مكتبة كبرى عامة بعد نهاية القرن الرابع الميلادي، حيث كانت قد ضاعت معالم تلك المكتبة إبان الصراع الهائل بين المسيحية والوثنية على طول القرون الأربعة التي أعقبت الميلاد.
كما يذكر “شارل ديل” فى كتابه “تاريخ الأمة المصرية” أنه لم يذكر “حنا النقيوسي” الذي يكاد يكون معاصرا للفتح العربي، والذي كان رجلا عالما، شيئا عن حريق المكتبة. واختفت المكتبة التي كانت فخرا للمتحف منذ أمد بعيد قبل الفتح العربي بشهادة “بلوتارخ” و”سنكا” و”دايون كاسيوس” و”أمين مرسلين” و”أوزوز” فى الحريق الذي صحب ثورة الإسكندرنيين على قيصر، أما تلك المكتبة الشهيرة التي أسست بعد سنوات فى بعض جهات “السرابيوم” فقد اختفت على الأرجح فى سنة 391 م، حينما خربها المسيحيون فى ثورتهم على الوثنيين، أو اغتصبت وتفرقت كتبها على أيدي سبأ، ولم يذكر واحد من كتاب القرن الخامس الذين زاروا الإسكندرية، ولاسيما “حنا مسكوس” الذي كان شغوفا بالمسائل الفكرية، شيئا عن وجود مكتبة كبرى فى الإسكندرية.
وبهذه التدليلات القاطعة، يمكننا القول بكل اطمئنان: إن عمرو بن العاص لم يحرق مكتبة الإسكندرية، وإن اتهامه بهذا محض افتراء عليه وعلى العرب، ولا يبعد أن يكون “عبد اللطيف البغدادي” و”ابن القفطي” و”أبو الفرج المالطي” قد أخذوا جميعا هذه الأخبار الملفقة عن مصدر يعادي العرب، خصوصا وأنهم جميعا عاشوا فى القرن السابع الهجري. ونستطيع أن نقول أيضا: إن الروايتين اللتين ذكرهما ابن القفطي وأبو الفرج تكادان تكونان رواية واحدة لاشتراكهما فى كثير من العبارات والتراكيب.
ــــــــــــــــــــــ
هذا المقال جزء من بحث نشره الباحث محمود قنديل فى مجلة العصور الجديدة تحت عنوان “هل اليونانيون أصحاب مكتبة الإسكندرية ؟