المواثيق الإسلامية لحقوق الإنسان: بحث في المرجعيات – بقلم: محمد عجلان
بداية، يجب أن نضع السياق التاريخي للفكرة التي سنقوم ببحثها في الاعتبار؛ لأن إسقاط هذا السياق التاريخي يورطنا في رؤية غير دقيقة، وبالتالي نتائج غير صحيحة. لأن بحث قضية مرّ عليها قرون بمنطق الراهن الذي يشكل عقولنا، هو ظلم للقضية التي نقوم ببحثها، وإمعان في التلبيس من جانب الباحثين لهذه القضية بهذا المنطق المغلوط. وإذا كانت القضية التي نبحثها عبر هذه الورقة هي حقوق الإنسان والمصادر التي استقت منها المواثيق الإسلامية فكرتها عن تلك الحقوق، فإننا يجب أن نضع في اعتبارنا السياق الحضاري العالمي الذي جاء الإسلام ليتفاعل معه تأثيراً وتأثراً، وماذا كان ينقص منظومة الحضارة، وماذا قدم لهذه المنظومة، ثم نبحث هل توقفت سيرورة الحضارة بدخول المسلمين في بيات حضاري امتد لقرون، ولم يخرج المسلمون منه حتى الآن، رغم كل المحاولات التي تُبذل في سبيل تحقيق هذا الخروج.
على مدار التاريخ الإنساني، كانت على الدوام ثمة سيطرة لقضية ما على غيرها من القضايا من حيث الأهمية والاستحواذ على الفضاء التفكيري العام، ولا نعدو الصواب إذا اعتبرنا أن قضية حقوق الإنسان في ظل العصر الحالي هي أشبه بكلمة السر، التي يمكن من خلالها الحكم على مستوى حضاري لمجتمع معين، ناهيك عن توظيفاتها المختلفة لأغراض خارج سياقات الإنسانية وحقوقها، مما يؤكد على محورية دورها، ومركزية تأثيرها. ويضرب مفهوم حقوق الإنسان، بجذوره البعيدة في الفكر القديم، وفي فكر العصور الوسطى لدى مختلف الديانات والمذاهب التي شهدت تبلور اتجاهات فكرية ذات منزع إنساني، إلا أن النشأة الحقيقية لمفهوم حقوق الإنسان ترتبط بالتحولات التاريخية والفكرية التي حدثت في أوروبا منذ عصر النهضة، والتي بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الذي أعلنته الثورة الفرنسية 1789 ([1]).
ما قبل ظهور الإسلام:
من المفيد في طرحنا التأصيلي أن نلقي نظرة على المراحل السابقة على ظهور الإسلام؛ لأن هذا مفيد بشكل عام في فهم حقيقة الدور الذي لعبه الإسلام في هذا الملف الحقوقي. لم تخلُ المراحل التاريخية السابقة على الإسلام من إنسانيات تتسق مع طبيعة كل مرحلة، فحين ظهر الإسلام لم يكن العالم صفر اليدين حقوقياً، فالحضارات والديانات السابقة عليه لم تتجاهل الإنسان، بل كانت ثمة إسهامات على مدار آلاف السنين سبقت ظهور الإسلام، وكان دوره تكميلياً لا ابتداعياً. ففي مصر الفرعونية، والتي تعد من أولى الحضارات في التاريخ، يمكن أن نلحظ اهتماماً بحقوق الإنسان، وإن كانت الأفكار في هذه الفترة الزمنية الضاربة في عمق التاريخ غير واضحة، ولم تكن تحمل تلك المسميات الحديثة، إلا أنها لم تكن معدومة، خاصة في ظل الدولة الفرعونية الوسطى، والتي شهدت تطوراً في مجال حقوق الأفراد، لأن الدولتين القديمة والحديثة عاشتا في ظل سيطرة تامة للحاكم الذي عومل كإله، لكن في ظل الدولة الوسطى كان ثمة تطور، حيث تم التخلي عن فكرة الملك الإله، ولم يعد الملك يستحوذ على كامل الأرض المصرية، وسادت حالة من المساواة بين المواطنين إلى حد كبير، وتمكنت المرأة من الحصول على مكانة ممتازة؛ لدرجة أن حكمت العديد من الملكات الدولة. وكان من أبرز علامات تقديس المصريين للعدالة أن عبدوا الإلهة ماعت، إلهة الحق والعدل والنظام في الكون.
وفي الحضارة العراقية القديمة كان قانون حمورابي قد أولى عناية كبيرة للأحوال الشخصية والعبيد، والعدل والمساواة بين الرعية، حيث أخضع المواطنين لأحكامه سواء كانوا موظفين أو رجال دين أو عبيداً أمام القضاء، وأعطى المرأة حقوقاً مادية ومعنوية، وأولى عناية بالأسرة وبالأولاد، ونظم حالات الزواج والمهور والطلاق والإرث وحدّ من سلطة الزوج على زوجته، وأعطى الزوجة الحق في الدفاع عن نفسها وعن حقوقها، وسمح لها بإدارة أعمالها وأملاكها، وخفف من سلطة الأب على أبنائه، وحصر حق الحرمان من الإرث بالمحكمة، ولم يكن بإمكان الأب أن يحرم ابنه من الإرث إلا إذا قدم أسباباً مقنعة للمحكمة. وساوى القانون بين الأبناء في الإرث، إلا أنه ميز بين المواطنين والأجانب وبين الأحرار والعبيد، ونلمس من قراءة بنود قانون حمورابي حرصه على إحقاق الحق، وقد خفف من سلطة الأب التي كانت مطلقة في القانون السومري، حيث أحال مسألة حرمان الأب ابنه من الإرث إلى المحكمة، وإذا ثبت للمحكمة بالأدلة أن الأب محق في عمله، حكمت له وحتى إذا ظهر أن الأب على حق فيجب أن يغفر لولده ذنبه في حالة اقترافه الذنب للمرة الأولى. كما وضع قانون حمورابي حداً لسلطة الزوج في الطلاق. فقانون العائلة السومري أعطى الزوج الحق في طلاق امرأته متى شاء وبدون أي سبب، وسواء كان لديها أطفال أم لا. وفي إطار المساواة بين أفراد الرعية، فقد فرض حمورابي على الطبقة العليا التي ينتمي إليها، أن تحسن التصرف وتكون القدوة في سلوكها للآخرين، وجعل العقوبة عليها أشد من العقوبة التي تفرض على الآخرين في نفس الجريمة أو الحادثة التي تقع ([2]). إلا أن ذلك لم ينف العقوبات الوحشية التي تضمنها قانون حمورابي، والتي لو قسناها بمقاييس الوقت الحاضر، لاعتبرناها ضد حقوق الإنسان.
أما في إطار الحضارة اليونانية، فبموجب قانون صولون الذي صدر عام 594 ق. م منح الشعب حق المشاركة في السلطة التشريعية عن طريق مجالس الشعب، كما جعل القانون للشعب حقاً في المساهمة بانتخاب قضاته، وقد حرر صولون المدينين من ديونهم وأطلق سراح المسترقين منهم، ومنع استرقاق المدين والتنفيذ على جسمه كوسيلة لإكراهه على الوفاء بالدين، وقضى على نفوذ أرباب الأسر الحاكمة عن طريق تفتيت الملكيات الكبيرة. والحقيقة أن المواطن الأثيني كان دائم الاهتمام بالشؤون العامة والمشاركة فيها دون قيد أو شرط، إذ استطاعت أثينا أن تتغلب على قضية حق الفرد الواحد في الحكم والسياسة العامة والاقتصاد ونظرت إلى قضية حق المواطن في الحرية والحياة بشكل متطور عن الحضارات السابقة. فقد كان الإنسان محور الحياة وهذه هي الفترة التي امتدت بين صولون وبركليس، إلا أن المسالة بدأت تتغير بعد بركليس، فهذا الحاكم الذي حكم أثينا اعتباراً من عام 444-429 ق.م تمتع المواطنون أثناء حكمه بحق المساواة وحرية الكلام والمساواة أمام القانون، كما أخذت الديمقراطية الإغريقية شكل الديمقراطية المباشرة التي تقوم على أساس فكرة مزاولة المواطنين للسلطة بأنفسهم دون أن يوكلوها إلى من يمثلهم ([3]). ولذا يمكن أن نعتبر الحضارة اليونانية مرحلة متقدمة من مراحل التطور البشري، فقد ابتدعت الديمقراطية بشكلها المباشر، والتي لم يتكرر بعد ذلك بهذا الشكل، ففكرة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه كانت نقلة خطيرة في السياق الحقوقي، فبعد أن حكم البشر كآلهة وكملوك مطلقي السلطة، لا رقيب عليهم ولا مُراجِع لنزواتهم، برزت الديمقراطية الأثينية لتمنح المواطن حقاً لم ينله من قبل. إلا أن ذلك لا يمنع أن الطبقة التي نالت هذه الحقوق كانت محدودة قياساً بالعدد الكلي للسكان، فقد حُرم العبيد والأجانب والنساء من ممارسة هذه الحقوق، واقتصرت ممارستها فقط على من تنطبق عليهم شروط المواطنة، من الذين ولدوا في أثينا من أبوين أثينيين.
أما في الحضارة الرومانية فقد شهدت روما بعض المحاولات المحدودة في سبيل الحرية والمساواة، وإذا كان القائمون بهذه المحاولات قد نجحوا في الحصول على جانب من هذه الحقوق، فإن هذا لا يعني مطلقاً أن الإمبراطورية الرومانية قد شهدت عصراً تمتع فيه الفرد بكامل حقوقه وحرياته تجاه الدولة التي كانت مسيطرة تماماً على الشؤون المختلفة في الحياة، وقد دون الرومان العادات والتقاليد والأعراف في قانون الألواح الاثنى عشر لكي تثبت وتستقر، ويتساوى الجميع في معرفتها والخضوع لأحكامها. وأخذ الرومان ينادون بصورة تدريجية بحرية العقيدة في المسائل الدينية، كما أن فقهاء الرومان قد نظروا إلى الرق نظرة غير مشجعة، ورأى بعضهم أن نظام الرق مضاد للطبيعة، وقد أكد أولبيان أنه لا يجوز في القانون الطبيعي أن يولد الناس إلا أحراراً، وأن العبيد وإن عدوا موجودين في نظر القانون الوضعي، فإنهم ليسوا موجودين في نظر القانون الطبيعي الذي يقرر أن الناس جميعاً متساوون. إن المحاولات المتقدمة وإن كانت تمثل خطوة في الإمبراطورية الرومانية باتجاه تنظيم الحياة، فإن واقع المجتمع والدولة في روما كان يتناقض تماماً مع الأفكار الحقيقية لحقوق الإنسان حتى في مفهومها البدائي، فما كان يدور من هدر لحقوق الإنسان في روما وإهدار لكرامته يمثل جانباً من مظاهر تلك الدولة وعلامة بارزة تعكس جانباً مهماً من طبيعة المجتمع الروماني. وبهذا المعنى يؤكد لويس ممفورد في كتابه تاريخ المدينة على أنه لابد للمرء من أن يمر بأقسى تجربة عندما يمر بروما، بسبب ما كان في تلك المدينة من انتهاك لحقوق البشر ([4]).
حقوق الإنسان في الإسلام:
بدا من خلال هذا العرض الموجز لإسهامات الحضارات السابقة على الإسلام، أن حقوق الإنسان – أيا كانت التسمية حينها – لم تكن غائبة، حتى وإن كانت على صعيد التنظير قاصرة، وعلى صعيد التطبيق معدومة في بعض الأحيان. لكن كما هي العادة لا شيء يبدأ كاملاً، بل كل الأفكار تبدأ قاصرة، ثم تمر بحالة إنضاج من خلال المحاولة والخطأ عبر التنظير والممارسة على السواء. وجاء الإسلام لا ليخترع العجلة، لكن ليضيف إلى سابقيه بما يثري التجربة الحقوقية، ويمهد الطريق للاحقين كي يساهموا بدورهم في بنية النظرية الحقوقية.
لقد اعتمد المسلمون بصفة عامة على مصادر معينة للتشريع الإسلامي، بما فيها النواحي الحقوقية، وبالتالي كانت هذه المصادر هي ما اعتمدت عليه مواثيق حقوق الإنسان الإسلامية، وقد تمثلت مصادر هذا التشريع في عدة مصادر أهمها القرآن والسنة. ويعتبر القرآن هو الدستور الأعلى الذي أعلى الحقوق ووضع القواعد الأساسية للأحكام الدينية والمدنية، التي يخضع لها الأفراد والمجتمع والدولة. وقد جاءت الشريعة الإسلامية – كغيرها من الشرائع السابقة – لتحقيق مصالح الناس، وما جاء فيها من أحكام لا يخرج عن كونه وسائل لتحقيق هذا الغرض. ومن القواعد الكلية في الفقه الإسلامي أن “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”. وإذا ما رجعنا إلى ما جاءت به الشريعة الإسلامية في هذا الشأن نجد المبادئ والأحكام التي قررتها في تأكيد حقوق الإنسان والحريات الأساسية في نصوص صريحة واضحة في القرآن والسنة([5])، وقد جاءت على النحول التالي:
حق الحياة:
تأتي الحياة في مقدمة الحقوق الإنسانية، فبانعدامها تنتفي بقية الحقوق بالتبعية، ولذا يأتي التأكيد على حق الحياة في مقدمة ما يستوجب التأكيد، وقد أكد القرآن على هذا الحق في أكثر من موضع، فقال الله تعالى: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”([6]). “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” ([7]). “ولا تقتلوا أنفسكم” ([8]). وغيرها من الآيات التي تؤكد على ذات المعنى. وقد ورد عن النبي أنه قال: “لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق”. وفي حديث آخر يقول: “لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل المسلم”. ويبدو أن ذكر المسلم هنا دون ذكر الإنسان قد جاء على اعتبار أن الحديث يدور في مجتمع مسلم؛ بدليل أن النبي قال في سياق آخر: “من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً”. وقد شرع الله في القرآن عقوبة لمن يقترف جريمة القتل، فقال: “يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى” ([9]). وقال أيضا: “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص. ووصل الأمر إلى حد تحريم قتل الإنسان لنفسه، فقال تعالى: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما” ([10]).
حق الحرية:
وتعد الحرية الإنسانية من أهم الحقوق اللازمة للإنسان في الإسلام، لدرجة أن البعض لا يعتبرونها مجرد حق، بل تتجاوز درجة الحق إلى درجة الضرورة الملزمة؛ على اعتبار أن إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بتحقق حريته. وقد ساد قبل الإسلام نظام العبودية، فلم يكن نظاماً قاصراً على بيئة الجزيرة العربية التي ظهر فيها الدين الإسلامي، بل لن نعدو الصواب إذا قلنا أنه كان نظاماً عالمياً، وحين جاء الإسلام لم يكن بمقدوره أن يقوم بإلغائه بمجرد أمر إلهي كأمر الصلاة أو الصوم أو ما عداهما، لأن نظام الرق ليس مسألة شخصية يمكن للإنسان أن يقوم بها حتى لو كلفته بعض المعاناة، لكنه نظام اجتماعي تستند عليه الحياة الاقتصادية في مجتمعات عديدة، فقد كان موجوداً في الحضارات القديمة، ولدى اليونان والرومان، واعتبره بعض الفلاسفة جزءاً من نظام الطبيعة. واعتادت البشرية الأمر لدرجة أنه بعد ظهور الإسلام بحوالي 12 قرناً حين حاول الأمريكيون تحرير العبيد أن قامت حرب أهلية بين ولايات الشمال وولايات الجنوب. وهذا يؤكد على أن الأمر لم يكن سهلاً حين ظهر الإسلام. إلا أنه لم يترك الأمر باعتباره نظاماً طبيعياً، بل أكد على المساواة بين البشر، فقال تعالى: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير” ([11]). وورد أن النبي قال في خطبة الوداع: ” يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى”.
ونظراً لتقديس الإسلام لحرية الإنسان، وتجاوزه لفكرة اعتبار العبودية جزءاً من النظام الطبيعي، فأخذ على عاتقه المساهمة في ترسيخ فكرة الحرية، من خلال الدعوة لتحرير العبيد، فقد كان التحرير مصرفاً من مصارف الأموال العامة للدولة، فضلاً عن كونه قربة إلى الله، وكفارة لذنوب من يذنب من المسلمين. وقد أراد الإسلام أن يجفف منابع الظاهرة، فقد وجد أن الحروب القبلية التي لا تنتهي مصدراً من مصادر الاسترقاق، والعادات القبلية والفردية مصدراً ثانيا، والفقر المتفشي الذي يلجئ إلى الاستدانة مصدراً ثالثاً عندما يعجر المدين عن سداد الدين الذي استدان. وكان الربا الذي يقرضه المرابون أضعافاً مضاعفة في مجتمع فقير اختلت فيه موازين العدل الاجتماعي إخلالا فاحشاً، كان الربا باعثاً على ازدياد حدة الفقر الذي يفضي بالبعض إلى السقوط في دائرة الرق. فما كان من الإسلام إلا أن يواجه هذا الواقع بإجراءات أقرب للثورية، فأغلق كل المصادر والروافد التي تمد نهر الرقيق بالمزيد من الأرقاء، ولم يبق منها سوى الحرب المشروعة. بل وحتى أرقاء هذه الحرب وأسراها شرع لهم الفداء سبيلاً لحريتهم ([12]). وقد جاء في القرآن: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم” ([13]). وربما يبدو للبعض أن مجرد التحفيز على تحرير العبيد ليس كافياً، إلا أننا يجب أن نضع في اعتبارنا ما سبق أن ذكرنا في مقدمة هذه الورقة، من ضرورة وضع السياق الزمني في الاعتبار، لأن تجاهل السياق الزمني يؤدي إلى التورط في إصدار أحكام لا تتناسب مع طبيعة المرحلة، مما يؤثر بالسلب على الموضوع الذي نحن بصدد بحثه.
حرية الاعتقاد:
كان الإسلام واضحاً ومباشراً في التعاطي مع مسألة حرية الاعتقاد، حين أكد في أكثر من موضع في القرآن على هذه القضية، فقد قال تعالى: “لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي” ([14]). وقال في موضع آخر: “فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر” ([15]). وأيضاً: “أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ([16]). وغيرها من الآيات التي تؤكد على المعنى ذاته. إلا أن المسلمين على مدار قرون لم يلتزموا بالأوامر الصريحة التي وردت في كتابهم المقدس، بل التفوا حول النص وحاصروه بآرائهم ومصالحهم السياسية الضيقة، فتم اختراع ما عُرف تاريخياً بـ “حد الردة”، والذي مازال يُستخدم كسيف مسلط على رقاب كل من يفكّر في أمر الدين، وربما في أمور أخرى غير دينية، فتكون تهمة الارتداد التي ما أنزل الله بها من سلطان كي تقضي على كل جديد في مهده. ولم تكن المسألة مسألة دين أو تدين، بقدر ما كانت توظيفاً سياسياً لخدمة السلطة، حيث كانت السلطة على مدار التاريخ الإسلامي توظف تهمة الردة لمعاقبة مخالفيها، فما كانت تريد أن تخلق من معارضيها السياسيين أبطالاً شعبيين بالقضاء المباشر عليهم، فما كان منها سوى أن تقحمهم في دائرة الدين، وتتهمهم بالردة عن صحيح الدين، فينفض عنهم الناس، ومن هنا يتم القضاء عليهم مادياً ومعنوياً. لكن يجب ألا نتورط في التوظيف المغلوط ونتجاهل النصوص الصريحة، فالنص القرآني هو المعيار الذي يجب أن نقيس عليه، لا أن نعوّل على تفسيرات محرّفة، سواء كانت الأسباب سياسية أو كانت غير ذلك.
وقد أكد الإسلام على غير ذلك من حقوق، وحرّم الظلم، وجعل أمر الناس شورى بينهم، دون أن يقر للحاكم بسلطة مطلقة، بل أجاز مواجهة الحاكم الظالم، وقد ورد عن النبي أنه قال: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. وإذا كان قد أكد على حق الإنسان في الحياة والحرية والاعتقاد، فكل ما دون ذلك من حقوق مكفول بالطبع، فلن يكون الإنسان يملك الحرية في أن يكون مؤمناً أو غير مؤمن، ثم بعد ذلك يطالبه أحد أن يتوقف عن التفكير في أي قضية كانت. ورغم أن الواقع لا يقول ذلك طوال قرون من الانغلاق والظلامية، وحالة التصارع بين أطراف عديدة، إلا أننا نبحث عن المصادر التي استقت منها مواثيق حقوق الإنسان الإسلامية ثوابتها، فالأصل هو القرآن والسنة، والواقع هو التطبيق، والتطبيق شيء والنظرية شيء آخر كما هو حال الكثير من المذاهب والنظريات.
لكن السؤال المطروح الآن، هل جاء الإسلام بكل شيء في نصه القرآني، بحيث لم يعد ثمة مكان لمزيد من الإضافات، وهل انغلق باب المساهمة من قبل الحضارات التالية عليه، وأن كل ما يجيء به اللاحقون مجرد تكرار لما قاله النص القرآني منذ أربعة عشر قرناً تقريبا؟ أؤكد أن هذا الأمر غير صحيح، وأنه من قبيل المبالغة أن نعتبر أن الأمر توقف عند القرن الأول الهجري أو السابع الميلادي، بل كان الإسلام ثورياً بما جاء به في حينه، لكنه لم ينه القضية، ولم يحسم الأمر، فقد راعى ظروف العالم حين نزوله، فإن كان فتح الباب إلا أنه لم يوصده بتوقف الوحي القرآني. فرغم كل شيء لم يتحرر العبيد تماماً إلا بعد أكثر من اثنى عشر قرناً تقريباً، ولم يحصل المختلفون في الدين على المواطنة الكاملة سوى في ظل الدولة بشكلها الحديث، فعلى الرغم من تأكيد الإسلام على حقوق المختلفين دينياً، وعلى الرغم من كون هذا كان ثورة في حينه، لكنهم كانوا أهل ذمة لا مواطنين بالمعنى الحديث، ولذا يجب أن نعتبر ما جاء به الإسلام إسهاماً كبيراً في السياق الحقوقي، لكنه ليس كل الإسهام، وأن المواثيق الإسلامية وإن كانت اعتمدت على مصادرها الخاصة من قرآن وسنة، إلا أنها تأثرت باللاحقين من أبناء الحضارة الغربية، والذين ساهموا بنصيب كبير في الترسيخ لمفاهيم حقوق الإنسان، التي مازالت وستظل في حال تطور مستمر، مادام الإنسان يسعى للأفضل دائماً، والعبرة ليست في كون مصادر الإسلام من قرآن وسنة قد اشتملت على كل شيء وأوقفت حركة التطور الحقوقي، لكن العبرة أنها لا تتعارض مع التطور، ولا ترفض أي إسهام يؤكد على إنسانية الإنسان ويحافظ على حقوقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة): حقوق الإنسان: الأصول والأسس الفلسفية، سلسلة دفاتر فلسفية (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2008) ص: 5.
([2]) حسن محمد طوالبة: حقوق الإنسان في الحضارات القديمة، موقع الحوار المتمدن.
([3]) مازن ليلو راضي وحيدر أدهم عبد الهادي: المدخل لدراسة حقوق الإنسان، كتاب منشور بموقع الأكاديمية العربية في الدنمارك.
([4]) نفس المرجع.
([5]) حسين جميل: حقوق الإنسان في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1986) ص: 26 – 29 بتصرف.
([6]) المائدة 32
([7]) الإسراء 33
([8]) النساء 29
([9]) البقرة 178
([10]) النساء 29
([11]) الحجرات 13
([12]) محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، عدد 89، 1985) ص: 17 – 19 بتصرف.
([13]) التوبة 60
([14]) البقرة 256
([15]) الكهف 29
([16]) يونس 99