1/ ا لحياة الإنسانية هي وعي التاريخ ، الذي هو حركة الزمن ، أو حركة في الزمن . وإذ تنبثق الأفكار من العقل ، من الوعي ، فان الفكر والحالة هذه هو محصلة لحركة التاريخ وصيرورته ،حركة التاريخ المتضمنة حركة الزمن وحركة الناس . فالتاريخ ، الذي هو صيرورة دائمة للإنسان واللغة والفكر ، هو بنفس الوقت ، سيرورة للأحداث ، وتعاقب للزمن .
التاريخ تقدم نحو الأمام ، ليس تقدما خطيا صاعدا ولا دائريا ، إنما هو تقدم حلزوني حسب مفكرنا الياس مرقص والذي يعيده إلى الماركسية . وفي كل تقدم هناك جديد ، هذا الجديد إنما يولد في رحم القديم وعبر الصراع معه . فالتاريخ لا يعرف الانقطاع .. وفي صيرورته التراكمية والصاعدة ، نتلمس التناقضات والصراعات التي تلد لنا لحظة تاريخية نوعية جديدة . لكل لحظة من هذه اللحظات لغتها وفكرها ، معطياتها وثوابتها .
إذ نزعم أنه ليس في التاريخ لحظتان متماثلتان ، نؤكد في الآن نفسه على إمكانية وجود تشابه ما بين لحظة تاريخية وأخرى . وفي كل مرة يقفز فيها التاريخ نحو الأمام ، تقفز معه وبه طبقة اجتماعية جديدة ، كما يقفز معها وبها ، ثم تحمله على أكتافها رزحا من الزمن تشيخ فيه ، في حين تكون قد تكونت خلال ذلك طبقة جديدة أخذ ساعدها يشتد وشبابها يزداد نضارة .
من الحق القول أن هذه الفكرة لا تشكل قانونا ينطبق على كل اللحظات التاريخية ، فلكل قانون استثناء ، ومن الممكن لهذا الاستثناء أن يحدث في مجرى التطور التاريخي هنا أو هناك ،وعليه فان المنطق يفرض علينا أن نحدد القانون ، وأن نتعرف على الاستثناء حين يحدث .
2/ إن الدارس لتاريخ المنطقة يمكنه أن يتعرف بسهولة ويسر على أنها لم تكن الموطن الأول للإنسان فحسب ، بل كانت أيضا الموطن الأول لنشوء الحضارة . وحين نقول الحضارة نعني الزراعة ، الثقافة > Culture< . كما كان لها الفضل الأول على البشرية بإعطائها الكتابة التي تحولت لتصبح أداة تخزين الذاكرة الإنسانية والتاريخ معا .
ومع كل حركة انتقال / من تشكيلة اقتصادية إلى أخرى / كانت تحصل حركة تجدد اجتماعي . بمعنى أن الحامل الاجتماعي للشكل الاقتصادي الجديد ينشئ علاقات جديدة وعادات جديدة كما يضع قوانين جديدة وأخلاقا جديدة وعقائد جديدة ، ولكي يتم كل هذا كان لا بد من سلطة تتبنى هذا الشكل الاقتصادي وتتفاعل معه وتدعم كل ما يترتب عليه .
هذه الانتقالات العديدة التي عرفتها شعوب هذه المنطقة من العالم ، ونعني الانتقال من التقاط الثمار إلى الصيد إلى تدجين الحيوان إلى الزراعة والرعي إلى نشوء الحرف اليدوية مرورا بالتبادل والتجارة ، كل هذه الانتقالات وما رافقها هي التي قدمت لنا ذلك التراث الهائل من العقائد والعبادات والأخلاق والقوانين والأديان التوحيدية وغيرها ، وبالتالي ولدت دولا وممالك عديدة منها ما اتخذ شكل إمبراطوريات كبيرة ، ومنها ما ظل ضمن إطار الدولة – المدينة .
في سيرورة هذا التطور الطويل والبطيء في آن معا تلفت نظرنا ظاهرة هامة تكاد تشكل ناظما عاما لهذه السيرورة . تتمثل هذه الظاهرة في أن هذه الجماعة البشرية أو تلك كانت تعيش حياتها وتبني عالمها الجديد وأنظارها دائما متجهة ، بل ومشدودة ، نحو الأجداد، نحو السلف العظيم . ومع أن هذا لم يمنعها من أن تؤثر في غيرها من الجماعات وتتأثر بهم ، إلا أن هذا الانشداد نحو الماضي ، كان يشكل كابحا أمام عملية التطور التاريخي المفتوحة أمامها . وبدلا من أن تتضافر جهود الجماعات وتتوحد لتحسين شروط حياتها ، كان الشعور الجمعي بالانتماء إلى الماضي يولد فيما بينها صراعا على المصالح الضيقة ومن أجل إعلاء شكلي لاســـم هؤلاء
– 2 –
الأجداد أو الآباء – الآلهة ، وتمجيدهم ، فتحدث الحروب التي ترافقت في أغلب الأحيان مع إنهاء دول بأكملها ، وزوال شعوب وإفنائها أحيانا . أدت هذه الظاهرة ، ليس فقط إلى بطء عملية التطور الحضاري للإنسان في هذه المنطقة ، بل والى تشوهات في التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي .
إن تخريب وإفناء مدنية كاملة كانت تمثلها هذه الدولة أو تلك ، وإزالة وإتلاف كل إنجازاتها الحضارية وآثارها العمرانية والعلمية وغيرها ، لا يشكل فقط حالة وحشية أخلاقيا ، بل كان يحرم أيضا المنتصر نفسه من الاستفادة من هذه الإنجازات . إذ بدلا من أن يكمل وينمي ويطور ما بدأه الآخرون نراه يعمد إلى البدء من جديد ، وبالطبع ، فان هذا لا يعني أن المنتصر لم يأخذ عن / أو يتأثر ب / المهزوم إطلاقا ، بل إن هذا الذي كان يأخذه لا يمثل سوى القليل القليل ، حارما نفسه بذلك من الكثير الكثير مما كان من شأنه أن يوفر عليه أمدا طويلا وتضحيات شاقة احتاجها للوصول إلى ما وصل إليه .
3/ من الممكن ن بالطبع ، ملاحظة – وبإعجاب يثير الدهشة – كيف أن الصيرورة التاريخية والفكرية والحضارية لهذه المنطقة لم تعرف الانقطاع ، فمن السهل تتبع قصة الطوفان الواردة في القرآن بشكل نعود معه إلى التوراة العبرانية ، والى الأسطورة البابلية ومن قبلها السومرية . كما هو من السهل العودة بكثير من العقائد والعبادات والأفكار الدينية وتصور الآلهة والعادات والتقاليد إلى أيام فجر التاريخ في سوريا وبلاد الرافدين ، في أوروك وسومر ونينوى وبابل وايبلا وغيرها وغيرها . ولطالما أجمع المؤرخون والبحاثة وعلماء الأديان على أن الإسلامي ، الرحمن ، الرحيم ، الغفور، القوي ، القادر ، القاهر ، القدوس ، التواب ، هو العبراني الذي مركبته السحاب وصوته الرعد ، انه المنتقم ، الجبار ، العظيم كسلفه حدد العظيم السومري ومردوخ البابلي . ( لمزيد من الإطلاع ، يرجى العودة إلى : فراس السوّاح –
لغز عشتا ر ) .
وليس التقارب بل والتشابه بين اللغات السامية من كنعانية وآرامية وعبرية وعربية وغيرها إلى حد تصنيفها في عائلة واحدة ، إلا شكلا آخر من أشكال عملية التفاعل والتلاقح الحضاري الذي عرفته المنطقة في عملية تطورها التاريخي .
والى جانب ظاهرة الانشداد نحو الآباء والأجداد التي قصرت تطلع الإنسان نحو الماضي وحدت من تطلعه نحو المستقبل إلى حد كبير ، تدهشنا ظاهرة أخرى ، فريدة ، بل واستثنائية ، وهي أن الديانات التوحيدية الثلاث التي عرفتها البشرية ، قد ولدت في هذه المنطقة ، ومنها انطلقت لتنتشر في أنحاء الكوكب .
استثنائية هذه الظاهرة ، فرادتها ، لا تكمن في وحدة الموطن فحسب ، وإنما تتأتى من أن هذه الأديان – متميزة عن العقائد الأخرى – لم تنشأ نتيجة ل / وعبر الانشداد نحو الماضي والتطلع إلى الأجداد فقط ، بل إنها إضافة إلى أن كل منها كمل الآخر وأضاف إليه وطوره ، وضعت هذا الماضي دعامة لها وركيزة . لقد تطلعت ليس إلى الماضي فقط ، بل إلى الأمام ، إلى المستقبل ، إلى الكلية والشمولية واللانهائية ، وبالتالي ، كانت تعبيرا منسجما عن قانون التطور التاريخي وتأكيدا عليه .
4/ إننا حين نوافق على القول أن التوحيد كان تعبيرا عن الحاجة إلى كيان اقتصادي واجتماعي وسياسي كبير وموحد ، يخدم المصالح الطبقية والسياسية لفئة أو طبقة أو مجموعة من البشر ، ندرك في نفس الوقت أنه كان تعبيرا – بهذه الدرجة أو تلك – عن طموح وتوق لتحقيق العدالة ،، وقفزة نوعية على صعيد الأخلاق ، وهو كذلك تعبير عن رغبة البشر الدفينة في تحقيق الكمال ، وتأكيد على نمو وتطور الحالة الفكرية والروحية والنفسية للإنسان . وعن اكتسابه ميزة جديدة ،
– 3 –
هي النظر إلى الكون والطبيعة والإنسان في إطار وحدة جدلية لا تنفصم عراها ، وهي التي عبر عنها الفكر الإسلامي بتعبير “” وحدة الوجود “” .
ولنا كل الحق أن نعجب وباندهاش لقول النبي محمد (ص) : ” لا نبي بعدي ” . ترى هل كان يؤكد على أزلية الفكر والطبيعة كما رآها وصورها من خلال الوحي الإلهي عبر القرآن ؛ أم أنه كان يدرك أن الصيرورة والتقدم – اللذين لا يتوقفا إطلاقا – ستخلقان حالة اجتماعية واقتصادية وسياسية وروحية جديدة تمنع حدوث – بالأصح – تقبل نبوة جديدة .؟
المهم في الأمر ، أن هذا الذي تم يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي : لماذا ؟ وكيف ؟ وتحت أية ظروف ، تحولت رسالة التوحيد إلى كابح للتطور ؟ مع أنها في الأصل ، هي التي فتحت طريقا بلا نهاية نحو تطور موصول ودائم ، ليس على صعيد الحياة الدينية فحسب ، بل وعلى صعيد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية .
وقبل أن نتابع ، لا بد من التأكيد أننا بهذا التساؤل لا نحمل فكرة التوحيد وبالتالي الدين بشكل كامل ، مسؤولية إعاقة تطورنا وركود مجتمعاتنا ، وإنما نقصد أنه تهيأت ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية قادت إلى تربع شرائح وفئات اجتماعية معينة على سدة السلطة في لحظة – بل لحظات – تاريخية محددة ، فاستفادت من ذلك وصادرت فكرة التوحيد وشوهتها ، ثم حنطتها في إطار جامد ، وحولتها إلى قدوس مقدس ، موظفة إياه لخدمة مصالحها واستمرار سلطتها ، لاغية بذلك دور البشر في صنع تاريخهم .
إن تلك الظروف ، وما رافقها ونتج عنها ،حولت دور فكر التوحيد من أن يكون عامل تطور وتقدم ، وجوهر رقي وتسام ، وحولته ليكون سيف ديموقليس المعطل لكل تطور وتجديد ورقي ، وخاصة في ميدان الفكر الذي ألقى بظلاله الكئيبة على كل الميادين الأخرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
5/ تغيير الواقع – شأنه شأن أي موضوع آخر – يفترض إعادة النظر فيه ، كما يفترض تغييرا في التعامل معه . إن علم التاريخ وحده هو الذي يمكن من اكتشاف حركة هذا الواقع وقواه وقوانينه ، ويتنبأ بلحظاته المحتملة القادمة . انه ليس تنبؤا يقينيا ، بل هو تنبؤ يعتمد الاحتمالية المتوقفة على ظروفها وشروطها الموضوعية والذاتية .
والعلم ، منهج ، وهو على تناقض مع الأيدولوجيا ، لأنها تكبحه وتحوله إلى مفاهيم جامدة وقوانين ميتة لا حياة فيها وغير صالحة لمعالجة حركة التاريخ وصيرورته والتفاعل معهما .
ومع أن الذاكرة لا تسعفني باسم صاحب القول التالي إلا أني سأستعين به : ” لا يجب النظر إلى التاريخ كحلم سرمدي تتعاقب فصولح وحوادثه المقررة منذ الأزل . والا لالتقينا مع اللاهوتي المسيحي ليون بلوا حين يقول : ( إن التاريخ أشبه بالحلم لأنه يشاد على الزمان والزمان وهم ) . ودراستنا للتاريخ لا تتطلب أن نتحرى عن الله فيه ، وتبحث عن يده في جميع حوادثه..فتاريخ الإنسان إنما يصنعه الإنسان وحده ” .
فهل تدفعنا اللحظات الراهنة ، والتحولات التاريخية الكبرى التي تحدث أمام أعيننا ، إلى إعادة النظر في تاريخنا البعيد والقريب ، علنا نكتشف كيف يتحول ، وحركة هذا التحول وقواه وقوانينه ، وكيف نستطيع التأثير فيه لنجعله ينسجم ، ويخدم ، قدر الامكان ، تطلعاتنا ومصالح أوطاننا وشعوبنا ؟
ـــــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة.