تعرّف على ما صنعه عمر بن الخطاب لولاية القضاء – بقلم: سامح عبد الله
” أرأيت لو كنت أنت القاضي ثم أبصرت إنسانا علي حد (أي ارتكب جريمة تستوجب عقابه) أكنت مقيما عليه الحد؟
قال لا حتي يشهد معه غيري.
قال أصبت.
عمر بن الخطاب محدثا عبد الرحمن بن عوف.
وِلَايَةُ القَضَاءُ
التاسعة والثلاثون
مانزال مع عمر بن الخطاب وولاية القضاء..
تحدثنا آنفا عن قاعدة هامة سنها عندما فصل الحكم عن القضاء بمعني أنه لم يصبح الولي هو ذاته القاضي حتي يضمن استقلالا أكثر بين سلطتين من سلطات الدولة..
التنفيذية والقضائية كما توصل بعد ذلك المجتمع الحديث.
ضمانة أخري سنها عمر وهي السمات الشخصية التى اشترطها فيمن يتقدم لهذه الولاية مثل اللين في غير ضعف والشدة في غير عنف والإمساك في غير بخل والسماحة في غير شرف وكان أكثرها جدلا هو شرطي المال والحسب وقلنا فى هذا لعله أراد ألا يدخل القاضي والذي هو بشر في النهاية في تجربة الإغواء أيا كانت.
هنا وفي هذه الحلقة نستكمل ما الذي صنعه عمر لولاية القضاء وهل ما صنعه الرجل بقي من أجل سلطانة ثم اندثر من بعدم أم تبنته كل نظم القضاء الحديثة.
تعالوا نري..
كان عمر يشترط أيضا في القضاء الحسم وسرعة الفصل في منازعات الناس التى تعرض علي القضاة وكان يري أن علي القاضي أن يحافظ علي هيبته وجلال الولاية التى يقوم عليها وألا يأتي تصرفا أو سلوكا يضعف ثقة المتقاضي في عدله أو حيدته وأن تكون عنده القدرة علي الوصول إلي القرار الذي يتفق وكل هذه القيم.
علم يوم أن أحد القضاة قد إختصم إليه رجلان في دينار، وبدلا من أن يفصل بينهما أعطي المدعي دينارا من ماله الخاص حتي ينهي هذا النزاع وينزل عن دعواه فأرسل إليه عمر وقال له.. ” اعتزل قضايانا ”
نعم اعتزل قضاءنا لأن القضاء حسم فى نزاع يعرض علي القاضي بقيم محددة وبطريق مستقيم لا معوج.
هذا القاضي لم يستطع أن يأخذ قرارا كان يجب عليه أن يأخذه.
هكذا نظر عمر للأمر أكثر من أنه نظر إلي إنهاء النزاع بين متقاضيين بهذه الطريقة.
لكن أكثر مابهرني في الحقيقة هو هذا الحوار الذي دار بينه وبين عبد الرحمن بن عوف..
فقد قال عمر له يوما ” أرأيت لو كنت أنت القاضي ثم أبصرت إنسانا علي حد ( أى ارتكب جريمة تستوجب عقابه) أكنت مقيما عليه الحد ؟
فقال عبد الرحمن بن عوف ” لا حتي يشهد معه غيري ”
فقال عمر : ” أصبت ”
وكتب إلي أبي موسي الأشعري : ” ألا يأخذ القاضي بعلمه ولابظنه أو بشبهة “
تعالوا معي نري ما الذي فعله عمر وكيف توصل إلي مبادئ لم يتوصل إليها العالم إلي منذ القرن الثامن عشر الميلادي علي أكثر تقدير..
عمر يقول للقاضي هنا هل تقضي في واقعة أو حادثة تستوجب حدا إذا كنت أنت شاهدها ؟
وكأنه يسأله بلغة العصر هل يصح أن تكون شاهدا وحكما؟
ثم يقول للقاضي أيضا لا تقضي بعلمك الشخصي ولا بظن ولا بشبهة..!
كل النظم القضائية الحديثة أقرت هذه القواعد والمبادئ والقيم السامية..
لايخلو قانون للإجراءات الجنائية في أي دولة من دول العالم إلا وحظرت علي القاضي أن يقضي بعلمه الشخصي أيا كانت الوسيلة.. إعلام مرئي أو مقروء أو حادثة كان شاهدا عليها..
في قانون الإجراءات المصري علي سبيل المثال تنص المادة 247 منه علي أن يمتنع القاضي أن يشترك في نظر الدعوي المعروضة عليه إذا كان أدي فيها شهادة..
وكل المبادئ التى أرستها المحكمة العليا هنا في مصر وفرنسا وهي محكمة النقض تحظر مطلقا علي القاضي أن يكون شاهدا وحكما أو أن يستقي معلوماته عن القضية التى يتأهب للفصل فيها من مصادر شخصية بعيدة عن الأوراق التى عرضت عليه.. أو يخضع إلي أي مؤثر ما
وإلا لم يصبح فقط حكمه باطلا فاسدا إنما هذا يوقعه تحت سيف المحاسبة!
أي عبقرية هذه التى أوصلت رجلا منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان أن يقول ما إهتدي إليه العالم المعاصر حديثا..
إن الضمانات التى وضعها وسنها عمر في قوم كان الضمير متوهجا داخل نفوسهم لأولي بنا أن نضعها موضع التطبيق الحاسم وسط قوم خفت بريق الضمير في نفوسهم..!
وللحديث بقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة.