هل تعرف ما هي الحركة الحسيدية ؟
ظهرت الحركة الحسيدية (مصطلح مشتق من الكلمة العبرية “حسيد” أي تقي)، وهي الصوفية الشعبية الحلولية اليهودية، في بولندا في القرن الثامن عشر. وأسسها وتزعمْها بعل شيم طوف، وعانت الاضطهاد الفظيع على يد الربانية التقليدية (الفقهاء)، الذين شعروا أن الحركة الحسيدية جذبت عامة اليهود، وصرفتهم عن سلطة الحاخامات، فعارضوها بشدة، بل وصل بهم الأمر إلى تكفيرهم واتهامهم بالردة والخروج عن اليهودية.
وبرغم ذلك انتشرت الحسيدية بسرعة في أوساط يهود شرق أوروبا الى أن شملت نصفهم. والحسيدية كما يصورها مارتن بوبر (1878 – 1965) في كتابه “الحسيدية والإنسان المعاصر”(*)، هي صوفيه تقدس المجتمع والحياة اليومية بدلاً من الانسحاب خارجها، “إذ إنّ الانسان لا يستطيع أن يحبّ الرب من دون أن يحب العالم”. وقد مارس بوبر تأثيراً مهما في الحركة الحسيدية. وبادر للقيام بهذا في عالم الثقافة اليهودية عدة آلاف من اليهود مجردين من الخلفية اليهودية. لكن بوبر بعمله الفردي تقريباً قام بنقل الحسيدية من وجهة نظر الإنسان الحديث من حركة غير معروفة جيداً ولا تقدر حق قدرها ومهملة من قبل الثقافة الغربية، الى واحدة من الحركات الاكثر شهرة في العالم.
اعتبر بوبر الحسيدية في كتاباته المبكرة، يهودية حقيقية، بالرغم من أنها خفية، مقابل الربانية الرسمية، والتي هي مجرد قشرة خارجية، وقد أخذ في الشعور بالحسيدية على أنها جوهر الإيمان اليهودي، واعتناقها كان ملاحظا في بنية المجتمع لكن هذه القضية تم تقديمها “بشكل أقل كثافة في كل مكان في أوساط اليهود” في “بنية لا يمكنها الوصول الى الحية الشخصية”. ويفرق بوبر عن غيره من الشارحين، في ما يتعلق بحياة الحسيدية كجوهر، بالنصوص الفلسفية كبريق في الحياة كما صورتها الأساطير. لا مجموعاته من الحكايات الحسيدية فقط، وإنما مقالاته التفسيرية، التي بدأت من أسطورة وحكاية أو مثل، واعمال كهذه التي فيها الكتاب، مثل “حياة الحسيدية” و”طريق الانسان” و”تعالي بعل شيم طوب” فقد بنيت باتساع حول العلاقة التبادلية والسياق الذي اعطاه بوبر للحكايات والأمثال الفردية. وتحتوي الاعمال القصيرة في الكتابة على تنوع في الشك ووحدة الروح.
ركز بوبر على نقاء وسمو الحسيدية، على حساب حيويتها الشعبية. ويفرق بوبر هنا بين ما يمثل المبدأ الحسيدي، مثل حياة الحسيديم والاساطير. فالسابق كان مخلصا تماما، بينما تحديث اللاحق من خلال اعادة سرده أو وضع اصطلاحي الحسيدية والانسان المعاصر، جنبا الى جنب يشير، كما يبدو، إلى أن اليهودية التي لم تتأثر بشكل كلي تقريباً بالأفكار الأوروبية المعاصرة يمكن لها حقيقة أن تعلم أوروبا القانعة بأن منجزاتها العلمية والتكنولوجية أتت بها الى ذروة التطور الإنساني.
قدمت كتابات بوبر عن الحسيدية في الأساس محاولة لأعطاء الغرب هذه الحكمة البديلة التي تميزت بشكل خاص بخلق حياة تتجمع فيها العناصر المتفرقة للوجود الشخصي، سوية في وحدة واحدة من خلال خلق مجتمع حقيقي. وتشير مقدمة الكتاب أنه على الحدود الشرقية للعلمانية الغربية، وفي أوساط طائفة متأخرة من يهود بولندا، اعتقد بوبر بأنه سيعثر على صورة حقيقة للبشرية، يمكنها أن تنافس الغرب المتهاوي. لطرح هذه الفكرة التي ظهرت في معظم أعماله الحسيدية، كتب بوبر “طريقي الى الحسيدية” العام 1918 حيث يقول: اخذت الحسيدية شكلا اجتماعيا لمجتمع شعبي عظيم. بكل اختلافاتها، وكل تنوعها الروحي والاجتماعي. ولم يتواجد في أوروبا مجتمع كهذا المنجز كل حياته كواحد على أساس من المعرفة الداخلية. هنا لا يوجد فصل بين الإيمان والعمل وبين الحقيقة والتأكيد، او بلغة اليوم بين الأخلاق والسياسة. فالكل مملكة واحدة، وروح واحدة وحقيقة واحدة.
بدأت شهرة بوبر بالانتشار كشارح للحسيدية بنشره حكايات الرابي نحمان العام 1906، وقد سبقته شهرته كصهيوني ضد الصهيوينة بين الشباب اليهود الألمان، لم ير بوبر في الصهيوني شيئاً أقل من الهيجان، في المفهوم المعاصر الواضح، لقوى الروح التي نقلت منذ القدم الشعب الاسرائيلي من رعاع متفرقين من العبيد، الى مجتمع حيث حضور الرب جذب كل شخص الى علاقات حية مع أرض الحرية.
في كتاباته الصهيونية قبل الحرب العالمية الاولى، بينما كان يطور أفكارأ حول الحسيدية اعتبر بوبر أن الحاجز الرئيس نحو تجديد الروحانية اليهودية الحديثة موجود في نوعة المحاكاة لدى اليهود الغربيين، الهادفة الى تحديث اليهودية من خلال ما سماه “محاولة ضعيفة غير فاعلة للاصلاح، استمدت أفكارها ونماذجها من مصنفات التنوير الأوروبي، وما يدعي بالادبيات التقدمية”.
كان بوبر رجعياً لجهة اعتباره اليهودية شرقية وحسيدية جوهرياً، ووقوفه في مواجهة “التنوير”. واعترض على الاصلاح الديني حسب النماذج الأوروبية لأن محاولة التلاؤم مع الأشكال الاوروبية للدين تشكل رفضا مبدئيا لروح الشرقية في اليهودية، ويخبرنا بوبر في كتابه ان الحسيدية “تشكل ضمن الروح اليهودية الحية، الانتقال من يهودية العصور الوسطى، اليهودية المتجدد في الشكل فقط”، هنا ما زال بوبر مرتبطاً بالقرون الوسطى في مظهره الخارجي، يواصل بوبر: “ان الحسيدية اليهودية في حقيقتها الداخلية منفتحة على التجديد، وانحلال هذه الحركة الدينية العظيمة، يمكن له أن يوقف ولكن ليس بشكل كليّ، مسيرة تاريخ الروح التي بدأت معه”.
اعترف بوبر بأن فهمه للحسيدي قاده، من دون أية رغبة منه، في تقديم تصور للمجتمع الحسيدي كظاهرة سوسيولجية في قالب تاريخي، وبالأحرى فإن قصده هو استخدام خبرة الحسيدية التي تشكلت من طريق الانغماس في النصوص الحسيدية، وتجديد تلك العناصر من الروحانية الحسيدية التي كان صداها يتردد في مخيلته. وكان هذا موقفه كشارح للحسيدية، أو بمعنى آخر كباحث مرتبط وجوديا بها، حيث تسهل معرفته بقدر ما تحول الشخص من خلال المعرفة.
ولهذا فإن تقديم بوبر للنصوص الحسيدية من خلال الترجمة، وكذلك دراساته للفكر الحسيدي يرتكز على حقل فسيح من الادب الحسيدي – رواية الحكاية الشعبية – والفترة المحددة في تاريخ الحسيدية، والاجيال الخمسة الأولى حتى اواخر القرن التاسع عشر، من خلا أدب يعتقد أنه قريب من الشعبي روته أجيال على صلة حية أكثر أو اقل مع شخصيات حسيدي، وقد وجد بوبر بحق الابداع المثالي للحسيدية، ذلك العنصر من ملفها التاريخي الشامل الذي وقف وحيداً أمام الغرب الحديث بكل قوة روحية. وتقوم استراتجية كمعلم للطريقة الحسيدية، على أخذ القارئ من خلال فن الحكاية، الى مشاركة خيالية في عالم الحسيدية لحظة نبوغها الخلاق.
وواجه بوبر انتقادات كثيرة مؤداها انه حرف الاهتمام عمّا ينوف عن ألف عمل في الفكر الفلسفي احتواها الأدب الحسيدي، ليركّزه على القصص وحدها. فهم بوبر الحسيدي هذا عرَّضه لانتقادات لاذعة من الكثيرين من بني ملَّته الذين وصفوا مفاهيمه تلك بالرومانسية، كما رفضوا تجاوزاته لشريعته اليهودية. وهذا في نهاية المطاف من قبيل الهزل، لأن مقاربة بوبر الفلسفية والحسيدية لم تكن في الواقع إلاَّ لإثبات أن التدين الحقيقي للإنسان إنما يتجاوز العقائد.
ومارتن بوبر بتعريف الباحث عبد الوهاب المسيري مفكر ألماني يهودي حلولي، متطرف في حلوليته وجودي النزعة، كان لا يؤمن باليهودية الحاخامية أو بضرورة تطبيق الشريعة، ولم يقرأ التلمود على الإطلاق. ومع هذا، فإنه يُعَدُّ من أهم المفكرين الدينيين اليهود في القرن العشرين. وهو من دعاة التصوف اليهودي. ويُعتبر بوبر أحد كبار مفسري العهد القديم، وأحد أهم مفكري الصهيونية ذات الديباجات الثقافية. ويعتبر كتابه الشهير “أنا وأنت” مثالاً على فلسفته، كذلك له كتاب آخر يتعلق بالعلاقات اليهودية العربية يدافع فيه عن ضرورة العيش المشترك بسلام ما بين العرب اليهود. منذ قيام دولة إسرائيل في العام 1948 وحتى وفاته في العام 1965، يدعو إلى انخراط إسرائيل في فدرالية شرق أوسطية واسعة والتخلِّي بهذا عن مفهوم الدولة القومية الضيق.
(*) صدر عن منشورات الجمل، ترجمة محمد خليل حسين.
المصدر: المدن