أبحاث ودراسات
كيف بلغت الشيخوخة: الطريقة التي تحافظ على روح الشباب رغم تقدم السن – برتراند راسل
كيف بلغت الشيخوخة: الطريقة التي تحافظ على روح الشباب رغم تقدم السن – برتراند راسل / ترجمة: جرجس عبده
(مجلة الأديب – لبنان / 1981م)
*حرره لحكمة: مها الحربي
على الرغم مما يوحي به عنوان هذه المقالة فانها تدور في الحقيقة عن الطريقة التي تحفظ للمرء روح الشباب رغم تقدم السن. وهو موضوع مهم جدا بالقياس إلى ماعشته أنا من سنوات طوال. وأول ما انصحك به في هذا الصدد هو أن تحسن إختيار اجدادك بعناية. ومع أن والداي أنا قد ماتا في شبابهما فقد أحسنت من جهة إختيار بقية الأجداد.
فجدي من ناحية أمي قد انتزع -وذلك حق- في زهرة شبابه في السابعة والستين، ولكن اجدادي الثلاثة الأخرين قد عمروا إلى مابعد الثمانين. ومن الأسلاف البعيدين لا يمكنني أن اكتشف سوى واحد فقط لم يعمر طويلا، حيث مات بمرض يندر وجوده الآن إذ جز رأسه عن جسده.
وكانت إحدى جداتي البعيدة من جهة أمي صديقة لجيبون، وعاشت حتى الثانية والتسعين، وظلت حتى أخر يوم من عمرها مصدرا لفزع كل أحفادها. وجدتي المباشرة لأمي، بعد أن انجبت تسعة أبناء عاشوا، وواحد مات في طفولته، إلى حالات سقط كثيرة، قد كرست حياتها بعد أن تزوجت لخدمة التعليم العالي للمرأة، فقد كاتت من مؤسسي كلية جيرتون، وبذلت جهدا كبيرا في تيسير مهنة الطب أمام النساء.
وكان من عاداتها أن تحكي كيف قابلت في إيطاليا سيدا كبيرا كان يبدو عليه الحزن، فسألت عن سبب إكتئابه فقال لها أنه قد فارق للتو حفيدته. وأبدت دهشتها وهي تقول له: “سبحان الله، إن لي اثنين وسبعين حفيدا، ولو أني حزنت مرة عند مفارقتي لكل واحد منهم لأضحت حياتي فاجعة”.
فرد عليها “كان الله في العون ياأمي”.
وأنا إذا تكلمت كواحد من حفدتها الأثنين والسبعين، افضل الوصفة التي سارت عليها في حياتها. فبعد أن تخطت سن الثمانين وجدت أنها تشعر ببعض الصعوبة عندما تريد النوم، ولذلك تعودت قضاء الساعات منذ بداية منتصف الليل حتى الثالثة صباحا في قراءة العلوم الشعبية. ولست أتصور أنها كانت تجد فسحة من الوقت لملاحظة انها تدلف إلى الشيخوخة.
وهذه هي فيما اظن الوصفة المناسبة للإحتفاظ بالشباب. فما دامت لك إهتمامات واسعة وحاذقة يمكنك بواسطتها أن تظل محتفضا بنشاطك، فلن تجد مايدعوك لوضع الجداول الاحصائية الخالصة المتعلقة بعدد السنين التي عشتها والتفكير في قصر المدة الباقية في مستقبل المحتمل.
اما من جهة الحالة الصحية، فليس لدي شيء مفيد اقوله حيث أن خبرتي بالمرض قليلة . فأتا آكل واشرب أي شيء أحب، وأنام عندما لا أستطيع الإستمرار في اليقظة، ولم أفعل أي شيء لمجرد كونه مفيدا للصحة، وان كانت الاشياء التي أحب القيام بها حسنة في الواقع في معظمها.
ومن الناحية السيكولوجية ثمة خطران يتبغي الإحتراس منهما ضد الشيخوخة.
احدهما الإستغراق غير اللائق في الماضي. فلن يفيدنا ان نعيش في الذكريات او في التحسر على العهود القديمة الجميلة، او الحزن على الأصدقاء الذين ماتوا، فتفكار الإنسان يجب أن تتجه نحو المستقبل، نحو الأمور التي يمكن إنجاز شيء منها.
وليس هذا سهل دائما، فماضي المرء ثقل يتزايد بالتدريج، ومن السهل أن يفكر المرء في نفسه أن إتفعالاته قد أصبحت أكثر شدة مما كانت، وأن عقله قد صار أكثر حدة. فإذا كان هذا صحيحا فينبغي عليه نسيانها، وإذا نسيت فهي غير صحيحة.
والشيء الثاني الذي يجب تحاشيه هو التعلق بالشباب على أمل إمتصاص القوة من حيويته. فعندما يشب ابناؤك فهم يحبون ان يعيشوا حياتهم الخاصة، وإذا داومت على الإهتمام بهم كما كنت تهتم بهم وهم صغار، فالأغلب أنك ستصبح عبئا عليهم، إلا إذا كانوا عنيدين بصورة غير عادية. ولست اقصد أن لا يكون للمرء إهتمام بهم، ولكن إهتمامه ينبغي أن يكون متبصرا، وان امكن فليجعل هذا الإهتمام ذا طابع إنساني، دون أن ينحدر إلى الإفراط في العاطفية بصورة غير لازمة.
فالحيوانات تهمل صغارها عندما يمكن لصغارها أن ترعى أنفسها. ولكن الناس يصعب عليهم ذلك لطول فترة الطفولة.
وأرى أن الشيخوخة الناجحة تكون من أسهل الأمور عند اولائك الذين يملكون نواحي إهتمام غير شخصية قوية تشتمل على بذل جهود ملائمة. وفي هذا المجال تكون الخبرة الطويلة ذات ثمرة حقه، وفي هذا المجال يمكن للحكمة الوليدة للخبرة ان تمارس دون ان تكون متعسفة. ولا فائدة من تحذير كبار الابناء من الوقوع في الاخطاء، لانهم لن يصدقوك ولان الاخطاء جزء جوهري من التربية. ولكنك إذا كنت احد اولائك الذين لا يتمتعون بالقدرة على أن يكونوا من أصحاب الإهتنامات غير الشخصية، فقد تجد ان حياتك ستكون فارغة مالم تشغل نفسك بأبنائك واحفادك، وفي تلك الحالة يجب أن تتأكد انك بينما تستمر قادرا على اداء خدمات مادية لهم، كأن تمنحهم راتبا او تساعدهم على القفز إلى درجة أرقى، لاينبغي أن تتوقع انهم سيستمتعون بصحبتك.
وبعض الناس يرهقهم شعور الخوف من الموت. وعند الشباب يوجد مبرر لهذا الشعور، فالشباب الذين لديهم سبب للخوف من أنهم سيقتلون في الحرب يحق لهم الشعور بالمرارة حين يفكرون بانهم قد خدعوا في خير ما تقدمه الحياة. ولكن عند الرجل العجوز الذي عرف مسرات الحياة واحزانها، وحقق من الأعمال مافي وسعه اداؤه، يصبح الخوف من الموت امرا حقيرا مشينا.
وافضل طريقة للتغلب عليه -كما يبدو لي على الأقل- هي أن تجعل إهتمامتك بالتدريج أكثر اتساعا واكثر تجردا عن الميل الذاتي، حتى تتقهقر شيئا فشيئا جدران ذاتك الأنانية، وتصبح حياتك بالتدريج مغمورة في الحياة العامة. فوجود الفرد البشري ينبغي أن يكون اشبه بنهر صغير في بدايته ضيقا بما يحتويه بين دفتيه في مجراه، ومندفعا عارما في تدفقه عند مصبه. وبالتدريج يزداد إتساع النهر، ويتقهقر الشاطئان، وتجري المياه أكثر هدوءا، وفي النهاية، ودون إنقطاع ملحوظ، تصبح منغمرة في البحر، وتفقد دون عسر وجودها الفردي.
فالرجل الذي يمكنه في الشيخوخة أن يرى حياته على هذه الصورة، لن يعاني الخوف من الموت، مادامت الامور التي يهتم بها ستستمر.
وإذا زاد الإنهاك بانحلال الحيوية فالتفكير في الراحة لن يكون غير جميل. واتمنى ان اموت وأنا اقوم بالعمل، عارفا بان غيري سوف ينهض بما لم اعد استطيع المضي في عمله، وقانعا بالتفكير بان ماكان ممكنا قد تم.
المصدر: موقع حكمة
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة.
الوسوم
الشيخوخة الفلسفة المكتبة العامة راسل