إشكالية الشرعية فى التاريخ الإسلامي وأثرها فى الفكر والعقائد – أحمد فتحي سليمان
مات الرسول وأبوكم العباس حي فهل طلب الخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك؟ ثم مات أبى بكر فأستخلف عمر وهو يري موضع العباس ولم يوصي إليه ثم مات عمر وقد جعلها شوري في ستة أنفس لم يوصي إليه ولا ادخله فيهم فبما تستحقون انتم الخلافة و قد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها ؟
القائد القرمطي ابو الفوارس مخاطبا الخليفة العباسي المعتضد
لم يكد الرسول صلي الله عليه وسلم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى بدء الخلاف حول أساس شرعية الحاكم من بعده ولكن ذلك الخلاف لم يتحول إلى نزاع حتى وقعت الفتنه الكبري في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه حيث رأي الخارجون عليه انه فقد أساس شرعيته بينما رفض المدافعون عنه حجتهم لانه لم يرتكب جرماً ولانهم لا يمثلون الامه بحال ثم أستمرت الازمة حيث رفض معاوية ومن معه بيعه علي باعتبارها ناقصة ولم تستوعب الامه بل من حضر بالمدينة ولا تلزم غيرهم ممن لم تتم مشورتهم ثم نقض بيعته الخوارج عندما قبل بالتحكيم وأصروا على أن يقر على نفسه بالكفر ثم يتوب حتى يقبلوا ولايته !
وانقشعت الأزمة مؤقتاً زمن معاوية بعدما تصالح مع الحسن عام الجماعة ولكنها تجددت بوفاته حيث قبل أهل الشام والأمويين ولاية يزيد لما وعدهم به من رعاية حقوقهم و حسن سياستهم ولرغبتهم في الحفاظ على المكاسب التي حققوها في ظل حكم معاوية بينما رفض الحسين و أهل الحجاز و الكثير من أهل الأمصار إن تتحول خلافة المسلمين لتركة تورث خاصة مع ما أنتشر من أخبار فسوق يزيد و تعاطيه الخمور , و ارتحل الحسين إلى العراق منخدعاً بمئات الرسائل التي جاءت تبايعه و تطالبه بالحضور حتى يكون بين شيعته و أنصاره فكانت مأساة كربلاء ثم أرسل يزيد جيشاً إلى المدينة ليقمع ثورتها فتمكن بمعاونة الأمويين بها من هزيمة أهلها في موقعة الحرة ثم استباحوا المدينة ثلاث أيام يقتلون ويسلبون ثم انتقلت جيوشه إلى مكة التي أعتصم بها عبد الله بن الزبير ودافع عن الحرم حتى بلغهم موت يزيد فعرض عليه قائد جيش الشام الحصين بن نمير إن يبايعه و من معه على إن يهدر دماء أهل المدينة و لا يطالب احد من جنده بالقصاص الا انه رفض فعادوا للشام مع الأمويين.
وبالشام كان معاوية الثاني قد بويع بالخلافة لمدة قصيرة لا تزيد عن ثلاث أشهر وهو مريض ولما أحس بدنو الأجل نادي في الناس الصلاة جامعة ثم خطب فيهم ( أيها الناس إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم من يصلح لكم) ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات
وعند دفنه قال مروان بن الحكم أتدرون من دفنتم؟ قالوا: نعم، معاوية بن يزيد. فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه الفزاري
إني أرى فتنة تغلي مراجلها … والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وأعلنت البيعة لعبد الله بن الزبير في الحجاز والعراق وسائر الأمصار الإسلامية وحتى الشام بايعه حكام اغلبها ففي دمشق بايعه الضحاك بن قيس الفهرى ، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين بايع زفر بن الحارث ، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس و أصبح عبد الله بن الزبير خليفة المسلمين ببيعه الأغلبية المطلقة عدا قله من الصحابة كابن عمر وابن عباس وكذلك محمد بن الحنفية ابن على بن ابى طالب الذى اجتمع عليه جمع من شيعة ابيه وطالبوا بخلافته ولكن دون أن ينازعه الأمر احد منهم ولكن الامويين كان لهم رأى أخر ..
فأجتمع رؤوس الأمويين و قادة حلفائهم من قبائل العرب بالجابية بالأردن وهم موقنون بأن بن الزبير سيعاقبهم شر عقاب على قتلهم الحسين واله وما اجترحوا من جرائم في المدينة و حصارهم البيت الحرام أن تمكن منهم وقد وجدوا سلطانهم ينتزع من أيديهم و ثرواتهم فى طريقها للعودة لبيت مال المسلمين , فابتدعوا فكرة سيعيد الكثيرين أنتاجها لاحقاً مفادها أنهم أهل الحل والعقد باعتبارهم أهل الشوكة أصحاب السطوة و القوة ومن دونهم ليس للسلطان من قدرة ترغم على طاعته و أصحاب الحق في التعبير عن الامة من دون سائر المسلمين ولا عبرة لرأى من يخالفهم بل يعتبرونهم عصاه خارجين على الخليفة الشرعي يستحلون دمائهم , وانتهوا بعد مباحثات إلى بيعه مروان بن الحكم ومن بعده عمرو بن سعيد.
وسرعان ما عبأ مروان جيشاً أصطدم به مع أنصار عبد الله بن الزبير فى مرج راهط حيث أنتصروا عليهم وانتزعوا الشام من أيديهم ثم توجهوا لمصر فضموها لدولتهم وكانت أخر أعمال مروان فى فترة حكمة التي لم تتجاوز الاشهر السبعة أن نقض شروط عهد الجابية وبايع ابنه عبد الملك و من بعده أبنه عبد العزيز بدلاً من عمرو بن سعيد الذي تحين فرصة و أستولي على دمشق فحاصرة عبد الملك 16 يوم ثم صالحة على أن لعمرو الخلافة من بعده , وأن يكون له عامل مع كل عامل لعبد الملك, وأن يستشيره في كل صغيرة وكبيرة ويوليه الديوان وبيت المال.
لكن عبد الملك سرعان ما غدر بعمرو وقتله و كبار قادته و أنفرد بالأمر و أقام هدنه مع الروم على إن يدفع لهم جزية 1000 دينار أسبوعياً ليتفرغ لحرب عبد الله بن الزبير بينما كانت دولة ثالثة صغيرة قد قامت بين الدولتين حيث استطاع المختار الثقفي أن يستولي على الكوفة داعياً لخلافة محمد بن الحنفية (الذي لم يقبل هذا و تجنب الصراع برمته و ارتحل إلى ايله ثم الطائف ) و الانتقام من قتله ال البيت وبالفعل أستطاع مستعينا بالموالي و العبيد الذين حررهم وجعلهم جنداً في جيشه من قتل الكثيرين ممن شاركوا في قتل الحسين لكنه سرعان ما تحول لطاغية دموي مما دفع الكثيرين لمطالبة بن الزبير بحربه
وانتظر عبد الملك حتى وقع الصدام الحتمي بين المختار و عبد الله بن الزبير الذي أرسل أخاه مصعب على رأس جيش هزم المختار وقتلة لكنه ارتكب جريمة شنعاء لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي حيث قتل 6000 أسير ممن نزلوا على حكمه من جند المختار الذين رفض قادة جيشه إلا قتلهم انتقاماً منهم
وسرعان ما لقي مصعب جزاءه فهزمه جيش عبد الملك في دير الجاثليق بعدما مزقت الخيانة جيشه و انسحب العديد من قادته بعد بدء المعركة و فر إتباعهم من حوله وعندما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك, بكى وقال: ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له, حتى دخل السيف بيننا, ولكن الملك عقيم.
ثم كانت الضربة النهائية لابن الزبير في حصاره على يد الحجاج بن يوسف حتى أقتحم الحرم و قتله به وصلب على مشارف مكة ونكل بمن أيده وأذلهم حتى ختم عدد من الصحابة بينهم أنس بن مالك و جابر وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم بالرصاص في أيديهم وأعناقهم بختمه (عتيق الحجاج) وحتى من اعتزل الصراع السياسي لم يسلم من أيذاء الحجاج حتى اضطر الحسن البصرى و ابراهيم النخعي و مجاهد بن جبير للهرب والاختفاء منه حتى لا يقتلهم او يرغمهم على الاشتراك في القتال لصالح الأمويين.
وكان من نتائج الصراع الدموي الذى قامت من خلالة الدولة الأموية أن أكتسب هذا الصراع سمتاً عقائدياً و فقهياً فبينما أعتمد الامويين على نظرية حصر أهل الحل والعقد فيهم و أتخذوها أساسا استحلوا به دماء مخالفيهم بدئت بذور الخلاف العقائدي بين أهل السنة والشيعة فبعد استشهاد الحسين نشأت حركة التوابين فى الكوفة بقيادة سليمان بن الصرد فى الكوفة الذى دعى اتباعه بان يحذو حذو بني أسرائيل ويكفروا عن خطيئتهم فى خذلان الحسين بأن يبذلوا أنفسهم فى سبيل مقاومة قاتليه وقد ذهبت جماعة منهم الى كربلاء وأمضوا الليل فى البكاء وابداء الندم و فى طريق عودتهم هاجمهم الجيش الاموى فقتل أغلبهم و يعتبر بعض الباحثين تلك الواقعة الأساس و ما يفسر السلوكيات العنيفة فى ذكرى كربلاء بضرب وجرح الشيعة انفسهم وبعضهم البعض باعتبارة سلوكاً تكفيرياً اعتذارياً من ناحية و باعتبار اسالة الدم كطقس يرمز الى التضحية بالنفس بالموت تكفيراً للتحرر من الذنب وكذلك رمز لتحمل الأذى في سبيل نصرة المعتقد ثم أجتمعوا بعد موت يزيد و اتجهوا للشام لقتال الامويين إلا أنهم هزموا فى موقعة عين الوردة وقتل سليمان مما أفسح المجال للمختار الثقفي قائد فرقة الكيسانية ليجمع الاتباع من حوله ويلقي بذور الأفكار الباطنية في أتباعه ليتحول التشيع من موقف سياسي قائم على دعم ال البيت و القول بأنهم أحق الناس بقيادة الأمة إلى موقف عقائدي يشد من عضد الشيعة و يقوي مقاومتهم ويثبتهم على موقفهم بإزاء عنف و قسوة الأمويين والعباسيين من بعدهم وبدء ظهور الشيعة كفرقة عند خلافهم مع الإمام زيد بن زين العابدين بن علي وانفضاضهم من حوله عندما رفض التبروء من أبي بكر وعمر و دعوته إلى كتاب الله و سنه رسوله و ليس لإمامه ذرية علي بن أبي طالب من دون الناس وان كان لال البيت الأفضلية فى الخلافة ألا ان خلافة غيرهم جائزة صحيحة ان كانت بالشوري و على سنه الرسول فترك الشيعة من اهل الكوفة والذين دعوا زيد الى البيعه و قتال الأمويين المعركة عند احتدامها وخذلوه كما خذلوا اباءة من قبل !
وفى المقابل كانت ثورة اهل السنة الاقوي متمثلة فى ثورة عبد الرحمن أبن الاشعث الذى خرج على رأس جيش ضخم جندة الحجاج جبراً من اهل العراق وامرهم بالتوغل فى أراضى الترك حتى أيقنوا أن الغرض لا يعدو كونه مؤامرة لآهلاكهم فعادوا للعراق معلنين الثورة على الحجاج و من وراءة عبد الملك وانضم اليهم الكثيرين خاصة من الفقهاء وأهل الدين الذين كونوا كتيبة خاصة عرفت بأسم كتيبة القراء وكان فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى الذى خطب فقال ( يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت عليا- رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين- يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به، ومنكرا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه ) .
وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم و الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم .
وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم،فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار .
وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة
فلم يكن قتالهم عن تكفير لهم و مغايرة فى العقيدة بل تغيير للمنكر بالقوة ومحاولة لإصلاح نظام الملك
ولكن عبد الملك بن مروان أسعف الحجاج بجند كثيف و أمدة بجيوش فأنهزم جيش أبن الأشعث في دير الجماجم هزيمة مدمرة نكل الحجاج بعدها باهل العراق وأذلهم حتى أرغمهم على إن يشهدوا على أنفسهم بالكفر حتى من كان معتزلا للقتال ومن رفض قتله على أعين الناس !
ومن تداعيات هزيمة ابن الأشعث ان تغير الفقه السياسي الاسلامى فبدلا من القول بعدم طاعة الحاكم الظالم وقتاله أن لم يستجيب للنصح رجحت كفة القائلين بعدم الخروج على الحاكم وان كان ظالما فاسدا لما فى ذلك من شرور اكثر و مأسى أكبر بسبب الدماء التي أريقت على أيدي حكام الأمة و مقتل الكثير من العلماء الذين كانوا يقولون بالخروج والتنكيل بهم.
والأخطر إن ظهر مذهب الإرجاء العقائدي أن الإيمان قول بلا عمل وأنه لا يزيد ولا ينقص و يستوي عند القائلين به كل من اعتقده بقلبه وقال بلسانه، فيستوي إيمان أبي بكر وعمر، وإيمان الطغاة كالحجاج ومن قضى عمرة في طاعة الله و من قضاة في معصيته مادم كلاهما يشهد بأن لا اله الا الله
و دعم الرأى القائل بتحريم الخروج على الحاكم أيا كان مصدر شرعيته وأيا كان مقدار ظلمة وبغيه و نشرت أحاديث موضوعة تحث على طاعة الحكام وتحذر من معارضتهم وغالى الأمويين فى اعتقادهم بطاعة الامام الى الحد الاقصى فيقول الحجاج في إحدى خطبة (و قد فعل ما يقول ) لو أنني إمرتكم بان تخرجوا من احد أبواب المسجد فمن خرج من اخر حل لى دمه و ماله و أعتقد الأمويين ان الإمام لا يحاسبه الا الله و ليس لأحد من الامة الاختصاص بمحاسبته
وفى المقابل وصل تطرف الخوارج لحدة الاقصي مع فرقة الأزارقة الذين كفروا سائر المسلمين واستحلوا دماء وإعراض كل من لم ينضم إليهم و حتى النساء والأطفال لم تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة
وفقدت السلطة في الإسلام سمه البيعة الرضائيه و انتهت شرعية الشورى وتحولت إلى ملك عضوض لا يتأتي إلا بالسيف ولا ينتقل إلا به
و برغم اعتماد الأمويين على دعم القبائل العربية فى دولتهم القائمة على مبادلة العطاء بالولاء الا انهم لم يتورعوا فى كثير من الاحوال عن أثارة النزاعات بين القبائل وضرب بعضها ببعض حتى لا يظهر منها زعيم قوي يستطيع أنتزاع الملك من ايديهم الا أن نيران تلك الفتن أحرقت البيت الاموي الذى تصارع رجاله على الملك قرب نهاية دولتهم فانشغلوا عن مخطط العباسيين الذين أقاموا نظاما سرياً دقيقاً جمعوا فيه الناقمين على الحكم الأموي خاصة من الشيعة والموالي الذين ضاقوا بعنصرية العرب و استبدادهم بالأمر و تعاليهم على كل الأعراق غير العربية رغم تساويهم في الإسلام و الجهاد رافعين شعار الرضا من ال محمد متخذين من خراسان البعيدة عن الصراعات التقليدية وسلطان الأمويين قاعدة لهم و عندما حانت الفرصة أظهر العباسيين قوة لم يكن للأمويين قدرة على مواجهتها
وسرعان ما تمكن أبو مسلم الخرساني من هزيمة الأمويين وقتل أخر خلفاءهم مروان بن محمد بمصر و كان الذي تولى قتله عامر بن إسماعيل الخراساني، ولما قتله دخل بيته، وركب سريره، ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر ابنته، وأقبل يوبخها، فقالت له: يا عامر، إن دهرا أنزل مروان عن فراشه وأقعدك عليه حتى تعشيت عشاءه لقد أبلغ في موعظتك، وعمل في إيقاظك وتنبيهك إن عقلت وفكرت , و بالغ العباسيون في إبادة الأمويين و التنكيل بهم حتى اخرجوا جثث الخلفاء من قبورهم و صلبوها و اجتهدوا على إن لا يتركوا إي ذكر ينتمي للبيت الأموي حياً
لكن العباسيين لم يكتفوا بإبادة الأمويين بل تنكروا للشيعة الطالبين و جحدوا وعودهم لهم مما دفع محمد النفس الذكية إلى الثورة عليهم بالمدينة لظلمهم وليس لادعائه الامامه من دون الناس فقد جاء لجدة الحسن بن الحسن بن علي رجلا فسأله الم يقل رسول الله صلي الله عليه وسلم من كنت مولاه فعلي مولاه فقال (بلي ولو اراد الخلافة لخطب الناس فقال أيها الناس أن هذا ولي أمركم من بعدى , وهو القائم عليكم فاسمعوا له وأطيعوا , ويلكم لو كانت القرابة تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه , ويلكم أحبونا إن أطعنا الله على طاعته وأبغضونا إن عصينا الله علي معصيته ) , وقد بادر الخليفة العباسي المنصور ال الحسن بالإيذاء والتعذيب وسجن كل من لم يهرب منهم حتى مات فيه جماعة منهم وظل محمد النفس الذكية متخفيا و المنصور يحاول مخادعته ليظهر ولكنه لم يطيق أن يظل هاربا و أهله يعذبون في غياهب السجون فثار بالمدينة و أقتحم سجنها و اخرج من كان فيه واعتقل والي المدينة رياح بن عثمان و أعلن في الناس الثورة على المنصور فاستجابوا إليه و بايعه أكثر الناس و كان من مؤيديه الكثير من العلماء والفقهاء ولكن محمد أخطأ ولم يستمع للناصحين بأن يتوجه إلى مصر أو غيرها من الأمصار الغنية بدلا من المدينة قليلة الرجال شحيحة الأقوات وحصن المدينة وحفر حولها خندق ليواجه جيش العباسيين الذين أغروا أهل المدينة بالعفو و الأموال إن تخلوا عن محمد الذي كان يواجه قوة عسكرية أضعاف ما يحوز وخوفوهم أن استمروا في القتال إن تستباح المدينة و استطاع الجيش العباسي اقتحام الخندق بعد معارك عنيفة و قاتل محمد و القلة التي صمدت معه حتى قتل ثم قتل أخاه إبراهيم بعدما أعلن الثورة بالبصرة وأنضم إليه الآلاف من رجالها فأصاب عنقه سهم في معركة مع العباسيين فكان استشهاده نهاية مبكرة للثورة التي فقدت قيادتها .
وفى عهد هارون ثارت فتنه عنيفة بالشام بين بين قبائل النزارية واليمنية، فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الأمراء والجنود، فأخمد الفتنه و جمع السلاح من أيدي الناس حتى لم يدع بالشام فرسا ولا سيفا ولا رمحا إلا استلبه منهم وبدء ميزان القوة العسكرية ينتقل من العرب الى الفرس و الأتراك حيث فضل العباسيين الجنود النظاميين المرتزقة على القبائل العربية التي اعتادت سفك دماء بعض ولا يؤمن جانبها وقد ساندت القبائل العربية عبد الرحمن الداخل في الاستقلال بالأندلس وإعلان الدولة الأموية بها و خاصة مع قناعة العباسين بأنهم ليسوا أصحاب حق في الخلافة و لا سند شرعي لهم إلا القوة العسكرية التي لا يملكون التخلي عنها بإزاء التعاطف الشعبي الكبير الذي كان يتحصل عليه كل داعية شيعي على اختلاف دعواتهم
إلا إن تلك السياسة سرعان ما أصبحت وبالا على العباسين فبرغم نكبة البرامكة التي يعزيها الكثير من الباحثين لعلاقة سرية بين يحي البرمكي و بعض دعاة الشيعة تخوف هارون من تحولها لمؤامرة تطيح بدولته أستمر للعنصر الفارسي نفوذه فهم من دعموا المأمون خليفة هارون في صراعه مع أخيه و تغلبوا على العرب الذين أيدوه ثم أعتمد المعتصم من بعده على الأتراك فرارا من العصبيتين العربية و الفارسية وتدريجيا أصبح جيش الدولة العباسية يقوم بأكمله تقريبا من جند و قادة على العنصر التركي حصرا و ضعفت الدولة حتى أصبح الخليفة مجرد أسم ألعوبة بين أيدي القادة الأتراك أن غضبوا عليه خلعوه أو قتلوه حتى مثلما تأمروا على الخليفة المتوكل و قتلوة 247ه و نصبوة ابنه المنتصر محله ولما حاول التخلص من سلطانهم عليه قتلوه بدوره بعد شهور وعينوا المستعين ثم خلعوة ونصبوا المعتز الذى عجز عن أداء ما طالبوه به من مال فقتلوة 255ه
ولكن رغم ضعف الدولة العباسية المزري وتأكلها مع ظهور وتضخم الدول الشيعية الزيدية في اليمن و القرامطة بالشام و البحرين و الفاطميين الذين بلغ سلطانهم الذي امتد من أقصى المغرب إلى مصر ثم الحجاز والشام حتى خطب للخليفة الفاطمي المستنصر في قلب بغداد 450ه ألا إن الخلافة استمرت كرمز لان من أستقل من الولاة من أهل السنة كانوا يحتاجون لغطاء شرعي يكتسبونه من الدولة التي أقاموا ملكهم على أشلائها و أمراء الحرب والذين غلب عليهم في فترات المذهب الشيعي كانوا يحتاجون لرمزية الخلافة كأساس للشرعية الغائبة
وحتى الدولة الفاطمية ورغم أساسها العقائدي تآكلت شرعيتها مع الوقت خاصة مع قوة الاتهامات التي وجهت للخلفاء الفاطميين بأنهم ليسوا من أل البيت أصلا و أنما انتحلوا هذا النسب وانقسمت بعد وفاه المستنصر بالله 487ه إلى فرقتين النزارية نسبة إلى نزار ابنه الأكبر وتلك الإسماعيلية المعروفة بالأغاخانية والمستعلية نسبة إلى ابنه الثاني المستعلي المعروفة بالبهره بالهند ورغم إن بدر الدين الجمالي الوزير الفاطمي قد استطاع فرض المستعلي خليفة وإمام إلا انه مات صغيرا وخلفه الأمر بإحكام الله رغم انه كان في الخامسة من عمرة إلا انه قتل وهو في العشرين دون إن ينجب ولدا فتحولت الخلافة إلى عمه الحافظ خلافاً لمعتقدات الشيعة أن الإمامة تنتقل من الأمام إلى أبنه وليس غيره وبدء انهيار الدولة الفاطمية بتآكل شرعية حكامها الذين فقدوا وصف الخلفاء المنصوص عليهم كأسس عقائدي لسلطتهم وتحولوا إلى ملوك يعتمدون كليا على قوة عسكرية من فرق المرتزقة والعبيد متعددي الأجناس حتى أنهاها صلاح الدين 567ه
أما فكرة المهدي المنتظر فبدورها استخدمت للاستيلاء على السلطة وإقامة الدول و أشهر هذه النماذج و أنجحها دولة الموحدين بالمغرب و الأندلس التي قامت على أدعاء محمد ابن تومرت انه المهدي المنتظر , ورغم وفاته أثناء صراعه مع دولة المرابطين بالمغرب ألا أن خليفته أبن عبد المؤمن أستطاع القضاء على دولة المرابطين و الاستيلاء علي أملاكها ليكون دولة دينية قوية وان كانت قصيرة العمر .
و إما سلاطين المماليك في مصر فقد لجيء بيبرس لتدعيم سلطانه الذي تحصل عليه بسيفه إلى أحياء الخلافة العباسية بعد أن دمر المغول بغداد وقضوا عليها فأستقدم احمد بن الظاهر الذي أثبت الفقهاء نسبه و لقب بالمستنصر بالله وبويع بالخلافة وفوض بيبرس في كافة الأمور وأستمر هذا التقليد طيلة حياة الدولة المملوكية حتى تغلب عليها العثمانيين .
ولم يدعي سلاطين بني عثمان لقب الخليفة أو أمير المؤمنين ( لم تثبت قط بعض الأقاويل التي رددها البعض أن الخليفة العباسي بالقاهرة تنازل عن الخلافة للسلطان سليم الأول ولم يظهر هذا الادعاء إلا مع محاولة عبد الحميد الثاني تعظيم سلطانة من خلال فكرة الجامعة الإسلامية في ظل الصعوبات الجسام التي واجهها وصراع الدولة العثمانية مع الاستعمار الأوربي) واكتفوا بالحجة الواقعية للشرعية السلطان الفعلي حيث شرعية السلطة مستمدة من قدرتها على فرض طاعتها وقمع معارضيها مكرسين الرأي الفقهي الذي يربط بين شرعية السلطة وقدرتها على أداء وظائفها وتحريم معارضة السلطان و الخروج عليه مادام يشهد له بالإسلام.
ورغم أن هذه الأفكار لم تمنع من أستقل من الولاة وأقام دول كمحمد علي ومن ثار عليها كالوهابيين إلا أنها ظلت قائمة لمطلع القرن العشرين و يكفي قول محمد عبده أن الحفاظ على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله لتبين مدي قوة هذه الأفكار .
و بعد انهيار الدولة العثمانية و فقدان الأمة الإسلامية رمز وحدتها دخلت عصر الحداثة محملة بتراث ثقيل تمثل أزمة الشرعية جانباً كبيراً منه .
فبينما وجد الشيعة الأثنا عشرية مأربهم في فكرة ولاية الفقيه , حيث يتولي مجلس من الفقهاء السلطة العليا في الدولة نيابة عن الأمام الغائب حتى عودته , وجد أهل السنة أنفسهم في مأزق ..
فأهل المجتمعات الإسلامية التي حرمت من تطورها الطبيعي فلم تستطيع تكوين قوى محلية مؤهلة لتولي زمام السلطة بها في العهود المتتالية وأخرها العثماني الذي أعتمد فيه الأتراك على المركزية الشديدة و قمع محاولات الانفصال بأضعاف الولايات اقتصاديا بفرض الجزية الباهظة ومنع تملك الأراضي وتوارثها و تجريدها من القوة العسكرية المحلية فجاء الاستعمار ليفرض عليها نخبة خانعة متواطئة لا تعبر عنها استمرت بعد رحيله لتبقي تلك المجتمعات تعاني الأمرين من تبعات الانفصال بين الطبقة الحاكمة و الشعب .
ومن الجدير بالملاحظة ذلك التطابق بين أفكار الإسلاميين في العصر الحديث و الأفكار التي ترددت في التراث الإسلامي فالجماعات الإسلامية في القرن العشرين كررت رؤية بني أمية في تأسيس دولتهم مدعين أن الشورى ليست للعامة وإنما لمن هو أهل لها سواء من أهل الفقه و الاجتهاد عند بعضهم و أهل القوة و القدرة على الجهاد عند بعضهم الآخرين وهم في الحالتين المنتسبين لتلك الجماعة تحديدا دون غيرهم , ولا شرعية ولا اعتبار لسلطة خارجة عن اعترافهم بها وأن اضطروا لإظهار بعض الطاعة فذلك لمقتضيات مرحلة الاستضعاف تنتهي بانتهائها بلا تثريب عليهم فليس للسلطة بيعة في أعناقهم تلزمهم ولا شرعية تستند إليها.
وفى المقابل نجد عبارة السلطان ظل الله في الأرض يعاد صياغتها بألفاظ مختلفة من داعمي السلطة (إي سلطة) رافعين شعارات تحريم الخروج على الحاكم و إن الصراع السياسي لا يستحق ما يراق على جوانبه من دماء وما يترتب عليه من مفاسد بينما الأحرى بالمسلم العاقل التقي أن يحذوا حذو الأتقياء من أسلافه و يدعوا للحاكم و يظهر طاعته واحترامه أيا كان مصدر سلطته و أيا كانت سياساته.
ولا يجمع بين هؤلاء و هؤلاء إلا اتفاقهم على جحد حق العامة في المشاركة السياسية و اعتبار من يقول بسيادة الشعب متجاوزاً في حق الله تعالي , ويتناسون إن الغرور الذي جعلهم يتصورون أنفسهم صفوة الأمة ليس حكراً عليهم بل يشاركه فيهم غيرهم الذين أن كانوا أسعد منهم حظاً و وصلوا للسلطة يكون التنكيل بهم على رأس أولويتهم .
أن المستبد بهم يتشبهون بالمستبد ويحاكونه و تنطبع أنفسهم على قبول الاستبداد و الرغبة في ممارسته رغم ما يقاسون منه و رغم صبهم اللعنات على المستبد و الاستبداد ليل نهار.
وتاريخنا الطويل أورثنا من ضمن تركة كبيرة استبداداً خرافياً, فلا يتصور أن يكون حل الإشكالية التي رسمت قدراً كبيرا من التاريخ الإسلامي ميسوراً , وان كان التراث الإسلامي يحمل في طياته الحل من خلال قيمة العدل كمقصد من مقاصد الشريعة بلا خلاف و العقلانية كسمة من سمات الفقه الإسلامي الذي ظل حتى قريب يعلو على كافة القوانين الوضعية بها .
فأن تضافر العامل الأخلاقي في ضرورة أقامة العدل ديانة مع عامل العقلانية في ضرورة تحقيق المصالح المشروعة ودفع المضار عن المجتمع لم يعد للاستبداد موضعاً , و أصبحت الرضائيه أساساً لشرعية السلطة وبدونها لا تكون السلطة أخلاقية لافتقارها للعدل ولا عقلانية لعجزها عن حسن أداء وظائفها .
فالسلطة التي لا تحوز رضاء الشعب بأن تكون علاقتها به قائمة على أسس مجردة يتساوي فيها جميع أفراده لا تكون معبرة إلا عن طائفة منه ولا تعمل بطبيعة الحال إلا لمصلحة هذه الطائفة وهذا منافي للعدل و لمصلحة المجتمع التي تتطلب وحدته و تماسكه وترسيخ السلام الداخلي به بإزاء أعدائه و بإزاء التحديات التي تقابله و تتطلب تمكين كافة أفراده من السعي لتحقيق طموحاتهم و أنجازتهم الشخصية التى يكون مجموعها في نهاية المطاف مكاسب المجتمع و أنجازته .
وما غفلة بعض الاسلامين عن هذا إلا جراء الثقل النفسي و التراث الاستبدادي الذي طبعهم كما طبع غيرهم ولكن لكل غفلة إفاقة,و قد يكون الطريق طويل و لكن السير فيه ضروري و قد تكون الإشكالية عميقة موغلة في القدم ولكن حلها ضرورة .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة.