العقل المستقيل في خطاب المتأسلمين – بقلم: عمار بنحمودة
1- من سلطة الحاكميّة إلى سحر الدّيمقراطيّة:
لقد أقام المودودي نظريّة الحاكميّة الإلهيّة على أساس أنّ القرآن هو الحاكم الحقيقيّ للإنسان. وأنّ حقّ الحاكميّة في الأمور البشريّة له وحده. وأكّد أنّ حاكميّة الله في نظام الكون قائمة بقوّة الله التي لا تحتاج إلى اعتراف من أحد حتّى الإنسان نفسه، ولهذا فهو ملزم بطاعة حكم الله كما يطيعه الكون كلّه من الذرّة إلى النظام الفلكيّ ومجموعاته[1]. ويمكن القول إنّ هذا المبدأ قد أقام فصلا دينيّا صارما بين اتّباع القانون الإلهيّ المقدّس وسائر القوانين الوضعيّة ووظّف مفهوم التّحريم من أجل غلق أبواب الاجتهاد وتجديد تصوّرات الإنسان للحكم السياسيّ. وتكمن خطورة مفهوم الحاكميّة في كونه ينطلق من منظومة ثابتة للحكم تتمثّل في نظام الخلافة وتحكم على العقل الإنسانيّ بالقصور والعجز عن إيجاد نظم سياسيّة جديدة. ولعلّ توظيف مفهوم الطّاغوت، باعتباره المقابل الدّلالي لمفهوم الحاكميّة الإلهيّة قد ولّد تكفيرا لكلّ الأنظمة التي لا تدين بالحاكميّة ولا تتّبع شرع الله كما يصوّره أصحاب تلك النظريّة.
ثمّ صار لنظريّة الحاكميّة أثر كبير في مفكّري الإسلام السياسيّ؛ فقد مثّلت القاعدة الأساسيّة التي أقاموا عليها معارضتهم للحكّام الطواغيت. ورغم التحوّلات العميقة التي شهدها الفكر السياسيّ، فقد ظلّت مؤثّرة في تصوّراتهم لطبيعة الحكم، فكانت من آثارها العميقة استقالة العقل تفكيرا في الشأن السّياسيّ وانتقال الجماعات الإسلاميّة تدريجيّا من تصوّر الحلّ السياسيّ كامنا في الخلافة الإسلاميّة إلى التعلّق بركاب الديمقراطيّة واعتبارها الحلّ السّحريّ لكلّ المعضلات السياسيّة، بعد أن اشتدّت معاناتهم وأثرّت في مواقفهم الممارسات الاستبداديّة التي قضت بتعذيب بعضهم وسجن البعض الآخر. وقد ساهم تحوّل كثير من قيادات الجماعات الإسلاميّة إلى الاستقرار في الغرب في تليين موقفهم منه وتحوّل اتّهاماتهم للمختلفين بالتّكفير إلى دعوة نحو الحوار وتبنّي الدّيمقراطيّة نظاما للحكم. ولكن هل استطاع الإسلاميّون طوال هذه الرّحلة الطّويلة أن يؤّسسوا نظريّة سياسيّة؟
لقد كشفت التحوّلات الكبرى التي شهدها الإسلام السياسيّ قبول أصحابه بالنّظام الديمقراطيّ، بينما ظلّت كثير من فروعه التي انشقّت عنه تتبنّى الفكر التكفيريّ وترفض الديمقراطيّة، وهي لا تزال تردّد نفس المقولات القديمة التي بدأ بها المودودي دعوته إلى الحاكميّة الإلهيّة. وقد نالت الجماعات التي اعتبرت وسطيّة ومعتدلة في بعض الدّول العربيّة رضا القوى العظمى التي تصوّرت أنّ صعود تلك الأنظمة إلى الحكم من شأنه أن يضعف من أثر جماعات أخرى تقوم تصوّراتها على أساس أطروحات إسلاميّة “متطرّفة” رفعت شعار العنف وجعلته موجّها نحو الغرب. ولكن ظلّت الرّؤية الإسلاميّة محكومة بالتّلوين والإيهام بدل تعميق النّظر في الاختيارين القديم والجديد المطروحين لإدارة الشّأن السياسيّ في الدّول الإسلاميّة. فاختيار الحاكميّة الإلهيّة يفضي إلى استقالة العقل السّياسي والتّواكل على المقدّس من أجل ضمان شرعيّة الحكم وإيهام المحكومين بأنّ تطبيق شريعة الله هو الحلّ السّحريّ لكلّ المشاكل المطروحة، وهو الوسيلة المثلى لتحقيق التقدّم واللّحاق بركب الغرب المتطوّر. أمّا اختيار الديمقراطيّة في مجتمعات لم تعرف بعد طريقا واضحة نحو التّحديث، فيمكن أن يتحوّل إلى عائق بدل أن يكون عنصرا مساعدا على التقدّم متى تحوّلت الديمقراطيّة إلى مجرّد “آليّات إجرائيّة تسمح بإدارة الشأن السياسيّ بصورة رشيدة.”[2]
إنّ هذا التبسيط المخلّ للشأن السياسيّ قد أوقع المتأسلمين في مأزق خطير سبّب هوّة عميقة بين التشريع والواقع. فالاتّكال على مقولات المقدّس والتّسميات اللّاهوتيّة والتّلوين والتّحويل الدّلاليّ على حدّ عبارة نصر حامد أبو زيد[3]من شأنه أن يفتن الأنصار ويقوم بتعبئة جماهيريّة في مجتمعات لا يزال أثر المقدّس فيها كأثر السّحر، ولكنّه لا يمكن أن يؤسّس رؤية سياسيّة قادرة على معالجة المعضلات الحقيقيّة التي يطرحها الحكم السياسيّ. فواقع الفقر والتخلّف وانتشار الفساد وغياب استراتيجيّات واضحة للتنمية والتّشغيل يظلّ عائقا أساسيّا يحول دون تحويل النّظريّة إلى تطبيق. وإنّ التّواكل العقليّ الذي يفضي إلى التّعويل على النّظم الاقتصاديّة القديمة واسترضاء التراث المقدّس لن يجدي نفعا في ظلّ تعقّد المشهد الاقتصادي وتفاقم التبعيّة وتأخّر المجتمع في المجالات العلميّة والاقتصاديّة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى السياسة الليبراليّة التي تقوم على كثير من التّنازلات لاسترضاء الغرب، فمن شأنها أن تكون عامل تبعيّة وتخلّف في ظلّ نظام رأسماليّ متوحّش. ولهذا، فقد كان السّؤال الملحّ الذي طُرح على حكومات ما بعد الثّورات العربيّة من المتأسلمين هو السّؤال الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي ظلّ دون إجابة وحكم على أصحاب السّلطة القادمين من السّجون والمنافي بالفشل في إدارة الشّأن السّياسيّ. ويُختزل مفهوم الفشل في العجز عن إيجاد حلول سياسيّة للمشاكل المطروحة على الدّول التي تولوّا زمام الأمور فيها، بل إنّهم اتّبعوا سياسة انفتاح ليبراليّة مجحفة تعوّل كثيرا على الاستثمارات الخارجيّة والمساعدات الأجنبيّة وغابت من برامجهم الشّعارات القديمة التي كانت مرفوعة زمن معارضتهم للحكم السّابق وسارعوا إلى التّعويضات ومزيد إغراق الدّولة بديون خارجيّة عمّقت من أزماتها بدل حلّها. فلم يبق من الإسلام السّياسيّ سوى ترديد بعض الشعارات تلوينا للمشهد الإعلاميّ وتقمّصا لدور الدّفاع عن المقدّسات ودعوات موسميّة لنصرة القضيّة الفلسطينيّة. ولعلّ الأنموذج التونسيّ خير مثال على أنّ المتأسلمين قد فشلوا في إحداث نسق ثوريّ يمكّن البلاد من شقّ طريقها إلى التّنمية الحقيقيّة والتطوّر الفعليّ. وظلّوا طوال أيّام حكمهم يخوضون صراعات وهميّة ضدّ خصومهم العلمانيّين على قاعدة أيديولوجيّة تستعيد ما رسخ في تصوّراتهم من عدائيّة للآخر المختلف ويسترضون أتباعهم الأكثر تشدّدا الذين كانوا أوفياء لمبادئهم ولم تليّن السياسة من مواقفهم. ولئن اعتبر بعض المحلّلين أن تجربة الإسلام السياسيّ في تونس قد طوّرت من فكرهم وتصوّراتهم إلاّ أنّ هذا التطورّ كان حتميّة في ظلّ قبولهم بالديمقراطيّة التي كانت مطلبا شعبيّا ولم تكن إنجاز المتأسلمين. ولم يكن من اختيار أمامهم سوى القبول بالنّظام الدّيمقراطيّ؛ لأنّ حنينهم إلى الانفراد بالحكم باسم الحاكميّة الإلهيّة وحلمهم بالخلافة السّادسة من شأنه أن يسوّي بينهم وبين الجماعات المارقة عن القانون الدّيمقراطيّ من الجماعات الإسلاميّة المنبوذة دوليّا، وهو ما من شأنه أن يعيد المتأسلمين إلى السّجون التي قدموا منها وأن يغلق في وجوههم أبواب الغرب الذي سيعدّهم إرهابيّين بعد أن كان يحتضنهم طوال سنوات غربتهم وعزلتهم.
2- عقل براغماتيّ/ عقل مستقيل:
لقد استقال العقل السياسيّ في فكر المتأسلمين وظلّوا يتواكلون دوما على أنموذجين جاهزين، فمن خيار نظريّ يمكن أن نلخّصه في الحاكميّة الإلهيّة، اعتمده المتأسلمون سلاحا ناجعا لتعبئة الأنصار، إلى إعلانهم القبول بالاختيار الديمقراطيّ الذي أكسبهم ثقة المجتمع الدوليّ وأخرجهم من عزلتهم الإيديولوجيّة. وكان كلّ همّهم إثبات عدم تعارض الديمقراطيّة مع الشريعة الإسلاميّة. وليس البحث عن ملاءمة الديمقراطيّة مع طبيعة المجتمعات التي لا تزال تعاني كثيرا من التخلّف الاقتصاديّ والاجتماعيّ. ولذلك، فقد ظنّوا وهْمًا أنّ السّياسة تعني الوصول إلى سدّة الحكم ولم يقيموا تصوّرا واضحا لسياستهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعجزوا عن مواجهة كلّ التحدّيات المطروحة عليهم، بل إنّهم تعاملوا مع الحكم، باعتباره غنيمة سعوا فيها إلى استعادة حقوقهم المدنيّة وشغْل الوظائف الإداريّة قبل تفكيرهم في علاج مشاكل الفئات الأكثر حرمانا في المجتمع أو منح العاطلين عن العمل حقّهم في الشغل وقد كانوا قادح الانتفاضات الشعبيّة. فمن شروط العقلانيّة السّياسيّة أن يكون الوصول إلى الحكم بداية حقيقيّة لتنفيذ مشروع إسلاميّ له معالمه الواضحة ورؤيته الثوريّة التي بشّروا بها، وليس مجرّد انتصار في معركة انتخابيّة لا تختلف في مقاصدها عن تصوّر أيّ حزب حَكَمَ فوعد ثمّ أخلف وعده. “فترحيل البروتستانتيّة الإسلاميّة للدّين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا، جعل الإنسان ضحيّة فهم الدّين، يخرج الدّين من حقله الخاصّ، ويقحمه في مخاضات ومغامرات تصادر ذات الشخص البشريّ وتوهمه بوعود دنيويّة خلاصيّة لا صلة للدّين بها.”[4] كسراب بقيعة يحسبه الظَّمآَن ماء.
لقد قدّم العرب المسلمون قديما دروسا في العقل حين لم يجدوا حرجا في تطوير منظومتهم السّياسيّة واستفادوا من تجربة الفرس في تنظيم الدّولة بواسطة الدّواوين واستفادوا من الفكر اليونانيّ في تصوّرهم للمدينة الفاضلة والحكم الرّشيد. ولكنّ الإسلاميّين بدأوا نضالهم من أجل الاستيلاء على مقاليد الحكم وكانوا مستعدّين للتخلّي عن أهمّ مبادئهم من أجل البقاء في الحكم. فقد ذهب مبدأ تطبيق الشريعة في غمار النّضال من أجل البقاء وقبل المتأسلمون بالعلمانيّة فعلا وقد رفضوها قولا[5]. ولم تعد الشورى سوى تسمية مفرغة من المحتوى لا تختلف في صيغتها التطبيقيّة والتنظيميّة عن هياكل الأحزاب الأخرى. وبدأت حركة النّهضة في تونس تتخلّى تدريجيّا عن مشروع أسلمة المجتمع، وبدأ كثير من قادتها يوقنون أنّ الدّين مسألة شخصيّة. وانتهى الأمر بالحزب إلى التجرّد من كلّ شعاراته القديمة في إطار نزعة براغماتيّة غايتها البقاء في ساحة التنافس الديمقراطيّ. فذهب الإسلام وبقيت السّياسة.
كان زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي على وعي بأنّ الجماعات الإسلاميّة لم تستطع صياغة برنامج اقتصاديّ بقوله: “أنّى لأيّة معارضة جادّة في ظلّ هذه العتمة وفي مناخات القمع السّائدة أن تحقّق إنجازات معتبرة في مجال التّجديد والإبداع والتّطوير، بينما همّها منصرف إلى ضمان حقّ الوجود إزاء ملاحقتها بوصف الحزب المحظور وإدارة رحى القمع والملاحقة عليها.”[6] ولكنْ هل استطاع في مناخات الديمقراطيّة وامتلاك زمام السّلطة أن يحقّق ما برّر عجزه عن إنجازه في ظلّ القمع؟
لعلّه يغرق في تصوير ذلك العجز اقتصاديّا ويبرّر أسباب التخلّف بقوله: “إنّه في ظلّ استمرار التجزئة التي فرضتها موازين القوّة الغاشمة على أمّتنا، وما ولّدته من أوضاع استتباع وفساد واستبداد ما يبدو لمشاريع التّنمية المستقلّة التي تريدها أمّتنا آفاق مزدهرة واعدة، وذلك بصرف النّظر عن نوع النّهج الاقتصاديّ المتّبع، وهو ما دفع إلى تقلّبات ذات اليمين وذات الشّمال بحثا عن مخرج وسط السّراب، فشواهد التجربة لا تؤكّد سوى تفاقم الفقر والمديونيّة واتّساع الفوارق وتعمّق التّبعيّة للخارج مقابل تضاؤل الاعتماد المتبادل بين اقتصاديّات الأمّة.”[7] فما هي المشاريع السّياسيّة التي أقدمت عليها حركة النهضة من أجل تحقيق نواة وحدة ولو جزئيّة في العالم العربيّ؟ وهل كانت قادرة في ظلّ تبعيّتها المطلقة لقوى عظمى تحاول استرضاءها بكلّ الطّرق أن تقود مشاريع وطنيّة وإقليميّة قادرة على تحقيق أحلام الثّائرين؟ أم تراها تردّد شعارات طوباويّة سرعان ما تتلاشى بمجرّد تحوّل الحركة من المعارضة إلى الحكم ومن التّنظير إلى التّطبيق؟
لا غرابة بعد ذلك، أن تعجز الحركة الإسلاميّة في تونس عن صياغة مشروع اقتصاديّ واجتماعي قد يكون أشبه بتجربة “مهاتير محمّد” في ماليزيا أو أيّة تجربة وطنيّة رائدة تستغلّ السّبق الديمقراطيّ في الوطن العربيّ الإسلاميّ من أجل تحقيق نهضة اقتصاديّة واجتماعيّة، فخطاب الإحباط ونظريّة التآمر الغربيّ ظلّت المبرّرات الأساسيّة للفشل الذي لازم المتأسلمين في وضعهم نظريّة سياسيّة ثوريّة أو رؤية سياسيّة تنقذ البلاد والعباد من الفقر والتخلّف. ولا غرابة إذن، أن يعتبر رفعت السعيد أنّ فكر الإخوان سياسة بلا برامج.[8] “فالأنموذج النظريّ الإسلامويّ يعاني من القصور. قصورا أوّلا في النصوص… فلم يعد هناك في كافة لغات الأمّة سوى كرّاسات ومواعظ بلاغيّة وتفاسير مدقعة واقتباسات من كتب فقهاء. وقصور ثانيا في المفاهيم التي أصبحت في مأزق.”[9]
تظلّ أطروحات الإسلام السياسيّ ناقصة عقل ودين مادامت لا تستند في مرجعيّاتها إلى مقوّمات علميّة وفلسفيّة، ومادام أعلامها يعوّلون كثيرا على نظريّات جاهزة لا تثير قضايا الواقع ولا تستطيع تثمّل التحوّلات الكبرى التي شهدها الفكر الإنسانيّ ونسق التطوّر السّريع الذي دفع بكثير من الشعوب إلى مواقع التبعيّة الفكريّة والاقتصاديّة. فأولّ شروط الحرّية أن تكون فكريّة. ولن يؤدّي الاستثمار في الجهل المقدّس إلاّ إلى إثارة المشاعر وتحريك الأنفس المفتونة بالغيب، وهو ما ييسّر تجييشها وقيادتها باسم القانون الإلهيّ والدّين الإسلاميّ. ولكنّ تلك الأطروحات لن تقوى على تكوين عقل نقديّ فاعل قادر على خوض رحلة شاقّة وصعبة من أجل تحديث المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، بيد أنّها ليست بالمستحيلة. فثقافة العمل وروح المواطنة والثّقة بالنفس يمكن أن تغيّر كثيرا من الواقع السّائد وأن تزرع بذور أمل في قلوب الملايين من المحبطين والعاطلين عن العمل والهامشيّين. وإنّ للدّين في هذا المشروع دورا أساسيّا حين يكون بيد العلماء والفلاسفة الذين يمتلكون وحدهم الجرأة لتطوير مقولاته وتوظيفها من أجل أن يكون طاقة فعل لا عامل ردّة وتخلّف. أمّا رجال الدّين، فإنّهم في حاجة إلى رحلة فكريّة وعلميّة خارج أروقة الفقه وعلم الكلام كي يروا الحقيقة انطلاقا من وجهات نظر أخرى قد توسّع من ضيق آفاقهم وتحملهم على اجتهادات ثوريّة يمكن أن تخرجهم من دوّامة الزمن الدّائريّ الذي يرتدّ على نفسه عودا على بدء، اجترارا وتكرارا لملاحم المسلمين أيّام الزمن السّعيد والحكم الرشيد وبكاء على الأطلال ونواحا على ضعف الإسلام وعجز المسلمين. فالنّظر إلى الدّين من زاوية السّاسة ورجال الدّين بتصوّراتهم الراهنة يظلّ قاصرا عن إدراك جوهره والوعي بطاقته التي يمكن أن تكون وقود التّحديث، مثلما كانت بالأمس سرّ قوّة المسلمين، وهو يؤدّي دوما إلى بروز نزعة نفعيّة تفكّر في مصلحة الجماعة السياسيّة وسبل ارتقائها إلى الحكم أكثر من تفكيرها في الحاجات الحقيقيّة للمجتمع. وإنّ البحث عن حلول جاهزة في مجتمعات لها خصوصيّاتها الثقافيّة والحضاريّة في ظلّ عالم شديد التغيّر من شأنه أن يجعل الحلول طوباويّة سرعان ما تثبت فشلها إذا تحوّلت من النظريّة إلى التطبيق، وحكمت على العقل النقديّ بأن يستقيل.
* يعتمد بعض الدّارسين مصطلح الإسلام السياسيّ، وهو مصطلح يمنح بعض الجماعات شرعيّة توظيف الإسلام في المجال السياسيّ، بينما يميل بعض الباحثين إلى اعتماد مصطلح المتأسلمين مثل رفعت السعيد وسيد محمود القمني من منطلق القول بأنّ الإسلام يظلّ مجرّد تلوين لخطاب السياسيّ وآليّة لاكتساب الشرعيّة، وهو في تقديرنا المصطلح الأقرب إلى حقيقة التجارب السياسيّة التي تعتمد مرجعيّات إسلاميّة انطلاقا من التوظيف الإيديولوجيّ والمذهبيّ للإسلام.
[1] انظر: أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، (تعريب أحمد إدريس)، ط1، الكويت، دار القلم، 1978، ص 13
[2] رفيق عبد السلام، في العلمانيّة والدين والديمقراطيّة المفاهيم والسياقات، ط1، بيروت/ قطر، الدار العربيّة للعلوم ناشرون/ مركز الجزيرة لدراسات، 2008، ص 212
[3] انظر: نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ط2، مصر، دار سينا، 1994، ص ص 178- 179
[4] عبد الجبّار الرّفاعي، الدّين والظمأ الأنطولوجي، ط1، بغداد/ بيروت، مركز دراسات فلسفة الدّين/ دار التنوير للطباعة والنشر، 2016، ص 172
[5] انظر مثلا: رفيق عبد السلام، تفكيك العلمانيّة، ط1، تونس، دار المجتهد، 2011، ص ص 230- 235
[6] راشد الغنّوشي، الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة، ط1، تونس، دار المجتهد، 2011، ص 220