يبدو السؤال “ما هو علم النفس؟” أكثر إزعاجا بالنسبة لكل عالم نفس من السؤال “ما هي الفلسفة” بالنسبة لكل فيلسوف. لأن مسألة المعنى والماهية بالنسبة للفلسفة تشكلها أكثر مما يعرفها جواب عن هذا السؤال. أما كون السؤال لا يكف عن إعادة الظهور، بسبب عدم وجود جواب مقنع وشاف، فهو، بالنسبة لمن يريد أن يعتبر نفسه فيلسوفا، سبب تواضع وليس علة إذلال. ولكن، بالنسبة لعلم النفس، فإن مسألة ماهيته، أو بشكل متواضع، مسألة مفهومه، تطرح أيضا مسألة الوجود ذاته لعالم النفس، وذلك بالحد الذي عوض أن يجيب فيه بدقة عن من هو، فإنه يصطدم بصعوبة الجواب عما يفعل، وعندئذ، فإنه لا يمكنه أن يبحث إلا في فعالية قابلة للاعتراض دوما عن تبرير أهميته كمتخصص، وهي أهمية قد لا تزعج بعضهم في أن يراها تولد لدى الفيلسوف عقدة نقص.
وعندما نقول عن فعالية عالم النفس بأنها قابلة للاعتراض والمناقشة، فإننا لا نقصد بذلك أنها وهمية، وإنما نريد ببساطة أن نلاحظ بأن هذه الفعالية هي بدون شك غير مؤسسة، طالما لم يقم الدليل على أنها ناتجة عن تطبيق علم معين، أي طالما أن وضع علم النفس ليس ثابتا بشكل يجبرنا على اعتبار أنه أكثر وأفضل من اختبارية سمجة، مقننة أدبيا لغايات تعليمية. والواقع أننا نخرج من كثير من الأعمال السيكولوجية، بانطباع أنها تخلط بفلسفة عديمة الصرامة أخلاقية بلا لزوم واقتضاء وطبا بلا مراقبة. فلسفة بلا صرامة لأنها انتقائية تحت ذريعة الموضوعية، وأخلاقية بلا لزوم لأنها تجمع بين تجارب سلوكية هي نفسها خالية من النقد، تجربة المعترف والمربي والرئيس والقاضي…الخ، وطب بلا مراقبة لأن من بين الأنواع الثلاثة من الأمراض الأكثر غموضا والأقل قابلية للعلاج: أمراض الجلد، وأمراض الأعصاب، والأمراض العقلية، وفرت دراسة النوعين الأخيرين دائما لعلم النفس ملاحظات وفرضيات.
وإذن، يمكن أن يبدو بأننا عندما نطرح سؤال “ما هو علم النفس؟” فإننا إنما نطرح سؤالا ليس تافها ولا غير ذي أهمية.
لزمن طويل، كان البحث يتم عن الوحدة المميزة لمفهوم علم ما في اتجاه موضوعه. فالموضوع كان يملي المنهج المستخدم لدراسة خصائصه. غير أن الأمر كان، في العمق، حصر العلم في التحقيق في معطى، في استكشاف ميدان معين. ولكن عندما ظهر بأن كل علم إنما يمنح ذاته معطاه إن قليلا أو كثيرا، ويتملك، بذلك ما يدعى ميدانه، فإن مفهوم علم ما انشد تدريجيا إلى منهجه أكثر من موضوعه. أو بكيفية أدق، تلقت العبارة “موضوع العلم” معنى جديدا. فموضوع العلم لم يعد فقط هو الميدان المميز للمشكلات التي ينبغي أن تحل، والعوائق التي يجب أن تتجاوز، بل صار أيضا هو نية وهدف ذات العلم؛ فالمشروع المميز هو الذي يشكل وعيا نظريا من حيث هو كذلك.
فعن السؤال “ما هو علم النفس؟”، يمكن الإجابة بإبراز ميدانه رغم تعدد المشروعات المنهجية. وإلى هذا النوع ينتمي مثلا الجواب الذي تقدم به دانيال لاغاش (Daniel Lagache) عام 1947 عن سؤال طرحه عام 1936 إدوار كلاباريد (Edouard Claparède)([1]). إن وحدة علم النفس يبحث عنها هنا في التعريف الممكن لعلم النفس كنظرية عامة في السلوك، وهي تركيب بين علم النفس التجريبي وعلم النفس العيادي والتحليل النفسي وعلم النفس الاجتماعي والإثنولوجيا…
ومع ذلك، فبإمعان النظر قليلا يمكن القول، ربما، بأن هذه الوحدة تشبه ميثاق تعايش سلمي موقع بين مختصين أكثر مما تشبه ماهية منطقية تحصلت بالكشف عن ثابت في تنوع حالات متعددة. فمن الاتجاهين اللذين يبحث لاغاش عن إقامة اتفاق متين بينهما: الاتجاه الطبيعي (علم النفس التجريبي) والاتجاه الإنسانوي (علم النفس العيادي)، لدينا انطباع بأن الثاني يبدو له بأنه أكثر أهمية. ولعل هذا ما يفسر من دون شك غياب علم النفس الحيواني في هذا الاستعراض لأطراف النزاع. صحيح أن علم النفس الحيواني متضمن في علم النفس التجريبي –الذي هو في جزء كبير منه علم نفس حيواني-، ولكنه محبوس فيه كمادة يطبق عليها المنهج. وبالفعل فإنه لا يمكن أن يقال عن علم للنفس بأنه تجريبي إلا اعتبارا لمنهجه، وليس بسبب موضوعه. بينما، وخلافا للمظاهر، فإن بموضوعه أكثر من منهجه يمكن أن يقال عن علم للنفس بأنه عيادي، تحليلي نفسي، اجتماعي أو اثنولوجي. وكل هذه الصفات هي مؤشرات على نفس الموضوع الواحد للدراسة: الذي هو الإنسان، الثرثار أو السكوت، الكائن الاجتماعي الأليف أو اللاجتماعي. وحالئذ، هل يمكن الحديث بدقة عن نظرية “عامة” في السلوك طالما لم يتم حل مسألة معرفة هل هناك اتصال أم انقطاع بين اللغة البشرية واللغة الحيوانية، بين المجتمع البشري والمجتمع الحيواني؟ من الممكن ألا تكون الفلسفة، حول هذه النقطة هي التي عليها أن تقرر، وإنما العلم، وبالأحرى علوم عديدة بما فيها علم النفس. ولكن علم النفس لا يمكنه، ليعرف ذاته، أن يستبق ما هو مدعو للحكم عليه. لأنه بدون ذلك، فإنه من الحتمي، عندما يقدم ذاته كنظرية عامة في السلوك، أن يتبنى فكرة ما عن الإنسان. وعندئذ، فإنه يجب السماح للفلسفة بأن تسأل علم النفس عن المصدر الذي يأتي منه بهذه الفكرة، وعما إذا كان لا يستعيرها، في العمق، من فلسفة معينة.
إنني أود، لأنني لست عالم نفس، أن أقارب المسألة الأساسية التي يطرحها طريق مغاير، أي البحث عما إذا كانت وحدة مشروع أم لا هي التي قد يمكنها أن تمنح وحدتها المحتملة لمختلف أنواع العلوم المسماة سيكولوجية. ولكن الطريق الذي اخترناه لهذا البحث يستلزم عودة إلى الوراء. فالبحث عن في ماذا تغطي ميادين بعضها البعض يمكن أن يتم باستكشافها المستقل وبمقارنتها في الحاضر(…). والبحث عما إذا كانت مشروعات تلتقي فيما بينها يتطلب إبراز معنى كل واحد منها، ليس عندما ضاع في آلية التنفيذ، وإنما حين انبثق من الوضع الذي أثاره، وهكذا، فإن البحث عن جوانب للسؤال “ما هو علم النفس؟” يصبح، بالنسبة إلينا، واجب رسم الخطوط العريضة لتاريخ علم النفس؛ ولكن منظورا إليه، بالطبع، في توجهاته وبالعلاقة مع تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم؛ تاريخ غائي بالضرورة، لأنه معين لنقل، حتى السؤال المطروح، المعنى الأصلي المفترض لمختلف الدراسات والمناهج والمشاريع التي يبرر تنافرها الراهن هذا السؤال.
I – علم النفس كعلم طبيعي:
إنه لمن الغريب، وعلم النفس يعني اشتقاقيا علما بالنفس، أن يكون علم للنفس غائبا تماما، في الفكر والواقع، من المنظومات الفلسفية القديمة، على الرغم من أن “النفس” (Psyché) كانت تتصور فيها ككائن طبيعي. فالدراسات المتعلقة بالنفس كانت، في تلك المنظومات، تتوزع بين الميتافيزيقا والمنطق والفيزياء. ومطول أرسطو في النفس هو في الواقع كتاب في البيولوجيا العامة وواحد من المكتوبات المخصصة للفيزياء. فبعد أرسطو، وحسب تقاليد المدرسة، كانت دروس الفلسفة لا تزال حتى بداية القرن السابع عشر، تتحدث عن النفس ضمن فصل من فصول الفيزياء. ولقد كان موضوع الفيزياء هو الجسم الطبيعي والمنظم الذي يتضمن الحياة بالقوة. ولذلك كانت الفيزياء تعالج النفس كشكل للجسم الحي وليس كماهية منفصلة عن المادة. ومن وجهة النظر هذه، فإن دراسة لأعضاء المعرفة، أي للحواس الخارجية (الخمسة المعروفة) وللحواس الداخلية (الحس المشترك، الذاكرة، الخيال) لا تختلف في شيء عن دراسة أعضاء التنفس أو الهضم. فالنفس موضوع طبيعي للدراسة، وشكل في تراتب الأشكال، حتى ولو كانت وظيفتها الأساسية هي معرفة الماهيات. ومن ثم، فعلم النفس هو منطقة من مناطق الفيزيولوجيا، بمعناها الأصلي والكوني كنظرية في الطبيعة.
فإلى هذا التصور القديم يعود، بدون قطيعة، جانب من علم النفس الحديث: فيزيولوجيا الجهاز العصبي –متصورة كسيكولوجيا للجهاز العصبي حصرا (ولكن اليوم أيضا كسيكولوجيا لعلم الغدد الصم)- وعلم النفس المرضي كدراسة طبية. وتحت هذه العلاقة، فإنه لا يبدو عديم الجدوى التذكير بأنه وقعت قبل الثورتين الكبيرتين اللتين سمحتا بازدهار الفيزيولوجيا الحديثة، ثورة هارفي (W.Harvey) وثورة لافوازييه (Lavoisier)، ثورة ليست بأقل أهمية من نظرية الدورة الدموية أو نظرية التنفس على يد غالينوس (Galien) حينما أقام عياديا وتجريبيا، بعد أطباء مدرسة الإسكندرية هيروفيل (Hérophile) وإراسيسترات (Erasistrate)، ضد المذهب الأرسطي وطبقا لإرهاصات الكميون (Alcméon) وأبو قراط (Hippocrate) وأفلاطون، بأن الدماغ وليس القلب هو عضو الإحساس والحركة، وإنه مكان النفس. ولقد أسس غالينوس حقا انتسابية متواصلة من الأبحاث، استمرت لقرون، يكمن محورها الجوهري في نظرية الأنفاس الحيوانية؛ تلاشت واستبدلت في نهاية القرن 18 بالكهرباء العصبية. وعلى الرغم من أنه تعددي في تصوره للعلائق بين الوظائف النفسية والأعضاء الدماغية، فإن غال (Gall) ينحدر مباشرة من غالينوس ويهيمن، رغم غراباته، على كل الأبحاث حول التموضعات الدماغية أثناء الستين سنةالأولى من القرن 19، أي إلى حدود بروكا (Broca). وإجمالا، فإن علم النفس اليوم، كعلم نفس فيزيولوجي وكعلم نفس مرضي، يعود دوما إلى القرن الثاني.
II – علم النفس كعلم للذاتية:
يسجل انهيار الفيزياء الأرسطية في القرن 17 نهاية علم النفس كفيزياء موازية، كعلم موضوع طبيعي؛ وبالترابط مع ذلك يسجل ميلاد علم النفس كعلم للذاتية. إن المسؤولين الحقيقيين عن حدث قيام علم النفس الحديث، علم بالذات المفكرة، هم الفيزيائيون الميكانيكيون (الآليون) للقرن 17([2]).
فإذا كان واقع العالم لم يعد يختلط بمضمون الإدراك، وإذا كان الواقع يتحصل ويطرح بإسقاط أوهام التجربة الحسية المعتادة، فإن الفضالة الكيفية لهذه التجربة، من حيث أن بإمكانها أن تقوم كدحض للواقع، تلزم المسؤولية الخاصة بالفكر، أي بذات التجربة من حيث أنها لا تتطابق مع العقل الرياضي والآلي، الذي هو أداة الحقيقة ومقياس الواقع.
غير أن هذه المسؤولية هي، في نظر الفيزيائي، إثم، من هنا تشكل علم النفس كمهمة لتبرئة الفكر. فمشروعه هو مشروع علم يفسر، أمام الفيزياء، لماذا هو الفكر مضطر بالطبيعة لخداع العقل بالعلاقة مع الواقع. إذن، فإن علم النفس يقدم ذاته هنا كفيزياء للحس الخارجي، وذلك لإبراز المغالطات التي تتهم بها الفيزياء الميكانيكية ممارسة الحواس في وظيفة المعرفة.
أ ـ فيزياء الحس الخارجي:
يبدأ علم النفس إذن، بما هو علم للذاتية، كعلم نفس فيزيائي. وذلك لسببين: الأول أنه لا يمكنه أن يكون أقل من فيزياء حتى يأخذ مأخذ الجد من لدن الفيزيائيين. والثاني أن عليه أن يبحث في طبيعة، أي في بنية الجسد البشري، عن سبب وجود البقايا اللاواقعية للتجربة الإنسانية.
ولكن ليست هذه، مع ذلك، عودة إلى التصور القديم عن علم النفس كجزء من الفيزياء. فالفيزياء الجديدة حساب، وعلم النفس ينزع إلى تقليدها. إنه سيبحث في تحديد ثوابت كمية للإحساس وتحديد العلاقات بين هذه الثوابت.
ولعل ديكارت ومالبرانش يتعينان في المقدمة. ففي القواعد من أجل توجيه الفكر(XII)، يقترح ديكارت اختزال الاختلافات الكيفية بين المعطيات الحسية إلى اختلاف في الأشكال الهندسية. والأمر يتعلق هنا بالمعطيات الحسية من حيث إنها، بالمعنى الدقيق، إخبارات لجسم من طرف أجسام أخرى؛ فما تخبر عنه الحواس الخارجية هو حس داخلي “التخيل الذي ليس شيئا آخر غير جسم واقعي وممثل”. وفي القاعدة XIV يتحدث ديكارت صراحة عما سيسميه كانط بالمقدار التكثيفي للإحساسات (نقد العقل الخالص، التحليلية المتعالية، استباق الإدراك): فالمقارنات بين الأضواء والأصوات…الخ، لا يمكنها أن تتحول إلى علائق دقيقة إلا بالمماثلة مع امتداد الجسم الممثل. وإذا أضفنا إلى ذلك أن ديكارت، إذا لم يكن، بالمعنى الدقيق، هو مخترع لفظ ومفهوم الارتكاس، فإنه أكد مع ذلك على ثبات العلاقة بين الإثارة ورد الفعل، فإننا نرى بأن علما للنفس، مفهوما كفيزياء رياضية للحس الخارجي إنما يبدأ معه لينتهي إلى فيخنر (Fechner)، بفضل مساعدة الفيزيولوجيين كهرمان هلمهولتز (Hermann Helmholtz) على الرغم وضد التحفظات الكانطية…
بعد ذلك، وسع فونت (Wundt) هذا النوع من علم النفس ليصير علم نفس تجريبي يسنده في أعماله الأمل في أن يظهر، في قوانين وقائع الشعور، حتمية تحليلية من نفس صنف تلك التي تبعث الميكانيكا والفيزياء الأمل في صلاحيتها الكونية بالنسبة لكل علم أيا كان.
لقد توفي فيخنر عام 1887، سنتين قبل رسالة برغسون دراسة في المعطيات المباشرة للشعور(1889)، وتوفي فونت سنة 1920 بعدما كون كثيرا من الأتباع لازال بعضهم على قيد الحياة وبعدما شهد الهجومات الأولى لعلماء نفس الشكل ضد الفيزياء التحليلية، التجريبية والرياضية معا، للحس الخارجي…
ب ـ علم الحس الداخلي:
غير أن علم الذاتية لا يقتصر على بلورة فيزياء للحس الخارجي، وإنما يقترح ويقدم ذاته أيضا كعلم للشعور بالذات، أو علم الحس الداخلي. فإلى القرن 18 تعود نشأة لفظ علم النفس بمعنى علم الأنا (فولف Wolff)، ولعل كل تاريخ هذا العلم يمكن أن يكتب كتاريخ للتفسيرات المعكوسة التي كانت تأملات ديكارت مناسبتها، دون أن تتحمل مسؤوليتها.
عندما ينظر ديكارت، في بداية “التأمل الثالث”، في “داخله” من أجل أن يصير أكثر معرفة بنفسه أو أكثر ألفة معها، فإن هذا النظر إنما يستهدف الفكر. فالداخل الديكارتي، أي الشعور بالأنا المفكر، هو المعرفة المباشرة التي للنفس عن ذاتها من حيث هي فهم خالص. والتأملات يسميها ديكارت “ميتافيزيقية” لأنها تزعم التوصل رأسا إلى معرفة طبيعة وماهية الـ”أنا أفكر” في الإدراك المباشر لوجوده. فالتأمل الديكارتي ليس مساراة شخصية، والتفكير الذي يمنح لمعرفة الأنا صرامة وموضوعية الرياضيات ليس تلك الملاحظة للذات التي لم يخش روحانيو بداية القرن 18 أن ينسبوها لسقراط حتى يستطيع بيير-بول رويي- كولار (Pierre-Paul Royer-Collard) أن يطمئن نابليون الأول بأن “أعرف نفسك” و”الكوجيتو” و”الاستبطان” إنما توفر للعرش وللكنيسة معا أساسهما الحصين.
إلا أن لا شيء يجمع بين الداخل الديكارتي والحس الداخلي للأرسطيين “الذي يتصور موضوعاته داخليا وفي داخل الرأس”، والذي رأينا أن ديكارت يعتبره جانبا من الجسم (ق XIII). لذلك يقول ديكارت بأن النفس تعرف ذاتها مباشرة وبكيفية أسهل من الجسد. وهذا تأكيد تجهل في غالب الأحيان نيته السجالية الصريحة، لأن النفس، حسب الأرسطيين، لا تعرف ذاتها بكيفية مباشرة. “إن معرفة النفس لا تتم مباشرة أبدا، وإنما بالتفكير، لأن النفس شبيهة بالعين التي ترى كل شيء ولا يمكنها أن ترى ذاتها إلا بالانعكاس كما في مرآة.. وبالمثل، فإن النفس لا ترى، ولا تعرف ذاتها إلا بالتفكير والتعرف على آثارها”([3]). وهذه أطروحة تثير سخط ديكارت، عندما يستخدمها كاسندي (Gassendi) في اعتراضاته على “التأمل الثالث”، والتي يجيب عليها قائلا: “ليست العين هي التي ترى نفسها، ولا المرآة، وإنما الفكر الذي وحده يعرف المرآة والعين وذاته في نفس الوقت”.
إلا أن هذا الرد الحاسم لم يقض على هذه الحجة المدرسية (السكولائية)، فمين دوبيرون(Maine de Biran ) يستعيدها مرة أخرى ضد ديكارت في كتابه بحث في تفكيك الفكر، وأوغست كونت يثيرها ضد إمكانية الاستبطان أي ضد هذه الطريقة في معرفة الذات التي يستعيرها بيير-بول رويي كولار من ريد (Reid) ليجعل من علم النفس التمهيد العلمي للميتافيزيقا، مبررا بالنهج التجريبي الأطروحات التقليدية للماهوية الروحية([4]). بل إن كورنو (Cournot) نفسه، بنفاذ بصيرته، لا يستهين باستعادة الحجة إياها لدعم فكرة أن الملاحظة النفسية تتعلق أكثر بسلوك الآخر من أنا الملاحظ، وأن علم النفس ينتمي إلى الحكمة أكثر من العلم وأن “من طبيعة الوقائع النفسية أن تترجم إلى حكم بدل مبرهنات”([5]).
والواقع أنه تم تجاهل تعاليم ديكارت، ضده بتشكيل علم اختباري للنفس كتاريخ طبيعي للأنا –من لوك إلى ريبو (Ribot) عبر كوندياك والأيديولوجيين الفرنسيين والنفعيين الإنجليز- وانطلاقا منه، كما اعتقد بتشكيل علم نفس عقلاني مؤسس على حدس أنا ماهوي.
ولعل كانط يحتفظ حتى اليوم بمجد أنه أثبت بأنه إذا كان وولف قد سمى هؤلاء المواليد بالما بعد ديكارتيين(…)، فإنه لم يفلح مع ذلك في تأسيس طموحاتهم إلى المشروعية. فكانط يبين، من جهة، بأن الحس الداخلي الظواهري ليس إلا شكلا من الحدس التجريبي، وبأنه ينزع إلى الاختلاط مع الزمان؛ ومن جهة أخرى، بأن الأنا، ذات كل حكم للإدراك المتميز، هو وظيفة تنظيم للتجربة، ولكن لا يمكنه أن يكون موضوع علم لأنه يشكل الشرط المتعالي لكل علم. لذلك ترفض المبادئ الميتافيزيقية الأولى لعلم الطبيعة (1786) لعلم النفس مدى وصلاحية العلم، سواء على شاكلة الرياضيات أو على صورة الفيزياء. فليس هناك علم رياضي للنفس ممكن، بالمعنى الذي توجد به فيزياء رياضية. وحتى لو طبقنا على تغييرات الحس الداخلي، بمقتضى استباق الإدراك المتعلق بالمقادير التكثيفية، رياضيات الاتصال، فإننا لن نحصل على أي شيء مهم أكثر مما قد تكونه هندسة تقتصر على دراسة خصائص الخط المستقيم. وبالمثل، فليس هناك علم تجريبي بالمعنى الذي تتشكل به الكيمياء باستعمال التحليل والتركيب. وإذن، فإنه لا يمكننا، لا على أنفسنا ولا على غيرنا، أن نقيم تجارب. أما الملاحظة الداخلية، فإنها تفسد موضوعها. والسعي إلى مباغتة الذات في ملاحظة ذاتها قد يقود إلى الاستيلاب. لذلك، فإن علم النفس لا يمكنه أن يكون سوى وصفيا، ومكانه الحقيقي هو داخل “أنثروبولوجيا” كتمهيد لنظرية في المهارة والحذر، تتوجها نظرية في الحكمة.
ج ـ علم الحس الباطني:
إذا أسمينا علم النفس الكلاسيكي ذلك الذي ننوي دحضه، فإنه يجب القول بأن هناك دوما في علم النفس كلاسيكيا بالنسبة لأحد ما. فالإيديولوجيون، الذين هو ورثة الحسيين، كانوا يعتبرون على أنه كلاسيكيي علم النفس الإسكتلندي الذي لم يكن ينادي مثلهم بالمنهج الاستقرائي إلا من أجل التأكيد، ضدهم، على ماهوية الفكر. بيد أن علم النفس الذري والتحليلي للحسيين والإيديولوجيين كان، قبل أن يرفضه منظورا نظرية الشكل كعلم نفس كلاسيكي، قد نظر إليه النظرة نفسها من قبل عالم نفس رومانسي كمين دوبيرون. فمعه وبه صار علم النفس تقنية المذكرات الخاصة وعلم الحس الباطني. لقد كانت عزلة ديكارت تزهد عالم رياضي، أما عزلة مين دوبيرون فهي فراغ مساعد. وإذا كان “الأنا أفكر” الديكارتي يؤسس الفكر في ذاته، فإن الـ”أنا أريد” البيروني يؤسس الوعي للذات ضد الخارجية. ففي مكتبه الملبد، يكتشف مين دوبيرون بأن التحليل النفسي لا يتعلق بالتبسيط وإنما بالتعقيد، وإن الواقعة النفسية الأولى ليست عنصرا وإنما علاقة، وإن هذه العلاقة تعاش في الجهد. وهكذا يتوصل إلى نتيجتين غير متوقعتين بالنسبة لرجل يمارس وظائف السلطة، أي وظائف الحكم والقيادة: الأولى أن الشعور يتطلب صراع سلطة ومقاومة، والثانية أن الإنسان ليس(…) ذكاء تخدمه أعضاء وإنما تنظيما حيا يخدمه ذكاء. فمن الضروري بالنسبة للنفس أن تكون مجسدة.وإذن، فليس هناك علم للنفس بدون بيولوجيا.
وملاحظة الذات لا تغني عن اللجوء إلى فيزيولوجية الحركة الإرادية وإلى مرضية الانفعالية. إن وضع مين دوبيرون فريد بين اثنين من رويي كولار: فلقد تحاور مع المذهبي وخضع لحكم الطبيب العقلي. إننا نتوفر من مين دوبيرون على كتاب يسمى فسحة مع السيد رويي كولار في حدائق اللوكسنبورغ، ومن أنطوان أتاناز رويي كولار (Antoine-Athanase Royer-Collard)، وهو الأخ الأصغر للأول على فحص لمذهب مين دوبيرون، ولو لم يقرأ مين دوبيرون ويناقش كابنيس (Cabanis) (العلاقات بين المادي والمعنوي عند الإنسان، 1792)، ولم يقرأ ويناقش بيشا (Xavier Bichat) (أبحاث حول الحياة والموت، 1800)، لكان تاريخ علم النفس المرضي سيتجاهله، الشيء الذي لا يمكنه أن يفعله. فرويي-كولار الثاني هو، بعد بينل (Pinel) ومع اسكيرول (Esquirol) أحد مؤسسي المدرسة الفرنسية للطب العقلي. لقد كان بينل يدافع عن فكرة أن المختلين عقليا هم مرضى كباقي المرضى الآخرين، لا ممسوسين ولا مجرمين، وهم مختلفون عن الآخرين في نفس الوقت، أي يجب أن يعالجوا في استقلال عن الآخرين وفي استقلال حسب الحالات في مراكز استشفائية متخصصة. لقد أسس بينل الطب العقلي كعلم مستقل انطلاقا من العزل العلاجي للمختلين في بيساتر (Bicêtre) ولا سالبيتريير (Salpêtrière)، وقلده رويي-كولار في “الدار الوطنية لشرونتون” (Maison Nationale de charenton) التي صار طبيبا رئيسيا لها عام 1805، العام نفسه الذي ناقش فيه إسكيرول أطروحته في الطب حول الأهواء والانفعالات كأسباب وأعراض ووسائل علاجية للاختلال العقلي. وفي سنة 1816 أصبح رويي كولار أستاذا للطب الشرعي في كلية الطب بباريس، ثم في سنة 1821 أستاذ كرسي الطب العقلي… وفي لا سالبيتريير أصبح شاركو (Charcot)، بعد بنيل واسكيرول… سنة 1862 رئيس القسم الذي سيتابع أعماله ريبو وبيير جانيت (Pierre Janet) وسيغموند فرويد.
لقد رأينا علم النفس المرضي يبدأ إيجابيا مع غالينوس، وها نحن نراه ينتهي إلى فرويد، الذي ابتكر سنة 1896 لفظ “التحليل النفسي”. إن علم النفس المرضي لم يتطور بدون علاقة مع الدراسات النفسية الأخرى. وعلى إثر أبحاث مين دوبيرون، فإنه يرغم الفلسفة على التساؤل، منذ أكثر من قرن من الزمان، عن من أي واحد من رويي كولار الاثنين يجب أن تستعير الفكرة التي عليها أن تكونها عن علم النفس. وهكذا يكون علم النفس المرضي في الآن معا قاض وطرف في النزاع اللامنقطع الذي فوضت الميتافيزيقا إدارته لعلم النفس، دون أن تتخلى مع ذلك عن أن تقول كلمتها فيه، حول علائق الجسدي بالنفسي، وهي علاقة صيغت طويلا كجسدية-نفسية قبل أن تصير نفسية-جسدية، ولعل هذا القلب هو نفسه الذي حدث في الدلالة التي منحت للاشعور. فإذا فكرنا بأن النفسي يمكنه أن يكون لاشعوريا، فإن علم النفس لا يمكنه أن يختزل إلى علم الشعور. إن النفسي لم يعد فقط ما هو مختلف، وإنما ما يختفي وما نخفي أنه لم يعد فقط الباطني، ولكن أيضا –حسب لفظ استعاره بوسويي (Boussuet) من المتصوفة- السحيق الذي لا قعر له. وهكذا، لم يعد علم النفس علم الباطنية وحسب، وإنما صار كذلك علم أعماق النفس.
III – علم النفس كعلم للاستجابة والسلوك:
باقتراحه تعريف الإنسان كتنظيم حي يخدمه ذكاء، رسم مين دوبيرون مسبقا(…) الحقل الذي سيتشكل فيه علم للنفس جديد في القرن 19. ولكنه عين له في نفس الوقت حدوده لأنه وضع في “أنثروبولوجياه” الحياة البشرية بين الحياة الحيوانية والحياة الروحية.
ولقد شهد القرن 19، بجانب علم النفس كمرضية عصبية وعقلية، كفيزياء للحس الخارجي، كعلم للحس الداخلي وللحس الباطني، قيام بيولوجيا للسلوك البشري. ويبدو لنا أن أسباب هذا الحدث هي كالتالي: أولا أسباب علمية تتمثل في تكون بيولوجيا كنظرية عامة في العلاقات بين العضويات الحية والأوساط، والتي تسجل نهاية الاعتقاد بوجود مجال بشري منفصل ومتميز؛ ثانيا أسباب تقنية واقتصادية تكمن في تطور نظام صناعي يشد الانتباه إلى الطابع الصناعي والمهاري للنوع البشري، والذي يسجل نهاية الاعتقاد في تعالي وتبجيل التفكير التأملي؛ وأخيرا أسباب سياسية تتلخص في نهاية الاعتقاد بقيم الامتياز الاجتماعي وفي انتشار المساواتية: فالتجنيد والتعليم العمومي اللذان أصبحا شأنا من شؤون الدولة، والمطالبة بالمساواة أمام الأعباء العسكرية والوظائف المدنية (فلكل واحد حسب عمله، أو آثاره، أو جداراته) هي الأساس الواقعي، ولو أنه لا يدرك في معظم الأحيان، لظاهرة خاصة بالمجتمعات الحديثة، أي الممارسة المعممة للخبرة المتخصصة بالمعنى الواسع، كتحديد للكفاءة وكشف عن التظاهر والتصنع.
غير أن ما يميز، في نظرنا، علم نفس السلوكات هذا، بالعلاقة مع الأنواع الأخرى من الدراسات السيكولوجية، هو عجزه الجوهري عن إدراك وإظهار مشروعه المؤسس له بكامل الوضوح. فإذا كانت من بين المشاريع المؤسسة لبعض الأنواع السابقة من علم النفس، مشاريع يمكن اعتبارها تصورات فلسفية معكوسة، فإن هنا، بالمقابل، وكل علاقة بأية نظرية فلسفية مرفوضة، تطرح مسألة معرفة من أين يمكن لمثل هذا البحث السيكولوجي أن يستمد معناه. فبقبولها أن تصير علما موضوعيا بالكفاءات وردود الأفعال والسلوكات، تنسى هذه السيكولوجيا وهؤلاء السيكولوجيون كليا أن يحددوا سلوكهم الخاص بالعلاقة مع الظروف التاريخية والأوساط الاجتماعية التي هم مدعوون فيها إلى اقتراح مناهجهم أو تقنياتهم وإلى جعل خدماتهم مقبولة.
لقد كتب نيتشه، وهو يلخص نفسية عالم النفس في القرن 19، يقول: “إننا نحن، علماء نفس المستقبل(…)، نعتبر الأداة التي تريد أن تعرف ذاتها. كعلامة على انحطاط النوع تقريبا. فنحن أدوات المعرفة ونود أن تكون لنا كل سذاجة ودقة الأداة، وإذن يجب علينا ألا نحلل أنفسنا، وأن نعرف أنفسنا”([6]). فيا له من سوء فهم مدهش، وكم هو كاشف! فعلم النفس لا يريد أن يكون إلا أداة، ولكن دون أن يبحث عن معرفة لمن هو أداة أو لماذا.
غير أن نيتشه كان قد بدا أكثر نباهة في بداية جينيالوجيا الأخلاق، عندما انكب على اللغز الذي يمثله السيكولوجيون الإنجليز، أي النفعيون، اللذين انشغلوا بنشأة العواطف الأخلاقية. ولقد كان يتساءل عما دفع علماء النفس في اتجاه الاستخفاف، في تفسير السلوكات البشرية بالمصلحة والمنفعة، وبنسيان هذه الدوافع الأساسية. وهاهو نيتشه، أمام تصرف سيكولوجيي القرن 19، يتخلى عن كل ازدراء مؤقتا، أي عن كل جلاء ووضوح!
إن فكرة المنفعة، كمبدأ لعلم النفس، تعود إلى الوعي الفلسفي بالطبيعة البشرية كقوة حيلة وصناعة (هيوم، بيرك (Burke))، أو بكيفية أكثر ابتذالا إلى تعريف الإنسان كصانع للأدوات (الموسوعيون، أدم سميت…). بيد أن علم النفس البيولوجي للسلوك لا يظهر بأنه قد تمكن من التخلص، بنفس الشكل، من وعي فلسفي صريح، بدون شك لأنه لا يمكنه أن يشتغل إلا إذا ظل غير معبر عنه. إن هذا المبدأ هو تعريف الإنسان نفسه كأداة. فبعد النفعية المتضمنة لفكرة المنفعة بالنسبة للإنسان، ولفكرة الإنسان كحكم على المنفعة، أتت الأداتية المتضمنة لفكرة منفعة الإنسان وفكرة الإنسان كوسيلة للمنفعة. والذكاء لم يعد هو ما يخلق الأعضاء ويخدمها، وإنما صار هو ما يخدم الأعضاء. ولعله ليس بلا عاقبة أن الأصول التاريخية لعلم نفس الاستجابة ينبغي أن يتم البحث عنها في الأعمال التي أثارها اكتشاف المعادلة الشخصية الخاصة بالفلكيين المستخدمين للمنظار (ماسكيلين Maskelyne، 1796). فلقد تمت دراسة الإنسان أولا كأداة للأداة العلمية قبل أن يدرس كأداة لكل أداة.
فالأبحاث حول قوانين التكيف والتعلم، وحول علاقة التعلم بالمهارات، وحول الكشف عن القدرات وقياسها، وحول شروط المردودية والإنتاجية (سواء تعلق الأمر بالأفراد أو بالجماعات) –وهي أبحاث لا تنفصل عن تطبيقاتها على الانتقاء أو التوجيه- تقبل بمسلمة ضمنية مشتركة: تتمثل في أن طبيعة الإنسان هي أن يكون أداة، وأن قدره هو أن يوضع في مكانه، وفي دوره ومهمته.
وبطبيعة الحال، فإن لنيتشه الحق في القول بأن علماء النفس يريدون أن يكونوا “الأدوات الساذجة والدقيقة” لهذه الدراسة عن الإنسان. فلقد اجتهدوا للوصول إلى معرفة موضوعية، حتى ولو كانت الحتمية التي يبحثون عنها في السلوكات لم تعد اليوم هي الحتمية على الشاكلة النيوتونية، التي كانت مألوفة لدى أوائل فيزيائيي القرن 19، وإنما بالأحرى حتمية إحصائية أقاموها تدريجيا على نتائج قياس ديمومة الحياة. ولكن ما هو معنى هذه الأداتية؟ ما الذي يدفع أو يغري علماء النفس بأن يجعلوا من أنفسهم، من بين الناس، أدوات طموح للتعامل مع الإنسان كأداة؟
في الأنواع الأخرى من علم النفس، تشكل النفس أو الذات، الشكل الطبيعي أو الشعور بالداخلية، المبدأ الذي يطرح لتبرير فكرة معينة عن الإنسان قيميا بالعلاقة مع حقيقة الأشياء. ولكن، بالنسبة لعلم نفس تنفر فيه كلمة نفس، وتضحك فيه كلمة شعور، فإن حقيقة الإنسان تعطى في كون أنه لم تعد هناك فكرة عن الإنسان بما هي قيمة مختلفة عن قيمة الأداة. والحال أنه يجب الاعتراف بأنه لكي يتعلق الأمر بفكرة أداة، فإنه ينبغي ألا توضع كل فكرة في مستوى الأداة، وإنه لمنح قيمة ما إلى أداة، فإنه يجب بالذات ألا تكون كل قيمة هي قيمة أداة تتعلق قيمتها التابعة بتوفير قيمة أخرى. وإذن، فإذا كان عالم النفس لا يستمد مشروع علمه من فكرة عن الإنسان، فهل يعتقد أن بإمكانه أن يجد له مشروعيته بسلوكه لاستعمال الإنسان؟ إننا نقول: بسلوكه لاستعمال، رغم اعتراضين ممكنين. وبالفعل، يمكن أن يلاحظ علينا من جهة بأن هذا الصنف من علم النفس لا يجعل التمييز بين النظرية والتطبيق، ومن جهة أخرى بأن الاستعمال ليس من صنيع عالم النفس، وإنما من صنيع الذي يطلب منه أو أولئك الذين يطلبون منه تقارير أو تشخيصات مرضية. ونحن نجيب على ذلك بأنه، عدا الخلط بين منظر علم النفس وأستاذ علم النفس، يجب الاعتراف بأن عالم النفس المعاصر هو، في غالب الأحيان، ممارس محترف يقوم “علمه” كله على البحث عن “قوانين” للتكيف مع وسط اجتماعي –تقني- وليس مع وسط طبيعي مما يمنح دوما لعملياته في “القياس” دلالة تقدير ومدى خبرة. بحيث أن سلوك عالم نفس السلوك البشري يتضمن إجباريا اقتناعا بالتفوق، ووعيا موجها راضيا، وعقلية مدير تسيير لعلاقة الإنسان بالإنسان. ولهذا السبب، يجب أن نأتي إلى السؤال الوقح: ما الذي يعين علماء النفس كأدوات للأدواتية؟ في ماذا وبماذا نتعرف، من بين الناس، على أولئك الذين يستحقون أن يعينوا للإنسان-الأداة دوره ووظيفته؟ ومن يوجه الموجهين؟
إننا لا نضع أنفسنا، بطبيعة الحال، في حقل القدرات التقنية. فأن يكون ثمة نفسانيون جيدون أو رديئون، أي تقنيون مهرة بعد التعلم أو أشرارا بغباوة لم يعاقب عليها القانون، فليست هذه هي المسألة. أما المسألة، فهي أن علما أو تقنية علمية لا يحتويان بذاتهما على أية فكرة تمنحهما معناهما. ففي كتابه مدخل إلى علم النفس مارس بول غيوم (Paul Guillaume) سيكولوجية الإنسان الخاضع لامتحان الاختبار. ولقد قام المختبر ضد هذا البحث لأنه خشي من أن فعلا ما يمارس عليه. ولقد رأى غيوم في هذا الموقف اعترافا ضمنيا بفعالية الاختبار. ولكن يمكننا أن نرى فيه أيضا البدايات الجنينية لنفسية المختبر. فاعتراض المختبر هو الاشمئزاز من أن يرى نفسه وهو يتعامل معه كحشرة، من طرف إنسان لا يعترف بأية سلطة تقول له من هو وماذا عليه أن يفعل. “التعامل مع الإنسان كحشرة”، إن العبارة لستاندال (Sthendal) الذي يستعيرها من كوفيي (G.Cuvier). وماذا لو تعاملنا مع عالم النفس كحشرة، وإذا طبقنا توصية ستاندال، مثلا، على كينسي (Kinsey) الكئيب التافه؟
وبتعبير آخر، فإن سيكولوجية الاستجابة والسلوك اعتقدت، في القرن 19 والقرن 20، بأنها تمكنت من أن تصير مستقلة بالانفصال عن كل فلسفة، أي عن التأمل الذي يبحث عن فكرة للإنسان بالنظر فيما وراء المعطيات البيولوجية والسوسيولوجية. غير أن هذه السيكولوجيا لا يمكنها أن تتجنب انعكاس نتائجها على سلوك أولئك الذين يحصلون عليها.
ولذلك، فإن السؤال “ما هو علم النفس؟” سيصبح، بالحد الذي يحرم فيه على الفلسفة أن تبحث له عن جواب، “إلى أي شيء يريد أن يصل علماء النفس عندما يفعلون ما يفعلون؟ وباسم ماذا نصبوا أنفسهم علماء للنفس؟”(…) فللانتقاء منتق، ينبغي عادة تجاوز صعيد الإجراءات التقنية للانتقاء. وفي السيكولوجيا العلمية، يبقى السؤال مطروحا: فمن له، ليس الكفاءة، وإنما مهمة أن يكون عالم نفس؟ إن علم النفس ينهض دائما على ازدواجية، ولكنها لم تعد ازدواجية الشعور حسب الوقائع والمعايير التي تتضمنها فكرة الإنسان، وإنما ازدواجية كتلة من “الذوات” ونخبة مهنية من المختصين يمنحون لأنفسهم مهمتهم الخاصة.
لقد كان علم النفس، عند كانط وعند مين دوبيرون، يتعين داخل “أنثروبولوجيا”، أي رغم الالتباس المنتشر اليوم عن هذا اللفظ، داخل فلسفة. فعند كانط، تبقى النظرية العامة في المهارة البشرية في علاقة مع نظرية في الحكمة. أما علم النفس الأدواتي، فإنه يقدم ذاته كنظرية عامة في المهارة، خارج كل إحالة على الحكمة. فإذا لم نستطع تعريف هذه السيكولوجيا بالنظر إلى فكرة عن الإنسان، بمعنى تعيين علم النفس في الفلسفة، فإنه لا سلطة لنا بطبيعة الحال بأن نمنع أيا كان من أن يسمي نفسه عالما نفسانيا وأن ندعو علما للنفس ما يفعله. ولكن لا أحد يمكنه أن يمنع الفلسفة من الاستمرار في التساؤل عن الوضع الغير محدد لعلم النفس، غير محدد من جهة العلوم كما من جهة التقنيات. وبذلك، فإن الفلسفة تتصرف بسذاجتها المشكلة لها، والتي هي قليلة الشبه بالبلاهة إلى حد أنها لا تقصي وقاحة مؤقتة، تقودها مرة أخرى، إلى الالتفات صوب الجانب الشعبي، أي الجانب الطبيعي لغير الاختصاصيين.
وإذن، فإن الفلسفة تطرح، بشكل عامي جدا، على علم النفس السؤال: قل لي نحو ماذا تنزع لأعرف من أنت؟ إلا أن الفيلسوف يمكنه أيضا أن يتوجه إلى عالم النفس في شكل نصيحة اتجاه –والنادر لا حكم له- ويقول: عندما نخرج من السوربون من شارع سان-جاك، فإنه يمكننا أن نصعد أو ننزل. فإذا مشينا صعودا، فإننا سنقترب من البانتييون (Panthéon) الذي هو مكان يحفظ ذكرى بعض كبار الرجال، ولكن إذا مشينا نزولا، فإننا سنتجه حتما نحو مركز الشرطةn