حكايات مجنون ليلى وجميل بثينة: هل هي قصص حب حقيقية أم مجرد خيال؟ – أحمد عبد العال رشيدي
ما بين الحقيقة والخيال، يتأرجح بعض الشعراء العذريين، مثل قيس بن الملوح “مجنون ليلى”، وقيس بن ذريح وعروة بن حزام، وجميل بثينة… كل هؤلاء شعراء ذاع صيتهم ليس بفضل أنهم شعراء فقط، بل لأنهم انتهجوا طريقة في الحب.
ما ميزهم من غيرهم من الشعراء، أنهم كانوا من الموحدين بالحب، أي أن كلاً منهم ارتبط بمحبوبة واحدة طوال حياته. فالتمسوا الحب في السماء. ورغم شهرتهم أنكر وجودهم طه حسين، وأكد أن الرواة اخترعوا تلك الشخصيات اختراعاً من وحي الخيال، ليلهوا بها الناس ولتمثيل فكرة ما.
قيس بن الملوح “مجنون ليلى”
هو أحد فرسان العشق الذين يزخر بهم التراث العربي، وأكثر الرواة في نقل أخباره وأشعاره التي تدور كلها حول محبوبته «ليلى». لكنه رغم كل ذلك تحوم حوله الكثير من الشكوك، حول نسبه، وبعض أشعاره، وقصة حبه لـ«ليلى» وحتى اسمه.
لكن الأرجح، بحسب الرواة، أنه من بني عذرة ومن أشهر شعراء الغزل «العذريين» ليس نسبة لبني عذرة، وإنما لأنه التمس الحب في السماء، كعادة الشعراء العذريين، الذين يرتبط كل منهم بمحبوبة واحدة طوال حياته.
يختلف الرواة حول وجود قيس، الثقات منهم ينكرونه، فهو «قيس» عند بعضهم، و«مهدي» عند بعضهم الآخر و«الأقرع» عند فريق ثالث، و«البحتري» عند فريق رابع. وكل تلك الراويات المتضاربة ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» بجزئيه الثالث والرابع. وذكر أن الرواة بالغوا في إنكار وجود قيس، حتى زعموا أن بني عامر أغلظ أكباداً من أن يعبث بهم الحب إلى هذا الحد، إنما ذلك شأن اليمانية الضعيفة قلوبهم.
اشتهر قيس بحبه لفتاة تدعى «ليلى» والمبالغة الشديدة في التأثر بحبها، حتى اقترن اسمه بها فسمّاه الناس «مجنون ليلى».
وقد أنكر طه حسين وجوده نهائيّاً، وكثف بحثه حول إثبات أنه من الشخصيات التي اخترعها الرواة اختراعاً، ونسجوا حوله من الحكايات المثيرة الجذابة، ما جعل أخباره، خصوصاً المتعلقة بليلى، محل اهتمام العامة. فقال في كتابه حديث الأربعاء: “وأزعم أن قيس بن الملوح إنما هو شخص من هؤلاء الأشخاص الخياليين، الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، أو نحو خاص من أنحاء الحياة، بل ربما لم يكن قيس بن الملوح شخصاً شعبياً كجحا، إنما كان شخصاً اخترعه نفر من الرواة، وأصحاب القصص، ليلهوا به الناس أو ليرضوا به حاجة أدبية أو خلقية”.
ويضيف: “ماذا تقول في رجل لا يتفق الناس على اسمه، ولا على نسبه، ولا على الخطوب التي امتلأت بها حياته؟! إنما يختلفون في ذلك الاختلاف كله! بل ماذا تقول في رجل لا يتفق الرواة على أنه وجد، ولا يروون عنه ما يضاف إليه من الأخبار إلَّا متحفظين؟ بل ماذا تقول في رجل يريد أبو الفرج الأصفهاني أن يروي أخباره لأن شروط كتابه «الأغاني» تضطره إلى ذلك، فيعلن ويبالغ في الإعلان أنه يخرج من عهدة هذه الأخبار ويتبرأ منها، ويضيف هذه العهدة إلى الرواة الذين ينقل عنهم، وأنت تعلم أن رواة العرب «رواة القصص والسير» لم يكونوا يتشددون في الاحتياط، ولا يبالغون في الحذر. وكثيراً ما كانوا يروون غير الصحيح ويثبتون غير الحق. فإذا كانوا على هذا الإهمال والضعف، ينكرون وجود قيس أو يشكّون فيه ولا يتفقون على اسمه وصفته وظروف حياته، أفلا يكون من الحق علينا أن نتحفظ كما تحفظوا، ونشك على نحو ما شكوا؟”.
قيس بن ذريح ولبنى
رغم أن قصة حبه هي الأقرب إلى الواقع، بما امتازت به من جودة الحبكة ومنطقية الأحداث، وبُعدها تماماً عن السخافة والسذاجة، اللتين اعتريا قصة المجنون وجميل وعروة وغيرهم، إلَ أن طه حسين أحال تلك القصة أيضاً إلى اختراع الرواة، وشك في كثير من الشعر المنسوب إليه.
كان إنكار طه حسين قائماً على أسباب فنية أكثر منها تاريخية أو اجتماعية، فاتخذ شعره وسيلة لإنكار تلك القصص والحكايات، التي نسجها الرواة حول قيس بن ذريح وشعره. فيقول في كتابه حديث الأربعاء: “شعر العذريين جميل جيد، ولكن أخبارهم وقصصهم التي نسجت حول أشعارهم ليست شيئاً يذكر بالقياس إلى هذه الأشعار، فبينما تجد في هذه الأشعار من صدق اللهجة وحرارة العاطفة وحدة الشعور ما يملك عليك نفسك، لا تجد في هذه الأخبار التي تروى حول هذا الشعر إلَّا تكلفاً وتصنعاً وإسرافاً في المبالغة، وانتهاءً إلى السخف، فكيف تستطيع أن تفسر هذا؟”.
كان مذهب طه حسين حيال تلك القصص وهؤلاء الشخوص، يفيد بأن الشعر العذري صدر طبيعياً عن قوم كانوا يشعرون ويتألمون، وهذه القصص وضعت في ما بعد. وضعها رواة هادئون، لم يجدوا في أنفسهم ما كان يجد هؤلاء الشعراء من لوعة وأسى وألم وحسرة.
لكننا نرى أن قصة قيس بن ذريح ولبنى، ليس من اليسير تكذيبها مثل بقية القصص الغرامية الأخرى من العصر الأموي، فأحداثها أكثر واقعية، وليس فيها ما يجافي المنطق ويستخف بالعقل. وربما دفعت الخرافات، التي عجت بها القصص الأخرى، طه حسين، إلى تعميم الحكم على القصص الغرامية، التي تدور حول شعراء عذريين، فحكم عليها حكماً واحداً.
جميل بثينة
ربما اتفق طه حسين على وجود جميل بن معمر كشخص، لكنه لم يتوان عن إنكار «جميل بثينة». بمعنى أنه أنكر قصة جميل وبثينة، وأحالها إلى ضروب من الوهم والخيال، والزيف والخداع، وقد اتخذها الرواة مذهباً يكتسبون منه الكثير من المال.
لم تخلُ قصة جميل مع بثينة من تلك المواقف الغريبة، التي تحتاج إلى حظ وافر من السذاجة لدى العامة، لتصديقها على نحو ما ذكرها الرواة.
ونفى طه حسين الحب العذري عن جميل بثينة، إذ ذكر أنه كيف لمن يتلمس الحب في السماء ويطمح إلى المثل الأعلى في تمثيل العاطفة الإنسانية، أن يتصف بالغدر والأنانية؟ إذ زعم الرواة أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلاً لا ينسب بابنتهم، أي لا يقصدها بشعر، إنما ينسب بأَمَة لهم. فغضب جميل وأراد أن يكذب هذا الزعم، ولو على حساب فضيحة محبوبته والطعن في حبه المثالي العذري. واعد بثينة والتقيا، وتحدثا حتى آخر الليل، فعرض عليها أن تضجع، فامتنعت ثم قبلت. فاضجعت وأخذها النوم، ولما استوثق جميل من ذلك، نهض إلى راحلته ومضى. فرأى الناس بثينة نائمة في غير بيتها، فتأكدوا أنها كانت مع جميل، خصوصاً حين قال جميل في ذلك شعراً. فكيف تتفق تلك الحوادث مع ما يدعيه جميل من تصوف ومثالية وروحانيات في شعره؟ وكيف يصدران عن شخص واحد؟
ومن هذا المنطق أنكر طه حسين قصة الحب المشهورة بجميل وبثينة.
وضاح اليمن
لم يكن وضاح اليمن من العذريين الذين أنكرهم طه حسين مع اختلاف في الدرجة، لكنه، بالنسبة إليه، ليس من الشعراء الذين يسهل الاطمئنان إلى وجودهم، خصوصاً إذا وجدنا الرواة يختلفون في نسبه. فمنهم من يدعي أنه عربي حميري، ومنهم من يزعم أنه من سلالة الفرس، الذين جاؤوا اليمن مع سيف بن ذي يزن ليردوا عنها غارة الحبشة، ومنهم من حاول التوفيق بين الروايتين، فيزعم أنه عربي، لكن أباه مات عنه طفلاً، فتزوجت أمه رجلاً من سلالة هؤلاء الفرس، الذين كانوا يسمون «الأبناء» وشب الطفل في منزل هذا الفارسي، وكانت حول الغلام خصومة رفعت إلى المحاكم فقضي للعربي على الفارسي.
ومما جاء في سيرته، أنه حين كان في دمشق متصلاً بقصر الوليد بن عبد الملك، تلقى كتاباً من اليمن فيه نعي أبيه وأخيه، فرثاهما بقصيدة طويلة ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني». إذن، لم يمت عنه أبوه وهو طفل، إنما مات عنه وهو رجل في عنفوان قوته، سما به المجد حتى اتصل بقصور الخلفاء. وكما اختلفوا في نسبه وسيرته وأخباره اختلفوا أيضاً في أمر عشيقته الأولى، أفارسية هي أم عربية؟
يرجح طه حسين أن اليمانية اخترعوا تلك الشخصية، حتى لا يقال إنها خلت من شاعر غزل في الإسلام، فكان الغزليون كلهم أو أكثرهم مضريين، وكانت العصبية بين المضرية واليمانية قد بلغ أمرها. فكانت المضرية لا تفتخر إلا حاولت اليمانية أن تفتخر بمثله أو بما هو أفضل منه، وقد افتخرت المضرية بالغزليين من شعرائها في الإسلام.
وكان المعهود أن الغزل يماني، لأن امرؤ القيس هو الذي مهد طريقه في الجاهلية. فلم يكن من اليسير على اليمانية التسليم بهذا الخذلان، والاعتراف أن المضرية قد تفوقت عليها في الشعر، واغتصبت مجدها منها اغتصاباً في غير حق، ولا وراثة. وليس وضاح اليمن إلَّا تجربة من هؤلاء الشعراء الذين كان اليمانية يخترعونهم اختراعاً في القرن الثاني للهجرة ليفاخروا بهم المضريين.
واتخذ طه حسين من إسراف شعر وضاح اليمن في اللين والابتذال دليلاً قاطعاً على أن أكثره منحول مصنوع لم يقله وضاح، ولم يعلق عن أمره شيئاً، إما أن صاحبه لم يوجد من الأساس. فغالبه سهل مسرف في السهولة، فيه تكلف منكر قد يخرجه أحياناً عن أصول النحو، ولا يخلو من تكلف آخر في القافية، وكل تلك الخصال لم تكن تظهر بشعر الشعراء الأولين.
فإذا تناولت إحدى قصائده بالقراءة، لن تصدق أنها صدرت عن شاعر مات قبل نهاية القرن الأول للهجرة، وكفى أن نذكر هذين البيتين:
حتام نكتم حزننا حتاما وعلام نستبقى الدموع علاما
إن الذي بي قد تفاقم واعتلى ونما وزاد وأورث الأسقاما
عاش وضاح اليمن في القرن الأول للهجرة، واشتهر بأنه مخترع فن الشعر التمثيلي فقط، ولأنه أدخل الحوار في إحدى قصائده، وقد أعجب الحاكم بجماله فمسح على رأسه وقال له: «أنت وضاح اليمن» فغلب عليه هذا اللقب.
إذا كان إنكار هؤلاء الشعراء قد أخل بالمجد الأدبي العربي، فإن طه حسين لم ينكرهم هباءً. فقد تعوض عنهم بفن جديد أضافه إلى فنون الأدب، هو «فن القصص الغرامي». نعم لا نملك أشخاص «المجنون وابن ذريح وعروة وجميل»، لكننا نملك قصصاً باسم «مجنون ليلى، قيس بن ذريح ولبنى، جميل بثينة، وعروة وعفراء».